منشور
الخميس 3 أغسطس 2023
- آخر تحديث
الخميس 3 أغسطس 2023
عندما قررت إعادة قراءة روايات وقصص إدريس علي، وقعت في حيرة، فالمعتاد عند الكتابة عن روائي، التسلح بمسار ومنهج محدد، لكن إدريس أبى، فقد كانت فطرته أقوى من المناهج التقليدية، وهي التي منحت أعماله طزاجًة وحلاوة تتحدى الزمن، ولا يهزمها التقادم، بل تهزمه وتفرض وجودها في كل يوم، وكلما مضى الوقت أضاءت وأمتعت أرواح من يقرؤونها.
يجد قارئ مشروع إدريس علي خبراته الحياتية واضحة، وهي ما نهل منها قصصه ورواياته، فاستطاع أن يجعل وهج التجربة مصدر المتعة، معتمدًا الصدق الفني الذي سبقه إليه مكسيم جوركي، ذلك الروائي الروسي الذي أغرى الكاتب النوبي بحب الأدب قراءة وكتابة، وكان لقاؤه الأول به في شبابه الباكر، لما عمل خادمًا بمنزل عائلة غنية مثقفة، تحمل ربتها روحًا تقدمية، فشجعت الخادم النوبي على قراءة جوركي، وديستويفسكي، وتولستوي، وبمرور الزمن خلقت الظروف من الخادم المتعلم تعليمًا بسيطًا جوركي مصري.
كان إدريس واعيًا بمأزق التناقض العرقي والثقافي داخل الجنوب المصري الذي تسكنه قبائل عربية وأخرى نوبية
فكما كتب جوركي الروسي حياته وذاته وطبقته الفقيرة في أعماله "الأم، طفولتي، جامعاتي"، كتب علي حياته في القاهرة وأسوان وليبيا والصحارى المصرية وجبال اليمن، وهي حياة "الشغيلة"، التي عرفها بحكم عمله في مصنع أدوية، ومكتب خدمات فنية، وجندي في سلاح الحدود بالجيش المصري، الذي التحق به متطوعًا (وهو نظام احترافي اختياري يختلف عن التجنيد الإجباري المحدد المدة)، وفي سنوات خدمته في سلاح الحدود، أتيح له اكتشاف المنظومة السرية التي تحكم العلاقة بين الجنود والمتطوعين "ضباط الصف"، والضباط أبناء الطبقة الغنية.
اسمه عثمان
البطل الذي يُميز روايات وقصص إدريس علي له ملامح خاصة، فهو مثقف وقارئ لكنه لا يحمل شهادة جامعية، وفي الوقت ذاته يعمل بيديه، ويتلقى الأوامر من رؤساء أقل منه ثقافًة ووعيًا، ويسكن في حي فقير، ويبيع قوة عمله في حي غني، ويؤمن بالدين ويحترم العقل والإرادة الإنسانية، في محيط اجتماعي يؤمن بالغيبيات على طريقة الدراويش. وهذا البطل يعاني التمزق بسبب انتمائه للجنوب، بالمعنى الجغرافي والثقافي والطبقي، ومطلوب منه النجاح والتفوق في الشمال، الذي يعني المدينة الكبيرة المتشابكة العلاقات، المليئة باللصوص والمخادعين والماكرين، الذين يسخرون منه، ويسرقون عرقه، ويتخذونه مادة للفكاهة.
ولدى البطل النوبيّ العرق والثقافة، مأساة خاصة، فهو في نظر أهل الشمال اسمه عثمان، ويتكلم بلغة عربية مهشمة، ومهنته حارس عقار أو خادم في منزل، ولأنه بطل مثقف يتألم كثيرًا ويضطر للشرح والتوضيح للجهلة من أبناء الشمال، ويسعى لتفسير تلك الصورة الذهنية المستمدة من أفلام السينما المصرية التي أنتجت في سنوات الأربعينيات والخمسينيات، ويظهر فيها النوبي الأسمر يحمل الصواني ويخاطب السيدة الغنية بقوله "ياستو هانم"، ويخاطب الذكور "سيدي الباشا الكبير، سيدي البيه الصغير".
في الوقت نفسه كان الكاتب الراحل واعيًا بمأزق التناقض العرقي والثقافي داخل الجنوب المصري، الذي تسكنه قبائل عربية وأخرى نوبية، فجعل روح الجنوب تستوعب القهر الواقع على تلك القبائل كلها بحكم نقص مواردها المالية وفقرها، الذي يضطرها للعمل في المهن الوضيعة والمحتقرة في نظر أهل الشمال، فقدم شخصية قناوي الصعيدي الشهم في روايته انفجار جمجمة، حتى لا تكون معركة عرقية وهي في الأصل، حسب رؤيته، معركة طبقية بين فقراء وأغنياء، ولم يكتف بهذا، بل شرح مأساة فقراء الشمال الذين يعيشون في عشوائيات القاهرة، مثل شخصية أم غادة، في رواية اللعب فوق جبال النوبة فهي من أسرة فقيرة، تعيش في ظروف قاسية، جعلتها تقوم بتزويج بناتها لكل قادر.
كانت أم غادة متزوجة من نوبي يعمل في مهنة سمحت له بامتلاك القدرة على الزواج خارج الجماعة النوبية، والزوجة تتمتع بأنوثة وافرة، وقدرة على إمتاع الرجل، لكن الغيرة القاتلة جعلته يمارس عليها دور السجان فانتحرت حرقًا، بعد أن ضاقت بقسوته وقهره. في تلك الرواية ثمة نقد للجماعة والثقافة النوبية التي تمنح الذكر حق الزواج من خارج النوبة وتحرم الأنثى من ذلك.
حكايات المؤرخ الشعبي
من المعروف أن الرواية والتاريخ بينهما روابط قوية، وقوة هذه الروابط ظاهرة في مشروع إدريس علي لدرجة تجعل البطل أو الراوي مؤرخًا شعبيًا، يكشف التدليس والكذب الذي يمارسه المؤرخ الرسمي.
على سبيل المثال، من يقرأ قصة المبعدون المنشورة ضمن مجموعة قصص حملت الاسم ذاته، يرى الفقر والذل والإذلال الذي يعانيه المواطنون المصريون الهاربون من القرى المصرية نحو ليبيا النفطية في السبعينيات من القرن الماضي، ويرى الممارسات القاهرة لهؤلاء، من جانب عساكر الحدود في الجانب الليبي، رغم أن الإعلام السلطوي المصري والليبي كان يبث خطابًا ورديًا يتكلم عن الوحدة والأخوة العربيين، وكانت إذاعة صوت العرب المصرية تتكلم عن "وحدة الوطن والمصير"، و"قومية المعركة"، بين العرب وإسرائيل العدو الذي لا يريد للعرب أن يتحدوا وينهضوا.
ظل إدريس علي، على موقفه الثابت مبدعًا مدافعًا عن الحرية حتى مات
وفي رواية مشاهد من قلب الجحيم استخدام مباشر للتواريخ ذات الدلالة القومية والأعوام التي شهدت تحولات قومية ووطنية مثل هزيمة 5 يونيو/ حزيران 1967، وحرب اليمن، وتقديم تقارير شعبية تُناقض وتفضح التقارير والروايات الرسمية، فالراوي كان ضمن ضباط الصف في نقطة حدودية بالقرب من قناة السويس، ورأى هروب القادة من الميدان، وعرف من مصدر عسكري خبر تدمير طائرات سلاح الجو المصري، في الوقت الذي كانت فيه الإذاعة تُضلل الشعبين المصري والعربي، وتوهمهما بأن الجيش المصري زاحف في اتجاه إسرائيل، وأنه أصبح على أبواب تل أبيب.
وتكرر المشهد مرة ثانية، عندما نجحت إسرائيل في أكتوبر/تشرين الأول 1973، في عرقلة القوات المصرية وقامت بهجوم مضاد في ثغرة الدفرسوار، ووجد بطل الرواية نفسه في مواجهة "الدروشة"، التي نسبت عبور القناة للملائكة الذين هبطوا من السماء، ومواجهة التضليل الإعلامي للجماهير بالتقليل من أهمية الهجوم الإسرائيلي المضاد، بل إن عمال وموظفي الشركة اتهموا البطل في الراوية بالخيانة والكفر، لأنه ذكر الحقائق عارية، وعظم دور الجنود المصريين الذين عبروا القناة، ونفى مشاركة الملائكة في العبور.
أما في رواية تحت خط الفقر فقام الراوي أو المؤرخ الشعبي برسم صورة غير التي وردت في كتب المؤرخين عن حادث حريق القاهرة في 26 يناير/كانون الثاني 1952، فظهر أهالي حي بولاق مصر وهو يسرقون أثواب القماش والأدوات المنزلية من المحال التجارية التي كانت تحترق، وقدم صورة للفقر الذي كان أهل النوبة القديمة يعانون منه، رغم وجود روايات نوبية أخرى تؤكد أن النوبة القديمة كانت تنعم بالخير الوفير وتنام آمنة في حضن النهر.
كانت مهمة المؤرخ الشعبي حاضرة في رواياته عما جرى في حرب اليمن، التي كان إدريس مشاركًا فيها بحكم عمله العسكري كرقيب بسلاح الحدود، فقدم صورة من أرض المعارك تُخالف ما روجه نظام عبد الناصر، وكانت رواية الزعيم يحلق شعره، آخر عمل روائي كشف فيه الروائي الراحل حالة القمع والاستبداد التي مارسها نظام معمر القذافي ضد الشعب الليبي منذ انقلاب الفاتح من سبتمبر/أيلول 1969، ومُنعت الرواية من العرض في معرض القاهرة للكتاب، وعُوقب الناشر من قبل السلطات المصرية لإقدامه على نشر النص الذي أزعج الزعيم.
رغم ذلك ظل إدريس علي، على موقفه الثابت مبدعًا مدافعًا عن الحرية حتى رحل عن الدنيا في عام 2010 عن عمر ناهز السبعين عامًا، بعد أن قضى سنوات قاسية رقدها في بيته مريضًا منعزلًا عن الناس في عزلة اختيارية.