في المشهد الأوّل بالفصل الثاني من مسرحية شكسبير عُطيل، تتوجّه دَيدمونة بسؤالٍ إلى إياجو، صاحب المؤامرات المُحكمة والحاقد على زوجها الفارس عُطيل.
"ديدمونة: وماذا ستكتب عني لو طُلب منك أن تمدحني؟
إياجو: أيتها السيدة الرقيقة لا تكلّفيني بمثل هذا العمل، لأني لستُ شيئًا إن لم أكن ناقدًا".
إذا وضعنا جانبًا السياق الدرامي للمسرحية، وبعيدًا كذلك عن شخصية إياجو الأشد تعقيدًا من معظم شخصيات شكسبير، اللهم إلّا اللغز الأبدي المسمّى هاملت، فإن لسان حال كثيرين اليوم يردّد العبارة الواردة في جوابه عليها: "أنا لستُ شيئًا إن لم أكن ناقدًا".
والمقصود بالناقد هنا ليس المعنى المعاصِر لعلم النقد الحديث بفروعه ومدارسه، بقدر ما يُقصَد به الشخص كثير الانتقاد، فاضح العيوب في الآخرين، صاحب العين المفتوحة دائمًا على أوضح النقائص وأدق الهفوات.
طبعًا سُلطة النقد المتخصص، بصورته التقليدية، حكاية قديمة، ويمكن لمقالٍ لاذع لأحد نقّاد الطعام المرموقين ومسموعي الكلمة أن يدفع مطعمًا إلى الإغلاق، بينما يمكن لسطر واحد مكتوب ببراعة بيد سيّد من سادة الكلمة المكتوبة أن يرفع اسمَ كاتب مجهولٍ فوق رؤوس الجميع
ما زالت بقايا هذه السُلطة ملموسة في وقتنا الراهن، بدرجةٍ أو بأخرى، وما زال للناقد الأكاديمي صاحب الأدوات المنهجية المسنونة رهبته وسلطانه، لكنّه لم يعد له الكلمة الأولى والأخيرة في مسألة الحُكم، ولهذا بالطبع مزاياه، لكنه أفرز أيضًا مثالب عديدة، منها تَفَرُّق تلك السُلطة وتوزُّعها على ملايين الناقدين الصغار المحرومين من أي أدوات أو مناهج أو معايير واضحة.
ربما نكون اقتربنا من مرحلة الاستبعاد التام للطرف الثالث بين ثنائية المنتِج والمستهلك، همزة الوصل ذات الثقافة العالية والذوق الحاد المدرّب، الناقد بكل ما تعنيه الكلمة من جلالٍ ورونق وحنان وقسوة.
بفضل بعض المواقع والتطبيقات على الإنترنت، وطبعًا جميع مواقع التواصل الاجتماعي صار المستهلك سُلطة تعلو سلطة النقد، وإن كان هذا سائغًا أحيانًا عند تناول الطعام أو شراء ثياب جديدة أو أثاث منزل، فإن الأمر يصير أشد إرباكًا عندما يتعلّق الأمر بمنتجات الفن والثقافة.
مِن ناحية لأنّ جزءًا من مهمة العمل الفني الجيد هي تحدّي الذائقة المستقرة للجمهور، حتّى إن لم يكن المنتَج الفني طليعيًا وتجريبيًا بنسبة مئة في المئة، أمَّا حينما يُسلم نفسه كليةً لحُكم الجمهور – الجمهور بمعناه الواسع والغامض، دونما تحديد فئة واضحة – فسيكون عليه ألّا يغامر باستفزاز المتلقي أو خلخلة ثوابته ومعتقداته، بل أن يخضع لوصفة معروفة ومُجرّبة وتكاد تكون مضمونة النتائج.
مواقع مثل goodreads لتقييم الكتب أو rotten tomatoes لتقييم الأفلام صار بوسعها الآن أن تحدّد مصير كتب وأفلام بمجرد ظهورها، حسب عدد النجوم أو درجات التقييم يمكن لعملٍ قد يراه النقاد والمتخصصون ضعيفًا وبلا طموح جمالي متميز أن يصعد حتى يستوي على رأس قوائم الأفضل، في حين يظل يتوارى ويهبط عملٌ آخر جدير بالانتباه لأنه لم يلفت انتباه القاعدة العريضة لسببٍ أو لآخر.
النُقّاد التقليديون صاروا في وضع أقرب إلى المحاربين القُدامى، مهددين بالانقراض خارج أسوار الممارسة الأكاديمية المتخصصة ذات الرطانة المستغلقة على معظم الناس (المستهلكين). قد يكافح بعضهم ضد التيار، مُستميتًا في عرض مخاطر تلك الأغذية الفنيّة غير الصحية التي يلتهمها الناس في نهم واستمتاع، وهو يغامر هنا بحصد المزيد من النبذ والانعزال.
في المقابل ظهر نوعٌ جديد من المستهلك الذكي (ليس ذكيًا تمامًا مع ذلك)، الذي أزاح بكتفيه العريضتين الناقد المتردد واحتلّ موضعه تدريجيًا. هذا المستهلك ليس مجرد متذوّق يتردد على المطعم بانتظام، بل هو على صلةٍ بالمطابخ ويعرف الطهاة بالاسم والوصف وتاريخ الميلاد. سترى صوره في كل حفلات توقيع الكتب ومعظم العروض الأولى للأفلام، وتقرأ انطباعه عن الكتب والأفلام وهي لا تزال في أيامها الأولى، يمسكُ بين يديه دفّة الرأى العام مهتاجًا ومستثارًا بالسُلطة الممنوحة له لمجرد أنّ لديه فائض من وقت الفراغ والطاقة.
وسرعان ما يصير هذا المستهلك منتِجًا للآراء النقدية، من دون أية مؤهلات أو معايير أو مقوّمات، ناقدًا من منازلهم، وموجّهًا للذائقة من وراء شاشة اللاب توب، وكلّما كان أطول بالًا في الجدالات التي تُثار حول هذا العمل أو ذاك استطاع أن يثبت وجهة نظره بألف طريقة ممكنة.
وقد تجد المبدع، بجلالة قدره، صارَ يتوجّه بفروض الولاء والطاعة والامتنان لهذا المستهلك المحترف، الذي صار أقوى سُلطةً من الناقد ومن المؤسسات الرسمية لإنتاج الفنون والثقافة.
عَجلة إنتاج الفنون والأدب – والحمد لله – لا تتوقّف، ومع دورانها يدور المستهلكون المحترفون، شاعرين بمسؤولية خطيرة ناحية كل جديد يظهر. يصير التأنّي في الحكم هنا رذيلة وتهديد بفقدان مكانتك المميزة كمتابِع يقظ. وبخلاف أي شكلٍ آخر من أشكال الاستهلاك، ففي استهلاك الفنون ما يوحي بالمكانة الخاصة والرقي والتميّز والانفصال عن القطيع الأوسع للعامة الذين لا يجدون في حياتهم اليومية الوقت والمال لممارسة مثل تلك الأنشطة.
المفارقة أن السوق قد استطاعت تحويل المستهلك المتميز إلى قطيعٍ من نوعٍ آخر، فتتحوّل أنشطة العُمق والصفاء والانفراد بالنفس إلى ممارسة اجتماعية متواصلة، إلى مجرد تِرس في ماكينة الإنتاج الهائلة المهووسة بمراكمة الأرباح على حساب أي شيء.
بدلًا من أن يكون الفعل الفني، في خلقه وتلقيه، مرادفًا للتحرّر ومجابهة قبح الواقع وأشكال سلطاته المختلفة، يصيرُ حلقةً أخرى في سلاسل العبودية، فيجرجر المستهلكون أنفسهم، مثل المنومين مغناطيسيًا، من كتابٍ إلى ألبوم موسيقي إلى مسلسل إلى فيلم، ومع كل غلافٍ ومنشور دعاية يظهر على شاشاتهم الصغيرة يتحلّب ريقهم على وعد بمعرفة نهائية ومتعة لا تُقارَن، ومن قبل الوعد هناك الوعيد ضد من يتخلّف عن القطيع النظيف الأنيق، قطيع المطلعين الملمين بكل جديد، لأنه سيكون خارج دائرة الحديث والنقاش الدائر لأيام وربمّا شهور حول هذا الفيلم أو الأغنية أو الكتاب.
لا يستطيع أحد أن يمنع الناس من إبداء رأيهم في أي شيء يقدّم لهم، بدايةً من القوانين التي تمس مصالحهم المباشرة وليس انتهاءً بمسلسلات رمضان، غير أنّ ثمّة آليات تواصل جديدة حوّلت هذا الحق إلى واجب مُلّح، أو هاجس أقرب إلى الكابوس. أن تُدلي برأيك يعني أن تُلمّ بالأمر، وأن تُلمّ يعني أن تطّلع وتستهلك وتستقطع حصةً أخرى من وقتك، إلى جانب الحصص الأخرى المخصصة للعمل والعيش وشؤون حياتك، فكأنّه لم يعد من حقك اختيار كيفية قضاء وقت فراغك.
لم تعد كفّة الميزان تميل ناحية الأنشطة التي تفضّل أنت ممارستها – حتّى لو كان ذلك مجرد الاستماع إلى أغنية قديمة لأم كلثوم – بل صارت تميل لصالح الأنشطة التي ينبغي عليك ممارستها لتكون في الصورة، لكي تتجنب الحكم بالنبذ والإقصاء نتيجة عدم المتابعة. ونظرًا لسرعة الإيقاع وضيق الوقت فلا مجال للتذوّق المتمهل وإنعام النظر، عليك أن تعلن رأيك بهذا المسلسل في أثناء عرض حلقته الأولى أحيانًا، حتى ولو بدأت كلامك باحتراز معناه أنك لا تميل لإطلاق الأحكام على الأعمال الفنية قبل اكتمالها.
هنا يبرز من جديد المستهلك المحترف كشخص لديه قدرات خارقة، وشبه متفرغ لملاحقة السيل المتواصل من المنتجات الفنية. كأنّ سلطته تنبع من فراغه، وكأن فراغه ينبع من عدم تدقيقه وقلة اكتراثه بصقل ذوقه. أي أنّه ناقد طعام حُرمَ من حاستي الشم والتذوّق، هنا المفارقة المحزنة.
وراء ذلك السيرك اللامع قد يوجد ناقد (حقيقي) وهبَ حياته لأعمال شاعرٍ واحد كتبَ ديوانين أو ثلاثة ومات شابًا فلم يسمع به غير حفنة من الكتّاب والمثقفين، وبعيدًا عن ضجيج السوق قد نلمح قارئًا (حقيقيًا) ينبش عند باعة الكتب القديمة عن عناوين ليست على لوائح أفضل المبيعات، عناوين لن يجد في الغالب مَن يتحدث معه عنها على صفحات التواصل الاجتماعي، لأنها لا تهم أحدًا سواه.
أصبحَ الانتباه لسُلْطة القطيع الثقافي والحذر منها خطوةً لا غِنى عنها من أجل تحقيق أدنى درجات الصفاء والتركيز، ولشحذ الذوق الفردي الخاص بعيدًا عن كسل الاستسلام لدرجات ونجوم مواقع التقييم.