في البداية تداول الأصدقاء الأمر سرًا في جلساتهم المغلقة في البيوت، أو همسًا على المقاهي خشية المخبر الجالس على بعد خطوات، بشأن احتمالات ترشح الفريق محمود حجازي، رئيس الأركان السابق، في انتخابات الرئاسة المقبلة، التي لم يتحدد تاريخها بشكل قاطع حتى وقت كتابة المقال، وإن كانت تبدو قريبة، وقريبة جدًا.
كان ردي دائمًا كصحفي أولًا وقبل كل شيء "وأنا هعرف منين؟ بسمع كلام عايم زي اللي إنت بتسمعه من غير ما يكون فيه مصدر موثوق".
ولكنَّ الأمر خرج إلى العلن وأصبح من المشروع نسبيًا الحديث عنه، بعد تقرير مجلة الإيكونوميست البريطانية، التي تحظى باحترام واسع في دوائر صنع القرار في الغرب في 15 يونيو/حزيران، والذي رسم صورة قاتمة للأوضاع السياسية والاقتصادية في مصر، وأشار، من دون الكشف عن مصادره، إلى أن الرئيس عبد الفتاح السيسي "قد تكون عليه مواجهة طموح صهره محمود حجازي" لشغل منصب الرئاسة.
ومن المعروف أن الفريق حجازي أقيل بشكل مفاجئ في 28 أكتوبر/تشرين الأول 2017، بعد ثمانية أيام من مذبحة الواحات التي قُتل فيها 16 من رجال الأمن.
تقرير "الإيكونوميست"، التي تعذر عليَّ بعد نشره تصفح موقعها من مصر إلى أن عاد فجأة للعمل قبل عدة أيام، تزامن مع حديث كان يردده السيد محمد أنور السادات، رئيس حزب الإصلاح والتنمية، عن "مرشح مفاجأة" في الانتخابات المقبلة، لم يعلن اسمه ولكنه كشف أنه مدني بخلفية عسكرية، وهو يوضح لاحقًا أسباب تراجع هذا المرشح الغامض عن خوض الانتخابات الرئاسية.
ليس مسموحًا السعي نحو خلق انقسامات ومنافسة داخل المؤسسة العسكرية
تداولت الدوائر المغلقة شائعات عن أسماء ليس في طرحها أي خيال، من قادة عسكريين عرفهم المصريون بعد شغلهم لمناصب هامة في السنوات الأخيرة، ثم أقيلوا دون الكشف عن أسباب، كما هي العادة عند تداول أي أخبار تتعلق بشؤون القوات المسلحة، مثل وزير الدفاع السابق صدقي صبحي، ومدير المخابرات السابق مراد موافي، وقائد الجيش الثاني الميدانى السابق اللواء أحمد وصفي. ولم يقل أحد على أي أساس طُرح هذا الاسم أو ذاك، وما القدرات التي تجعله قادرًا على إدارة شؤون البلاد، سوى انتمائه للمؤسسة العسكرية صاحبة اليد العليا في إدارة شؤون البلاد منذ 3 يوليو/تموز 2013.
الاستغراق في دولاب الدولة
ولكن اسم الفريق حجازي عاد ليتردد بقوة على الساحة السياسية والإعلامية بعد البيان الذي أصدره "بصفة شخصية" الدكتور عماد جاد، المتحدث الرسمي باسم التيار الحر والبرلماني السابق والخبير بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، تحت عنوان "نداء من أجل الوطن"، وجاء فيه أن "الفريق محمود حجازي هو الرئيس الأمثل لمصر في المرحلة القادمة".
طرح اسم حجازي جاء بعد أن أشار جاد إلى أن "مصر لن تتحمل استمرار السياسات الحالية فترة قادمة"، معربًا عن اعتقاده بأنه "الخيار الأمثل لإنقاذ البلد، وترشيحي له نابع من معرفة وثيقة، وأراه خير من ينقل مصر عبر مسار آمن ومستقر ويمثل مرحلة انتقالية".
واقترح جاد أن "يأتي بعده (حجازي) رئيس مدني، بعد فتح المجال العام وإتاحة الحرية للأحزاب السياسية وإلغاء الأحزاب القائمة على أساس ديني بحسب نص الدستور"، كما أشار إلى أن كلَّ أحزاب المعارضة المدنية الحالية ضعيفة، وغير قادرة على تقديم مرشح يتمكن من إدارة شؤون البلاد لأنه سيكون "من خارج دولاب الدولة"، على عكس حجازي القادم من قلب أهم مؤسساتها.
وفي هذا الصدد، قد لا يمثل الأمر مفاجأة كبيرة لو عدنا بذاكرتنا للوراء قليلًا، وتحديدًا لـ"استفتاء تمديد الرئاسة" عام 2018. ففي تلك الفترة أيضًا ترددت مقولات تبحث عن مرشح قادر على مواجهة الرئيس السيسي من داخل مؤسسات الدولة، وتحديدًا الجيش.
لذلك كانت المفارقة الكبيرة في إقدام رموز وقوى مدنية من مؤيدي ثورة 25 يناير على دعم الفريقين؛ سامي عنان، وأحمد شفيق، آخر رئيس الأركان الجيش، وآخر رئيس للوزراء في عهد مبارك، كمنافسين محتملين للسيسي. ولكنَّ قناعتهم كانت أنَّ أيَّ بديل للرئيس الحالي سيمثل خيارًا افضل، حتى لو كان الخيار مرشحًا ينتمي للنظام الذي ثاروا ضده.
قال لي صديق مقرب وقفت بجواره في ميدان التحرير 18 يومًا "أنا لو جمال مبارك نزل، هديله صوتي".
وفي النهاية، تم وأد كل هذه النظريات سريعًا، إذ ألقي القبض على الفريق عنان وحوكم، ورحَّلت الإمارات شفيق إلى مصر حيث يلتزم منزله منذ ذلك الوقت.
كانت الرسالة قاطعة وواضحة في 2018، وهي أنه ليس مسموحًا السعي نحو خلق انقسامات ومنافسة داخل المؤسسة العسكرية، التي يُعدُّ الحفاظ على تماسكها ووحدتها أمرًا يرتبط بالأمن القومي لمصر.
ولاحقًا، اشترط تعديل قانوني في 2020 أن يحصل ضباط القوات المسلحة حتى المتقاعدين منهم، على إذن المجلس الأعلى للقوات المسلحة، قبل الترشح في أي انتخابات عامة، برلمانية أو رئاسية.
السقوط في الفخ نفسه مجددًا
لا أعرف سببًا أو مبررًا للعودة إلى هذه النغمة في الانتخابات المتوقعة قبل نهاية العام الحالي، وربما في مطلع ديسمبر/كانون الأول، في ظل رغبة واضحة لدى الأجهزة المعنية في الانتهاء من هذا الملف على عجل، بسبب ضرورة اتخاذ قرارات اقتصادية هامة تمكن الحكومة من سداد أقساط الديون وفوائدها، التي يحل موعدها قبل نهاية العام.
كيف للقوى المدنية أن تقع في نفس الحفرة مجددًا، وتراهن على مرشح مجهول للخلاص من موقف تراه كارثيًا؟
بعض من يصرون على مطالبة الرئيس السيسي بعدم خوض الانتخابات المقبلة، بسبب تردّي الأوضاع الاقتصادية وتراجع دور مصر الإقليمي والدولي، سيكون الرد عليهم سهلًا وهو أن القول الفصل سيكون للناخبين عبر الصندوق، وأنه منعه من الترشح ليس ممكنًا لمجرد أن المعارضة طالبت بذلك.
كما أن مجرد تخيل أن الجهات المعنية في الدولة قد تدعو الرئيس السيسي لعدم الترشح، سيكون غرقًا في الأوهام، وبالتالي فإن دعوته عمليًا للتنحي والاكتفاء بالسنوات العشر، أقرب للاستعراض من كونها حلًا واقعيًا لما تواجهه مصر.
ولكن هل من المفيد أن تتدخل القوى المدنية أو رموزها في شؤون المؤسسة العسكرية وتطرح أسماءً من داخلها لتولي منصب الرئاسة؟ قد يكون ذلك الموقف متوقعًا من أنصار جماعة الإخوان الذين يحملون ثأرًا شخصيًا ضد الرئيس السيسي، وألمحوا مرارًا أنهم على استعداد لدعم أي منافس آخر، وبغض النظر عن مواقفهم المسبقة منه.
ولكن كيف للقوى المدنية أن تقع في نفس الحفرة مجددًا وتراهن على مرشح مجهول لا تعرف عنه شيئًا للخلاص من موقف قائم تراه كارثيًا؟
ما لم يكن الصديق عماد جاد يتحدث بتكليف صريح من الفريق حجازي، فإنَّ طرح اسمه بهذه الطريقة ودعوة المؤسسة العسكرية لدعمه تصرف غير مفهوم، وليس معقولًا أن يكون المبرر الوحيد لدعم الفريق حجازي "معرفة وثيقة" تربطه به شخصيًا، دون أن يوضح لنا ما الذي يضمن أن يكون مرشحه "انتقاليًا" يليه رئيس مدني، مع الوضع في الاعتبار أننا في مصر لا نعرف تقليد "الرئيس الانتقالي" خاصة إذا كان قادمًا من قلب المؤسسة العسكرية، وليس شخصًا مدنيًا كما كان حال المستشار والرئيس السابق عدلي منصور.
وسيبقى الجانب الأكثر إيلامًا في بيان الصديق عماد جاد هو ذلك التسليم المسبق بعدم قدرة الأحزاب والقوى المدنية على تقديم منافس للرئيس السيسي. توجد لدى الحركة المدنية أسماء قادرة على طرح برامج تجابه السياسات التي اتَّبعها الرئيس السيسي على مدى السنوات العشر الماضية، وربما منافسته مع توفّر الحد الأدنى من الضمانات.
لن يتخيل أحد أن تتوقف أجهزة الدولة عن دعم الرئيس السيسي، ولكن لن تندلع ثورة لو سمحت الأجهزة الأمنية للمرشحين المنافسين بشرح برامجهم في وسائل الإعلام، والتجول بحرية في القاهرة والمحافظات، وعدم التعرض لأعضاء حملتهم والقبض عليهم.
هذا ما يجب أن يشغل القوى المدنية المعارضة، بدلًا من الغرق في نفس الصندوق، وترديد شائعات الغرف المغلقة، واللعب بالنار عن طريق التدخل في شؤون المؤسسة العسكرية، وطرح مقترحات مستحيلة قانونيًا لمرشحين من داخلها، لم يعربوا أصلًا عن رغبتهم في هذا الترشح.