في أحيان قليلة جدًا يمكن الاستفادة من الصخب الدائر الذي تُحدثه الجوائز الأدبية الكبيرة للتعريف بكاتب جديد أو إعادة طرح آخر متحقق، وربما من هذا المنطلق، يمتد اهتمامنا المعرفي بالجوائز التي قليلًا ما تذهب لمن يستحق أو تلفت الأنظار إليه، وسط فقر شديد يعيشه الكاتب العربي، الذي يكتب رغم ندرة القراءة واهتمام دولة واستحقاق للجوائز.
الشاعر والروائي العماني زهران القاسمي، الذي فاز بالجائزة العالمية للرواية العربية/البوكر قبل أيام عن روايته تغريبة القافر، واحد من هؤلاء المتحققين الذين كان مشروعهم غائبًا عن قطاع كبير من القراء لولا الجائزة، التي أضاءت على اسمه منذ وصول روايته للقائمة القصيرة، رغم إصداره ثلاث قبلها، هي جبل الشوع (2013)، والقنّاص (2014)، وجوع العسل (2017)، بالإضافة إلى عشرة دواوين شعرية، وسيرة الحجر 1 (قصص قصيرة، 2009) وسيرة الحجر 2 (نصوص، 2011).
عالم صغير وممتد
تدور تغريبة القافر في إحدى القرى العُمانية، وتحكي قصة أحد مقتفي أثر الماء، الذي تستعين به القرى في بحثها عن منابع المياه الجوفية. ترتبط حياة ذلك القافر بالماء منذ ولادته، فأمّه ماتت غرقًا، وطُمر أبيه تحت أحد الأفلاج ( قناة محفورة في باطن الأرض) حيث انهار عليه السقف.
ينطلق النص السردي من منطقة معرفية جديدة، من الأفلاج، وهو نظام فلاحي لريّ البساتين (تشبه القناية في الحقول المصرية)، مرتبط بالحياة القروية في عُمان ارتباطًا وثيقًا، وتمتلئ الذاكرة العمانية بكثير من الحكايات والأساطير عنه، وهو ما يدخل في صميم عالم القاسمي الإبداعي الذي يميزه شاعرية السرد، واتخاذه من الشح المكاني الذي تنوء به البيئة، كما في القرى والجبال، مسرحًا لأحداثه، بدلًا من المدينة التي صارت أغلب الروايات الجديدة تدور في جنباتها.
في تلك البيئة المقفرة، يصنع الكاتب العماني عوالمًا سحرية، عربية تمامًا، لكنها إنسانية يمكن لأي قارئ التوحد معها، وفي تغريبة القافر، نسير معه في بيئة قح يبحث كل رجالها ونساؤها عن الماء، عن العيش الرغد، ما يمنحنا صورة أخرى مختلفة عن الإنسان وحاجاته حتى في أبسط وأرق صوره المتوحدة مع طبيعة قاسية كالصحراء ومعطاءة كالماء.
وكما يحصر القاسمي عالمه في محدودية تلك البيئة ورمزياتها، يقتصر نصه على شخصيات بعينها يتحرك من خلالها، يحكي على ألسنتهم ما يريده، في عالم ضيق وممتد، يولد بطله في قلب حكاية لا بد أن تموت فيها أمه، ساحر، يفهم منذ اللحظة الأولى اتصال الحياة بالموت، في كل حدث، وينجح في ذلك تمامًا.
يقدم القاسمي نموذجًا آخر لأشخاص لا يمكن تفرقتهم عن الطبيعة الملازمة لهم أكثر من أي شيء، من خلال "آسيا" التي تربي البطل بدلًا من أمه، زوجها مسحور بالغربة وأطفالها ماتوا بعد ولادتهم كمصير مشابه لابنها المتبنّى، وأسرتها الكبيرة غير موجودة تمامًا.
كل ذلك في قلب عالم يأكل أمثالها كل يوم بألسنة حادة تتقول على الوحدة والعجز لإثبات أن ثمة حيوات أكثر قبحًا مما يعيشون، الكل يأكلها بلسانه وغيابه وجفاء الاعتياد على لطفها، يتركها الجميع محتفظة بغربتها كميتة، تبكي كل ليلة دون أن تفكر أن أحدًا قد يسمعها، تحتمل القلق وتعصر قلبها من الصبر، رغم ذلك يحتاج إنسان ليدها الخضراء الطيبة لتروي حياته من حنان لا ينضب.
من تلك التفصيلة، يأخذ البطل لبنه وحنانه الذي سيفيض فيما بعد على عالم صحراوي قاتم، ليرويه، هل أمامها اختيار لحياة أخرى لا يقتات الناس عليها؟
تمثّل آسيا إنسانًا متفردًا في لحظة عولمة مدركة للضعيف والقوي، للذكاء الهادئ القادم من التلاحم مع الطبيعة مباشرة، والغباء كشعور يغلف حماس الحمقى، الأرانب، اللا ناس، الزمن المدمَّر، فيروس الحداثة وما بعدها، الحب كعطاء لا فوتوغرافيا.
ومن النبع ينطلق البطل في رحلة ربما من الممتع قراءتها وخوضها معه في بحثه عن الماء والحب وكشف الماضي والحاضر أملًا في مستقبل رطب أكثر.
ثمة نقطة أكثر ذكاء في لغة القامسي تجعل نصه جديرًا بالجائزة، هي قدرته على التعامل مع عالم محدود المعاني والمصطلحات، من خلال إعادة تشكيل لغته وتوظيف صفات المكان لوصف الأبطال بشكل غني في كل مرة.
يحكي كل بطل عن عالمه الضيق من خلال الراوي الذي يمنح المساحة ذاتها بشكل مختلف لكل واحد منهم، ما يصنع رحابة أمام القارئ الذي يجد نفسه في عالم ضيق مكانيًا ورحب لغويًا في الوقت ذاته، ويمنحه المزج ما بين الواقعي والخيالي عالمًا ملحميًا نوعًا ما، ساحرًا ومغر أكثر بالغوص داخله، لا للحصول على أكبر قدر من التعرف على الأماكن والعوالم والشخصيات بل للتعمق في شخصية أو اثنين بعينهم والعيش مثلهم في لحظات القراءة.
عالم صحراء أو قروي يخلقه الكاتب في كل مرة، محدّد أكثر من كونه محدود، يصلح خلفية لأشخاص بعينهم أكثر تمسكًا بالطبيعة والعالم الأصيل، لا يبهره عوالم متنقلة بين الأماكن والشخصيات، وربما لا تغريه المدينة التي لا يمكن سرد قصة البطل "القافر" من خلالها بكل تنوعاتها المربكة.