لأن نتيجة الانتخابات الرئاسية المقررة ربيع العام المقبل تبدو معروفة سلفًا، وسيبقى الرئيس عبد الفتاح السيسي في منصبه ستة أعوام أخرى لأسباب كثيرة، فإن المطلوب من قوى المعارضة المصرية أن تحدد أولوياتها والفوائد التي قد تعود عليها من تلك التجربة لو قررت خوضها مجتمعة لدعم مرشح بعينه، وهو أمر لا يزال يبدو صعبًا حتى الآن.
وعلى رأس هذه الأولويات أن يقدم المرشح الذي قد تدعمه نموذجًا مختلفًا في الطرح والبرامج عما اعتدناه طوال العقود الماضية، وأن تساهم مساندته في تحول تدريجي بطيء نحو بناء دولة ديمقراطية يمكن أن تشهد يومًا ما انتخابات رئاسية تعددية حقيقية لا تكون نتيجتها معروفة سلفًا. وهذا يتطلب ألا تبحث المعارضة في دفاترها القديمة، وتعيد تكرار تجارب ثبت فشلها، بل وخطرها، وأن تقدم وجوهًا جديدة لخوض الانتخابات المقبلة، خاصة لو تحقق الحد الأدنى من الضمانات التي قد تشي بنزاهتها.
حتى وقتنا هذا، فمؤشرات أننا بصدد انتخابات تنافسية حقيقية ضئيلة، إن لم تكن تشي بأننا بصدد تكرار تجربة 2018 التي انتهت عمليًا إلى كونها استفتاءً على تجديد فترة الرئيس، بعد أن خاض منافسة ضد مرشح رمزي قال إن برنامجه هو دعم خطط السيسي ومشروعه التنموي. كما أن الأوضاع الاقتصادية الصعبة والظروف الإقليمية شديدة الاضطراب، خاصة في أعقاب ما يجري في الجارة السودان، ستقوي بلا شك من ضغوط الأطراف المؤثرة داخل السلطة التي ستردد أن الظروف غير ملائمة الآن لأي انفتاح سياسي ولو ضئيل، يعبر عن نفسه خلال الانتخابات الرئاسية المقبلة.
فحقيقة أننا بصدد إطلاق مسار ما يسمى بـ"الحوار الوطني" مطلع الشهر المقبل بينما تتواصل حملات القبض على المواطنين وإحالة آخرين للمحاكمة لتعبيرهم عن آرائهم عبر السوشيال ميديا أو في مقالات ومقابلات صحفية مؤشر شديد السلبية، له انعكاساته على الانتخابات الرئاسية التي سيتم فتح باب الترشح لها في نهاية يناير/كانون الثاني 2024.
"الاستمرار من أجل الاستقرار"
يبدو أنه لم يتم اتخاذ قرار سياسي بعد بفتح صفحة جديدة مع المعارضة المدنية السلمية التي تعمل في إطار الدستور والقانون، وأن القبضة ستبقى محكمة في مواجهة كل أشكال المعارضة، كما يشي بذلك تمسك الأجهزة الأمنية المعنية برفض الإفراج عن مجموعة السجناء السياسين المحتجزين منذ سنوات طويلة، مثل أحمد دومة وعلاء عبد الفتاح ومحمد الباقر ومحمد أكسجين، الصادرة بحقهم أحكام نهائية ويحتاجون عفوًا رئاسيًا، بجانب مجموعة من المحبوسين احتياطيًا لفترات تتجاوز الأربعة أعوام.
مثَّلت ثورة يناير نقطة تحول مهمة وأعطت بعض الأمل أننا في سبيل الانتقال إلى جمهورية جديدة بالفعل
فالأجهزة المعنية التي أوعزت للرئيس ووافقته على تعديل دستور 2014، الذي نص بوضوح صارم على أن مدة الرئاسة يجب ألا تتجاوز فترتين بإجمالي ثماني سنوات، لم تقم بتلك الخطوة إلا لكي يبقى الرئيس في منصبه حتى العام 2030 على أقل تقدير، تأثرًا بتقليد رسخه نظام يوليو 1952 بأن يظل الرئيس في منصبه حتى يشاء الله، وأن أي تغيير في رأس السلطة مضر بالاستقرار وكفاءة الدولة.
وهناك آلية ما في دولة يوليو تجعل من كل رئيس يشغل هذا المنصب شخصًا لا يمكن الاستغناء عنه، ولا بديل له سوى الفوضى.
مثَّلت ثورة يناير نقطة تحول مهمة في هذا الصدد وأعطت بعض الأمل أننا في سبيل الانتقال إلى جمهورية جديدة بالفعل، تختلف في قواعد إدارتها عما عهدناه منذ 1952 من الاستفتاءات المزورة التي تنتخِب فيها الأجهزة الأمنية نيابة عن المواطنين. ولكنها كانت تجربة قصيرة للغاية، بل تم استغلال نتيجة انتخابات 2012 الرئاسية بفوز الرئيس الإخواني الراحل محمد مرسي، لتحذير المواطنين من مجرد التفكير في تكرارها بزعم أن الانتخابات السيئة المضرة أتت لنا في النهاية بالإخوان، الذين دفعوا البلد نحو الحرب الأهلية وفشلوا فشلًا ذريعًا في إدارتها.
ومنذ 2014، عاد الترويج بقوة لنظرية أهمية الحفاظ على استقرار منصب الرئاسة كما عهدناه طوال عقود ثلاثة في فترة مبارك، وقبله السادات وناصر. ولا توجد أية مؤشرات ذات مصداقية حتى الآن أن هناك أي شروخ في عمل تلك الآلية، سوى التقارير المتكررة التي تبثها القنوات والمواقع الإخوانية التي لم تتجاوز حتى الآن مرحلة 3 يوليو 2013، وتعتبر أن لديها ثأرًا شخصيًا ضد الرئيس عبد الفتاح السيسي الذي عينه الرئيس الراحل مرسي وزيرًا للدفاع ثم "انقلب" عليه.
وفي هذا السياق، فإن النظرية المتداولة هي أن الإخوان وداعميهم سيقبلون بأي رئيس آخر لمصر سوى السيسي، حتى لو أتي من داخل نفس المؤسسة العسكرية، ولم يتبن سياسة جوهرية مختلفة تجاه الجماعة على المدى القصير.
هل يفل الحديد الحديد؟
في انتخابات العام 2018، روج البعض لنظرية مفادها أنه "لا يفل الحديد إلا الحديد"، وأن لو تم دعم ومساندة مرشح له خلفية عسكرية من داخل المؤسسة ويتمتع بعلاقات عربية ودولية، ربما تكون له فرصة في منافسة الرئيس السيسي.
ومن هذا المنطلق، لم يكن قادة جماعة الإخوان وحدهم من عبّروا عن استعدادهم لدعم مرشحين مثل الفريق أحمد شفيق، آخر رئيس وزراء عينه الرئيس الأسبق مبارك قبل إجباره على التنحي، أو الفريق سامي عنان، نائب رئيس المجلس العسكري بعد ثورة 25 يناير ورئيس الأركان لسنوات طويلة في عهد مبارك، بل إن بعض رموز القوى المدنية التي دعمت ثورة 25 يناير ضد مبارك أيدوا الخيارات نفسها، ورفضوا دعم المرشح المستقل المدني الوحيد المنتمي لثورة يناير، المحامي الحقوقي خالد علي بزعم أنه لا توجد لديه أي فرصة للمنافسة.
اعتبرت الأجهزة المعنية أن التقدم بمرشحين من نوعية سامي عنان وأحمد شفيق هو لعب بالنار، وتم ترحيل الفريق شفيق من الإمارات إلى مصر، حيث التزم الصمت التام منذ وصوله، بينما تم القبض على الفريق عنان ومحاكمته وسجنه.
في الأجواء الحالية مؤشرات وتحركات توحي أن هناك نية لتكرار تجربة 2018
بعض رموز القوى المدنية الذين أعلنوا عن تأييدهم لشفيق أو عنان تناسوا أنهم تظاهروا لأسابيع في ميدان التحرير من أجل إقالة شفيق بعد تنحي مبارك، وأنهم كالوا الاتهامات لعنان بالمسؤولية عن تسليم السلطة عمليًا إلى الإخوان من خلال التنسيق اللصيق مع قادتهم أثناء فترة وجوده في المجلس العسكري. ولكن متطلبات السياسة من وجهة نظرهم والرغبة في البحث عن مرشح بديل قادر على منافسة الرئيس الحالي فاقت تمسكهم بمشروع بناء الدولة المدنية الديمقراطية الحديثة.
كان التساؤل الرئيسي بالنسبة لي في تلك الفترة هو من أين جاءت القناعة أساسًا بأن الانتخابات ستكون مفتوحة ونزيهة لدرجة تسمح بمنافسة حقيقية مع الرئيس الحالي، بل وفوز مرشحين من نوع شفيق وعنان؟ وانتهى الأمر بخالد علي إلى اتخاذ قرار بإنهاء حملته الانتخابية لأنه لم يرغب أن يلعب دورًا تجميليًا يعطي انطباعًا أن هناك انتخابات تنافسية حقيقية بينما الواقع غير ذلك.
في الأجواء الحالية مؤشرات وتحركات توحي أن هناك نية لتكرار تجربة 2018، والعودة للبحث عن مرشح من داخل المؤسسة الحاكمة تكون لديه القدرة على مناقسة الرئيس الحالي الذي يقولون إنه يتعرض لضغوط إقليمية ودولية قوية بسبب تدهور الأوضاع الاقتصادية، والعودة للحديث مجددًا عن احتمال عجز مصر عن سداد ديونها الخارجية. ولكن المعارضة المدنية ستخسر كثيرًا من مصداقيتها لو قبلت المشاركة في هذا المقامرة المحفوفة بالكثير من المخاطر في أوقات إقليمية ودولية شديدة الصعوبة.
والخيار المثالي الذي سيكون تحققه أمرًا شديد الصعوبة، خاصة في ظل غياب الضمانات لعقد انتخابات نزيهة، هو أن تتمكن المعارضة المدنية من الاتفاق على مرشح واحد يمثل برنامجها البديل والداعي بشكل أساسي إلى بناء دولة تحترم الدستور والقانون وحقوق المواطنين، بدلًا من الانجرار وراء أوهام لن تتحقق ولن تتسامح معها الأجهزة المعنية غالبًا، كما فعلت في العام 2018.