في 25 يونيو/حزيران الماضي، عقد رؤساء أحزاب الدستور، والمحافظين، والإصلاح والتنمية، ومصر الحرية، وبعض الشخصيات العامة، مؤتمرًا صحفيًا للإعلان عن انطلاق التيار الحر، كان السؤال المُلح في الوسط السياسي حينها هو علاقة التيار الحر بالحركة المدنية، واحتمال الانشقاق الذي قد يحدث في صفوف تلك الحركة التي جمعت أحزاب المعارضة منذ تأسيسها في 2017.
لم يتصور أي من المحللين أو السياسيين المتابعين لتكوين التيار الحر على مدار عام كامل، انتهاء الأمور بملاحقة قضائية وجرجرة في المحاكم، من القيادي في حزب الكرامة والحركة المدنية، كمال أبو عيطة، لرئيس مجلس أمناء التيار ، الناشر والسياسي المعارض، هشام قاسم، الذي ينتظر جلسة محاكمته يوم 2 سبتمبر/أيلول المقبل في المحكمة الاقتصادية بتهمة سب وقذف الأول.
كتبتُ عن التيار الحر عقب تدشينه، وتحدثتُ عن غياب الرؤية وضبابية المشهد في ظل عدم وضوح آليات العمل، متوقعة ظهور عقبات بين الشركاء، وخلافات داخلية، خاصة مع وجود معارضة بين المؤسسين على الوثيقة التأسيسية للتيار التي كتبها قاسم، وتحفظات على ظهوره على القنوات المعارضة التي تبث من الخارج. وبالفعل أعلن الناشط السياسي تامر جمعة انسحابه من التيار، ونشر بيانًا انتقد فيه قاسم وأداءه في إدارة التيار وظهوره في قناة الشرق المحسوبة على الإخوان المسلمين، كما تحدث عن مفصلية القضية الفلسطينية ورفضه للتطبيع.
أبدًا لم يتخيل أي شخص أن تأتي الضربة من قيادي من الحركة المدنية الديمقراطية، وتصل لجرجرة المحاكم
جاء انسحاب جمعة في 9 أغسطس/آب الجاري، بعد حملة استمرت أسابيع ضد قاسم، عقب تدشين التيار، واتهامه بالعمالة والتطبيع سواء من إعلاميين محسوبين على الدولة أو معارضين مثل القيادي بحزب الكرامة كمال أبو عيطة، والناشط السياسي رامي شعث، قبل أن يصدر الأخير بيانًا أعلن فيه رفضه حبس قاسم.
تحول قاسم لعبء على التيار الحر، واضطر مؤسسوه لإصدار بيان دفاعًا عن موقفهم وتوضيح موقفه من الصراع العربي الإسرائيلي، وتوقع البعض استمرار الحملة للحد من قدرة المجموعة الليبرالية في المعارضة على تقديم بدائل حقيقية دون ملاحقتها باتهامات العمالة؛ لكن أبدًا لم يتخيل أي شخص أن تأتي الضربة للتيار من قيادي من الحركة المدنية الديمقراطية، وتصل لجرجرة المحاكم، ولا أن يتسبب بلاغ أبو عيطة، المناضل العمالي وعضو لجنة العفو الرئاسي صاحب أقوى تصريحات عن سجناء الرأي وتعطيل إنهاء أوضاعهم، في حبس قاسم وإحالته للمحاكمة.
لم تختلف المعارضة في الانتخابات، ولم تنشق الحركة المدنية وتنسحب أحزاب منها كنتيجة طبيعية لاختلافاتها الأيديولجية، ولكن يبدو أن المقاهي ومكاتب رؤساء الأحزاب والسياسيين المختلفين فكريًا ضاقت، ولم تتسع لحل النزاعات، فكان الأسهل على أبو عيطة جرجرة رئيس مجلس أمناء التيار الحر في الأقسام والمحاكم، وهو التصرف الذي لم يستنكره حزب الكرامة، بل دعمه وعدّه حقًا طبيعيًا.
تحصد الآن المعارضة بكل أطيافها خسائرها بعد تحرك أبو عيطة، الذي قدم هدية مجانية للنظام بحبس أحد أشد المعارضين، كلاعب كرة أحرز هدفًا في مرماه.
اعتاد قاسم المعروف بمعارضته الشديدة للنظام الحالي، الرد على منتقديه والدفاع عن نفسه عبر حسابيه على فيسبوك وإكس، وهو ما حدث عندما رد على أبو عيطة وغيره ممن قادوا هجومًا ضده عقب تأسيس التيار.
استخدم قاسم في معركته ضد أبو عيطة معلومات متداولة ومنشورة في صحف الدولة، بشأن رد الوزير السابق 75 ألف جنيه لصندوق إعانة الطوارئ بوزارة القوة العاملة للتصالح في قضية استيلاء على المال العام، فتوعد أبو عيطة قاسم وهدد بتقديم بلاغ ضده.
وهنا بدأ تحول دراماتيكي وتسارعت الأحداث. استدعت النيابة قاسم كشاهد، ثم حققت معه كمتهم في بلاغ مقدم من أبو عيطة، فصدر قرار بإخلاء سبيله بموجب كفالة قدرها 5000 جنيه، ورفض رفضًا باتًا سداد الكفالة مطالبًا أسرته ودفاعه باحترام موقفه، ليبيت ليلته الأولى في الحجز بقسم السيدة زينب.
في هذه الليلة بدأ الحديث عن وساطة بين السياسيين والمعارضين لدفع أبو عيطة للتنازل عن بلاغه، وإنهاء الأزمة؛ ولكن فوجئ المحامون صباحًا ببلاغ جديد ضد قاسم من ضباط قسم شرطة السيدة زينب يتهمونه بالسب والقذف.
ضربة ما قبل الانتخابات
قبل سنة وأربعة أشهر، عندما شاركت قيادات الحركة المدنية في إفطار الأسرة المصرية في أبريل/نيسان 2022، بالتزامن مع دعوة الرئيس للحوار الوطني، بدأت الأحزاب تصحو جزئيًا بعد موت إكلينيكي استمر لسنوات. عاد رموز المعارضة مرة أخرى ضيوف في برامج التليفزيون، وزادت وتيرة الاجتماعات والبيانات، وارتفع سقف المطالب.
وشملت مطالب المعارضة ضمانات الانتخابات الرئاسية التي تضمنت إصدار تشريع "تحصين مؤقت لكل سبل الدعاية الانتخابية من الملاحقة الجنائية سواء بالمواجهة بجرائم إساءة استخدام وسائل التواصل بالتوسع في تفسيرها لتشمل كل رأي مخالف لتوجهات السلطات والقائمين عليها، أو أي جرائم أخرى"، بمعنى آخر، ضمان عدم الملاحقة الأمنية والقضائية عند انتقاد المنافس الرئيس عبد الفتاح السيسي خلال فترة الدعاية.
بالتزامن مع هذه الحالة بدأ مجموعة من السياسييين الليبراليين البحث عن تأسيس تحالف سياسي، انتهى بتأسيس التيار الحر بعد عام كامل من المداولات.
الضربة التي استهدفت قاسم لن تناله وحده
بدأت المعارضة تبحث عن مرشح، فخرج علينا رئيس حزب الإصلاح والتنمية محمد أنور السادات متحدثًا عن "المرشح المفاجأة" الذي لم يظهر ويبدو أنه لن يظهر. كما لوح رؤساء أحزاب بالترشح بشكل غير مباشر، إما بأنفسهم أو من خلال مجموعات من أحزابهم تطالبهم بالترشح، مثل جميلة إسماعيل في الدستور، وأكمل قرطام في المحافظين، بخلاف أحمد الطنطاوي الرئيس السابق لحزب الكرامة الذي أعلن عن ترشحه وتقديمه البديل الديمقراطي، وهو المرشح الذي لم يقرر الكرامة دعمه رسميًا حتى الآن وإن كانت مجموعات مختلفة في الحزب تتجه لمساندته.
وتطور الأمر لاجتماع في الساحل لبعض رؤساء الأحزاب والشخصيات العامة في ضيافة أكمل قرطام، لبحث مبادرته بتكوين فريق رئاسي من المرشحين المحتملين في الأحزاب المدنية، ثم أتت ضربة أبو عيطة لتغير أجندة الاجتماعات، وتزيد ارتباكها.
سيناريوهات المستقبل
يضع حبس قاسم الحركة المدنية والتيار الحر في مأزق يفضح التناقض والخلل بين السياسيين الذين يقدمون أنفسهم وأحزابهم كبديل للنظام، فالضربة التي استهدفت قاسم لن تناله وحده، بل ستمتد للمعارضة المحسوبة على التيار الديمقراطي.
ونبقى أمام مجموعة من السيناريوهات، أولها تخلي أحزاب التيار الحر عن رئيس مجلس الأمناء المحبوس، وهو السيناريو المستبعد. لأنه رغم العبئ الذي يشكله وجوده على تلك الأحزاب، إلا أن حبسه يضعهم في معضلة أخلاقية. لكن يبقى في التيار بعض المؤسسين، ومنهم رئيس حزب مصر الحرية تامر سحاب، ربما يفضلون سير المركب دونه.
أما السيناريو الثاني، فهو تفكك الحركة المدنية لصالح تحالفات سياسية وانتخابية قائمة على توافقات أيديولوجية، فيعمل المصري الديمقراطي مع العدل في تحالفهما المشترك، وتستكمل الأحزاب الليبرالية؛ الدستور، والإصلاح والتنمية والمحافظين معركتهم كتيار ليبرالي، وتنضم أحزاب اليسار؛ التحالف الشعبي الاشتراكي والحزب الاشتراكي المصري والعيش والحرية في تحالف مشترك.
ويأتي السيناريو الثالث، الأكثر ملائمة للحظة الراهنة، الكاشفة عن ضعف الأحزاب وتناقض قيادات المعارضة وارتباك حساباتهم، لتبقى الحركة المدنية كما هي، فيها أحزاب التيار الحر، ولكن تظل كيانًا غير مترابط، خاصة مع عجز الحركة المتوقع عن اتخاذ مواقف موحدة في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية، لتنقسم أحزابها في قوائم متنافسة. لكن ستبقى الحركة كيانًا تستدعيه المعارضة في حالات البحث تفاوض بين الأحزاب والسلطة.
سيبقى التيار الحر ويخوض معركته وحيدًا لحين خلاص رئيس مجلس أمناءه وخروجه من محبسه، وسنترقب قدرة مؤسسيه على تكوين تحالف انتخابي لاحقًا، أو التوافق على مرشح للانتخابات الرئاسية المرتقبة.