لم يكد يمر أكثر من شهرين على تدشين التيار الحر، الذي شاركت في تأسيسه أربعة أحزاب سياسية وعدد من الشخصيات المحسوبة على التوجه الليبرالي، حتى انفرط عقد التيار الذي استغرق تأسيسه نحو عام. بدأت قرارات الانسحاب، وعلق حزب الدستور عضويته، بالإضافة إلى خلافات واستقالات في حزب المحافظين، فيما تضاربت مواقف المؤسسين من الانتخابات الرئاسية.
ومع توالي الأزمات الداخلية في الأحزاب المؤسسة للتيار، أصدرت المحكمة الاقتصادية، السبت الماضي، حكمًا بحبس رئيس مجلس الأمناء هشام قاسم، ستة أشهر مع الشغل والنفاذ، لاتهامه بـ"سب وقذف القيادي العمالي ووزير القوى العاملة الأسبق كمال أبو عيطة، والتعدي بالقول على ضابط وفردي شرطة بقسم السيدة زينب".
أدى كل ذلك إلى إعلان التيار "تعليق المشاركات السياسية جميعها مؤقتًا"، منوهًا بأن قاسم كان مرشحًا رئاسيًا محتملًا، إذا ما توفرت الضمانات الانتخابية الأساسية. ولكن هذا في الحقيقة؛ يفتح الباب لعدة مرشحين من التيار في انتخابات الرئاسة وليس العكس، باعتبار أن تلك القرارات غير ملزمة للأحزاب.
ولكن كيف صار مصير التيار الوليد مهددًا وهو بعد في عمر الشهرين؟
أزمات مستمرة
يُرجح البعض أن القشة التي قسمت ظهر التيار؛ كانت تصريحات المتحدث باسمه عماد جاد، الذي اعتبر في بوست على فيسبوك أن الفريق محمود حجازي هو المرشح الأمثل للمرحلة المقبلة.
ولكن سبق ذلك أيضًا انسحاب بعض مؤسسي التيار، ومنهم الأمين العام الأسبق لحزب الدستور تامر جمعة، اعتراضًا على الظهور المتكرر لرئيس مجلس الأمناء هشام قاسم، على قناتي الشرق، ومكملين، المحسوبتين على جماعة الإخوان المسلمين.
وبين هذا وذاك، تصدر جاد الجدل مرة أخرى حين صرَّح لموقع تحيا مصر، المقرب من السلطة، بأن المرشح الرئاسي المحتمل أحمد الطنطاوي "لا يمكن أن يكون مرشحًا للتيار الحر" لأنه ناصري. مضيفًا "الناصريين يتحدثون عن التطبيع مع إسرائيل، بالرغم من أننا لدينا معاهدة سلام... فمعنى ذلك (أنه) عندما يأتي سيلغي معاهدة السلام.. أولوياتنا مصر والشعب المصري وليس الشعب الفلسطيني".
جلبت تصريحات جاد انتقادات حادة للتيار واتهامات بالتطبيع، فاتهم بدوره موقع تحيا مصر بـ"بتر" تصريحاته عمدًا.
لكن حزب الدستور لم يكتف بذلك، فتبرأ من تصريحات جاد، واعتبر أن الحوار يأتي في إطار "حملة لاغتيال هذا التحالف السياسي"، وشدد على أن الصراع مع إسرائيل لا يخص الشعب الفلسطيني فقط، بل صراع عربي إسرائيلي، وجزء من الأمن القومي المصري. وتلا ذلك قرار الهيئة العليا للحزب، بأغلبية الأصوات، تعليق المشاركة في التيار، لحين اتخاذ قرار بالانسحاب خلال اجتماع الجمعية العمومية في أكتوبر/تشرين الأول المقبل.
كواليس القرار
بينما يبدو للمتابعين أن تصريحات جاد هي التي فجرت عضوية حزب الدستور في التيار، تقول مصادر في الحزب أن كواليس اتخاذ القرار لم ترتبط بتصريحات جاد فحسب، بل القرار أعمق من ذلك، ويرتبط بالوثيقة التأسيسية ومحتواها، وغياب الرؤية والأهداف الواضحة من تأسيس التيار.
قال عضو بالمكتب السياسي للدستور إن الحزب كانت لديه تساؤلات عديدة بشأن الرؤية والأهداف وآلية اتخاذ القرار وعدم وجود بناء تنظيمي مكتمل.
أما تصريحات المتحدث باسم التيار، فاعتبرها عضو بالهيئة العليا للحزب "القشة التي قسمت ظهر البعير"، مستنكرًا "كان فيه 1000 سبب تاني يقدر عماد جاد يقوله عن مبررات عدم دعم الطنطاوي بعيدًا عن الموقف من إسرائيل".
واشترك المصدران في تأكيد اعتراض أعضاء الحزب على عدم وجود مبادئ وهيكل تنظيمي واضح للتيار، وأوضح عضو الهيئة العليا "أعضاء الحزب فاعلين ومؤثرين ولهم موقف، مش مجرد حاملين للكارنيه".
هناك مجموعات داخل حزب الدستور متحمسة للطنطاوي، بل إن بعضهم انضم فعليًا إلى حملته الانتخابية
أما وليد العماري، المتحدث باسم حزب الدستور، فيرى أن تعليق المشاركة في التيار لا ينبع من خلاف أيديولوجي، موضحًا أن تركيبة الحزب، الذي أسسه محمد البرادعي بعد ثورة 2011، تجمع أفكارًا متنوعة بين الليبرالية والديمقراطية الاجتماعية "والاتنين عايزين السوق الحر، مفيش اختلاف أيديولوجي كبير. حتى الأحزاب الليبرالية تُراعي السياسات الاجتماعية، ووجود دور للدولة وضوابط للتدخل".
ولكن في الوقت نفسه، لفتت المصادر إلى وجود مجموعات داخل الحزب متحمسة لدعم الطنطاوي في الانتخابات الرئاسية، بل إن بعضهم انضم فعليًا إلى حملته الانتخابية، وقال عضو الهيئة العليا "الناس شايفة أن الطنطاوي حقق تقدمًا على الأرض وبدأ تحركات مبكرة، ولذا يجب تغليب المصلحة العامة".
في السياق نفسه، يشهد حزب المحافظين استقالة بعض المجموعات خاصة من جيل الوسط والشباب خلال الفترة الأخيرة، كان آخرها تقدُّم جودة جلال، أمين التدريب والتثقيف السياسي، وشادي العدل، أمين لجنة التواصل السياسي، باستقالتهما من أمانة الحزب في 10 سبتمبر/أيلول الجاري.
وأوضح مصدر في الحزب، طلب عدم نشر اسمه، أن أعضاء الأمانتين تقدموا أيضًا باستقالتهم، وأنه يتوقع مزيدًا من الاستقالات خلال الفترة المقبلة، موضحًا أن الانشقاقات التي يشهدها الحزب نتجت عن الأزمات التي تسبب فيها التيار بدءًا من مواقف هشام قاسم؛ وظهوره الإعلامي على القنوات المحسوبة على الإخوان المسلمين، ثم أزمة اتهامه بالتطبيع.
واعتبر المصدر أن دخول حزب المحافظين في هذه الأزمات، وطريقة إدارة رئيسه أكمل قرطام؛ باعتماده على دائرة محدودة في صنع القرار، يتصدرها عماد جاد وإيهاب الخولي، وتهميش الشباب وجيل الوسط، أدت إلى تصاعد الاحتقان في الحزب.
فضلًا عما وصفه المصدر بـ"تضييع الفرصة على الحزب ليكون رقمًا في المعادلة السياسية"، مشيرًا إلى تلويح قرطام بعدم المشاركة في الانتخابات البرلمانية. ومع تصاعد حالة الغضب في الحزب اتخذ قرطام قرارات بتعديلات في المكتب السياسي للحزب لضمان توافق المكتب السياسي مع مواقفه.
القيادي في حزب المحافظين، طلعت خليل أوضح لـ المنصة أن ما حدث في التيار الحر انعكس على الحزب، وقال "إننا نستكشف من التجربة والممارسة أشياء ونحاول القفز على الصعوبات، ولا شك أن حبس هشام قاسم ألقى بظلال قاتمة على التيار".
ومن غير الواضح كيف سيكون الحال، وهناك بعض أعضاء حزب الدستور فاعلين في حملة الطنطاوي، إذا ما قرر الحزب الدفع بجميلة إسماعيل لخوض سباق الرئاسة، وهو الأمر المتوقع حسمه الأربعاء المقبل. كما أن أكمل قرطام لم يعلن حتى الآن موقفه من الترشح في الانتخابات الرئاسية، وهو ما طالب به عدد من أعضاء الحزب، وسبق ووجه المكتب التنفيذي خطابًا لقرطام يطالبه بالترشح في الانتخابات.
تأخر التيار الحر في تحديد مواقف قياداته من الانتخابات الرئاسية يجعل فرصته محدودة مع بدء العد التنازلي لفتح باب الترشح المتوقع أكتوبر المقبل، حتى وإن ظلت لدى قيادات التيار رغبات غير معلنة لخوض الانتخابات الرئاسية، لكن ربما تؤدي حسابات الوقت والخسائر المتتالية إلى تراجعهم.
باسم مَن؟
ما بين الخلافات على دعم المرشح المدني أو العسكري، أو حتى المقاطعة أو انتظار الضمانات، وما بين اتهامات التطبيع، يزداد مستقبل التيار هشاشة. فأي مستقبل لتحالف سياسي لا تشترك أطرافه في مواقف جذرية، ولا يجمعها سوى اعتراضات على أداء النظام الحالي؟
وإذا أثارت تصريحات المتحدث باسم التيار كل هذه الزوابع، وتبرأ منها هذا وذاك، لماذا لم يتخذ التيار إجراء في هذا الصدد بدلًا من انفراط العقد؟
يبدو أن جاد، المتحدث باسم التيار الحر، لا يستشعر الخطر. يقول لـ المنصة أنه رغم الأزمات التي تلاحق التيار بعد أسابيع قليلة من تدشينه إلا أنه "لا يزال محافظ على نفسه"، مضيفًا "التيار اتكعبل أو انشغل في موضوع قاسم بدلًا من الاشتباك مع الانتخابات وضمانات نزاهتها وتقديم بدائل وحلول اقتصادية"، لكن "لن يتم حله. ما صدّقنا بقى فيه تيار ليبرالي والناس اتجمعت".
وبينما يتردد اسم أسامة الغزالي حرب بديلًا لقاسم ليتولى مهمة المنسق العام أو رئيس مجلس الأمناء، ينفي جاد إمكانية حدوث ذلك. الموقف ذاته أكد عليه محمد أنور السادات، رئيس حزب الإصلاح والتنمية، المشارك في تأسيس التيار الحر، بقوله "غير مطروح ولا يمكن التفكير فيه وهشام لا يزال محبوسًا، لا أدبيًا ولا معنويًا ينفع".
يدفع جاد عن نفسه الاتهامات المتداولة بالتطبيع مع إسرائيل، موضحًا موقفه "أنا تخصصت في الدراسات الإسرائيلية منذ 30 سنة وحتى الآن، لا زرت ولا قابلت ولا رحت السفارة. وجهة نظري الشخصية هي الحفاظ على معاهدة السلام لمصلحة مصر، وأن الحديث عن إلغائها مزايدة. الإخوان قالوا "على القدس رايحين شهداء بالملايين"، ولما وصلوا للحكم محمد مرسي أرسل رسالة يقول فيها عزيزي بيريز".
وأضاف "فيه فرق بين التطبيع، وبين الحفاظ على اتفاقية دولية للسلام حصلنا بموجبها على سيناء، هذا التزام دولة. لكن التطبيع هو تشجيع علاقات طبيعية مع إسرائيل بين منظمات وهيئات ونقابات. أنا مع الأولى وليس الثانية".
أما تعليق عضوية حزب الدستور، فيعتبرها السادات "عملية مؤقتة" لكنها مؤشر على ضرورة ضبط الأداء داخل التيار ليكون جاذبًا لآخرين، سواء أحزاب أو شخصيات عامة. ويقول "التيار يحتاج لوقفة تنظيمية".
ويتفق مع جاد في وصف ما يقارب شهادة الوفاة للتيار الوليد بـ"الكعبلة"، قائلا لـ المنصة "حصل لنا نوع من الكعبلة، لكن كلنا متفقين أن التيار يحتاج مننا كلنا وقفة ويكون تنظيمه والأدوار الأساسية فيه واضحة".
انفجارات من داخل التيار تسببت فيها تصريحات قياداته، ومن خارجه، اشترك فيها قيادي في الحركة المدنية الديمقراطية مع السلطة، تنتهي بأن كل حزب من أحزاب التيار الحر سيحدد موقفه من الانتخابات الرئاسية، وينتهي مسار التحرك المشترك الذي كان مأمولًا وقت تأسيس التيار قبل ثلاثة أشهر.
ومع عدم اتخاذ التيار أي إجراءات تنظيمية أو تصحيحية أمام كل تلك الانفجارات، بات مصيره مهددًا بالموت الإكلينيكي.