
شمعة بالقرب من منجز محمد عبد النبي
ليس أسهل، ولا أسخف، من الميلودراما. يحلو للجميع لَعْن الظلام. البكائيات مجانية، أما إضاءة شمعة فأمرٌ مكلّف. طوال نحو أربعة عقود، حاولتُ قدرَ الاستطاعة إيقاد شموع ونيران. واليوم أضيء شمعة بالقرب من منجز محمد عبد النبي.
لا تخلو عادة من إعادة، لا مفرّ من الوفاء لميراث يُغلّب بعثرة شيءٍ من الحصى والغبار في وجوه تستحق الحجارة. يحلو لأصحاب هذه الوجوه التشدّق الجهول بجفاف نهر الإبداع، يحفظون مأثورات عمرها سبعون سنة عن امتياز نجيب محفوظ ويوسف إدريس، بعد ثنائية طه حسين وعباس العقاد، وينسون صائغ اللؤلؤ يحيى حقي.
بقايا حصى وغبار
مصر الآن لا تملك ما تقدمه إلى العالم إلا الإبداع، وهو مهمّ وكثير. واليوم أستشهد فقط بمحمد عبد النبي، فما الحيلة ولا يزال في يدي حصى وغبار، بقايا لا أودّ التخلص منها في الفراغ، حرام، بعضهم يستحقها. هؤلاء الكسالى عميان ينكرون الشمس، البعض يستسهل مرجعية جيل الستينيات، وفي مصر الآن من هم أكثر عددًا وأغزر إنتاجًا من ذلك الجيل، التنظيم الحديدي. عرفتهم، لا أحد منهم يحب الآخرين وإن ادّعى ذلك. لكنهم ينقضُّون على من ينتقد عضوًا في "النادي الستيني". هناك نبلاء استثنائيون يؤكدون القاعدة: محمد روميش وعلاء الديب وبهاء طاهر وصنع الله إبراهيم.
أستطيع الآن تقديم تلخيص غير مخلّ تمامًا لذلك الجيل: أعذب جملة ليحيى الطاهر عبد الله. أدفأ جملة لعبد الحكيم قاسم. أعمق جملة لبهاء طاهر. أَحَدُّ جملةٍ وأعراها لصنع الله إبراهيم. ما أفاد هذا الجيل أنه نشأ في صحبة نقاده، مع رعاية الآباء: يحيى حقي ومحمود أمين العالم وشكري عياد وعلي الراعي وعبد المحسن طه بدر. ومن نقاد الستينيات إبراهيم فتحي وفاروق عبد القادر وغالي شكري ورجاء النقاش وصبري حافظ وفريدة النقاش. آمنوا برسالة النقد. تَحقُّقُهم عصمهم من الشعور بالدونية. لم ينقصهم شيء لتعويضه بمحاولات إبداعية مضحكة مارسها نقاد أجيال تالية؛ فلا ظلوا نقادًا، ولا صاروا شعراءً وروائيين. بعضهم عوَّض فقر النقد والإبداع بمحاولة الزعامة، بالوصاية والوعظ والإرشاد والإفتاء السياسي والثوري والمجتمعي، وأحيانًا الديني.
محمد عبد النبي يحترم ذكاء القارئ فيسجل مثلًا في بداية قصة "عبد الله الآخر" أن هذه قصة
لم تفرغ يدي تمامًا من الحصى، لكنْ لمحمد عبد النبي عليَّ حقٌّ لا يصح تأجيله بمقدمات تساعدني على الهروب من مشروع يحتاج إلى ناقد متخصص، ومعظم النقاد كسالى، أسنانهم هشّة، يهربون من أعمال كبيرة تكشف عوراتهم، ويكتفون بإعادة حكي قصص أعمال متوسطة القيمة. بعضهم لا يفرق في الحماسة بين نجيب محفوظ وروائيي الأكثر مبيعًا. هذه الكتب، مثل الأفلام التجارية، مطلوبة؛ تزيّت عجلة النشر، وتشجع الناشرين على احتمال أعباء الأعمال الكبيرة.
المهم، في الجوائز وفي لجان التحكيم، عدم الخلط. لا يُعقل أن يتجاور شادي عبد السلام، في لجنة، مع ناصر حسين وحسام الدين مصطفى. وحدث أن شاركت في عضوية لجنة، وتحمّست لمجموعة كان ياما كان لمحمد عبد النبي. كان في اللجنة بعض كتّاب الأكثر مبيعًا.
لكن محمد عبد النبي محظوظ بلجان أخرى، أكثر إنصافًا، منحته جوائزَ مستحقة في مصر وخارجها. وصلت روايتان إلى القائمة الطويلة لجائزة الرواية العربية (البوكر). وبلغت رواية في غرفة العنكبوت القائمة القصيرة، وفازت بجائزة ساويرس. ونال عبد النبي جائزة الدولة التشجيعية في الترجمة عام 2015. حصاد وافر من الاحترام والفلوس لا يواكبه نقدٌ محترم؛ لانشغال النقاد أو خوفهم من أعمال لا تحتمل الارتجال وتلخيص الحكايات.
على التوالي، في أسبوع واحد، قرأت لمحمد عبد النبي مجموعته القصصية الأخيرة سهرة درامية الصادرة عن دار المحروسة هذا العام. وروايته الأولى رجوع الشيخ؛ فأخرجت أعماله السابقة بين هذين القوسين لأعيد قراءتها. مستعيدًا جملة من مجموعته كان ياما كان: حدثتني نفسي بأن البلاغة غير مستحبة أمام أبواب موصدة.
أولى قراءاتي لمحمد عبد النبي كانت ترجمته الجميلة لرواية طارق علي ظلال شجرة الرمان. في الصفحات الأخيرة من "رجوع الشيخ" فكُّ اشتباك بين المبدع والمترجم، على لسان المترجم الشاب أحمد رجائي، الذي يتنافس مع سَميّه الشيخ أحمد رجائي، في رواية قد يكون عنوانها "رجوع الشيخ"، إذ يرى الترجمة عملًا يحبه، "وتعامل معه باعتباره رسالةً حقيقيةً، ولو لبعض الوقت. تعلم منه الكثير، وأعاد التعرف على الكلمات دون تورّط، دون مشاعر، دون أحلام كبرى. كلمات وكأنها اللاشيء ذاته. هو بريء، خارج اللعبة وداخلها في الوقت نفسه، يكتب ولكنه لا يؤلف. ينقل، ينسخ، يحرر، يعيد كتابة ما قاله أحدهم بلغةٍ أخرى، ويخرج نظيفًا من اللعب".
لا يخفى على القارئ المحترف ما وراء إبداع محمد عبد النبي من طبقات معرفية، ومهارة احترافية يجيد الأسطى إخفاءها، ولو كانت الرواية عن مشروع رواية، "فليس ثمة مكان أفضل لحفظ السر من رواية غير مكتملة"، كما يقول إيتالو كالفينو، وينبه إليه الكاتب الذي أنتهي من قصصه فلا تغادرني، أبطال بلا بطولة، يعيشون بيننا، وينفخ فيهم الروح، ربما ينتظرون فرصة أخرى للتجسّد في عمل تلفزيوني درامي يعيد للمسلسلات عمقها، شخصيات قصص "قطعة أويما" و"عزيز وبطة" و"معطف حمدي" جديرة بنظرة من صناع الدراما. هذا حق المشاهدين، وحق كاتبٍ حدودُ اجتهاده صفحة بيضاء، يتصارع في مساحتها مع اللغة، لإخفاء الصنعة.
كتابة ذكية ومونتاج ناعم
محمد عبد النبي يحترم ذكاء القارئ، فيسجل مثلًا في بداية قصة "عبد الله الآخر" أن هذه قصة، ويورد نصيحة لتشيخوف عن مسوّغات استخدام مفردات الدراما. نصيحة تشيخوف يعرفها بطل القصة عبد الله، خريج معهد السينما عام 2010. ثم يكرر الكاتب أنه بصدد قصة، وأنه في قصة أخرى سيختلف مصير بطلها عبد الله. الكاتب يكسر الإيهام الذي عرّفه في "رجوع الشيخ" بأنه "اختراق حاجز الحكاية".
الجرأة هنا مغامرة تشبه ثقة شجيع في ساحة، يستعرض مهاراته، ويأمر متفرجين مجهولين بتقييده، وتتأكد له قدرته على فكّ القيود؛ لأن الفشل يوجب السخرية، واعتزال العمل القائم على الإدهاش والعلانية. ولا تتوسل قصة "عبد الله الآخر" بمخطوطات عثر عليها، ولا وثيقة تركها جندي قبل قتله في حرب، ولا رسالة عابرة للأزمنة أودعها بحار في زجاجة قبل غرق السفينة.
عبد الله يوقن بوجود "نسخ أخرى منه في أكوان متوازية"، أحدهم ظهر له فسمّاه عبد الله البحري، باعتبار الأصلي هو عبد الله البري. في لحظة إدراكه وجود قرين يؤمن عبد الله الأصلي أن لوجوده معنى.
نصيحة تشيخوف يجدها القارئ في مفتتح قصة "سهرة درامية". عجوز اسمها ريم، في السبعين، تقرأ جملة ترتفع فيها صرخات الطالبات في رواية بيت الطالبات لفوزية مهران، فترفع عينيها وترى ألسنة اللهب في قصر قبالة بيتها، بعد منتصف الليل. ويقتحم وحدتها ثلاثة شبان يريدون تصوير الحريق من الشرفة. ترى في أحدهم صورة من صديق قديم، يتصادف أن الشاب "ناجي" ابنه، وتهبط الذكريات في ليلة عاصفة، منها ما تبديه للشاب عن أبويه، صديقَيها، ومنها ما تكتمه خصوصًا نزوتها مع أبيه، إذ أرادت إزالة سوء تفاهم مع خطيبته، شأن صديقات البطلات، فخاضت معه مغامرة وحيدة، وفرحت باختلاس القنص. وذهب كلٌّ في طريق، حتى أيقظ الحريق أحلامًا وانكسارات وصولًا إلى ثورة 25 يناير 2011. وانطفأ الحريق، وغادر الشاب بعد ثلاث ساعات، ولا تزال رواية "بيت الطالبات" مقلوبة، فقررت ألَّا تنام حتى تعرف لماذا صرخت الطالبات في منتصف الليل؟
كتابة ذكية لا تُفلت شيئًا من التفاصيل، بمونتاج ناعم، وتلقائية تختلط فيها الأزمنة والحقيقة بالحلم. وفي أكثر من قصة يوجد الأصل والصورة، الشخص والقرين، حتى إن هذا القرين في قصة "معطف حمدي" يكاد يكون المعطف الذي اعتاد حمدي ارتداءه حتى في الحرّ، ولا يتخلى عنه، لعله يطير به مثل ثياب الأبطال الخارقين.
في رواية "رجوع الشيخ" يستعيد الشيخ أحمد رجائي شبابه بالشروع في كتابة قصة حياته، متماهيًا مع سميّه المترجم الشاب أحمد رجائي. من السطر الأول يوقن بموته مع انتهائه من تسجيل روايته الأولى والأخيرة، عن سيرته، عن حياة تكتمل بترك أثر يبقى. يقترن البقاء موثَّقا في الرواية بالموت، ولا يسعى إلى تأجيل الموت، بل يلهث لإتمام الرواية متنافسًا مع الشاب الذي يريد نشر الرواية باسمه. هل كتب شيئًا؟ أم وجد الشاب دفترًا كل صفحاته بيضاء تمامًا؟
أيًّا كان مَن كتب رواية الشيخ، ومَن سينشرها باسمه، فقد فاز القارئ برواية كتبها بمكرٍ وجمالٍ محمد عبد النبي.