في عام طرح البدائل السياسية يغدو الجدل الساخن حول الانتخابات الرئاسية المقبلة 2024 طبيعيًا ومشروعًا.
على خلفية أزمة اقتصادية خانقة، وغلاء يضغط على أعصاب الطبقات الفقيرة والمتوسطة، ووسط حصار صارم فرضته السلطة الحالية على المجال العام منذ عدة سنوات، وقيود شديدة على الحريات العامة، ووجود الآلاف من سجناء الرأي، يترقب المصريون ماذا يمكن أن يحدث خلال العام المؤهل للانتخابات الأهم؛ رئاسة الجمهورية، والتي ستبدأ إجراءاتها في نهاية مارس/آذار من العام المقبل.
في الجدل الذي بدأ، والحوار الذي سيستمر طوال العام الحالي، يبدو أن هناك سؤالين هما الأكثر جدلًا وسخونة، والأكثر انتظارًا لاجتهادات كل المهتمين بالحياة العامة لتقديم إجابات مقنعة للمصريين الذين ينتظرون القادم، ويحلمون بأن أصواتهم في الانتخابات يمكن أن تشارك في صناعة مستقبلهم.
مشاركة أم مقاطعة؟
لكل فريق أسبابه المقنعة ومبرراته المنطقية.
أنصار المقاطعة يعتبرون أن المناخ العام لا يسمح بانتخابات نزيهة، وأن السلطة الحالية تسيطر على المجال العام بقوة، وكما لم يحدث في تاريخنا الحديث كله، ثم إن الإعلام ليس حرًا، وليست هناك ضمانات كافية لحياد أجهزة ومؤسسات الدولة في أي انتخابات، كل هذه المقدمات تدعو، حسب فريق المقاطعة، لعدم التفكير في خوض انتخابات محسومة مسبقًا لصالح السلطة الحالية.
في المقابل يرى فريق المشاركة أن دخول الانتخابات في حد ذاته، وبصرف النظر عن النتيجة، مكسب سياسي مهم، يسمح لقوى المعارضة الديمقراطية بنشر أفكارها، والالتقاء المباشر بالناس الممنوع الاتصال بهم منذ سنوات، ثم إنها فرصة لنشر بدائل سياسية واقتصادية مقنعة للناس، والتواصل مع كتلة شعبية واضحة ستتبلور خلال الانتخابات وتدعم وتؤيد مشروع التغيير السياسي.
هؤلاء يرون أن دخول الانتخابات له حد أقصى هو الفوز في النتيجة، وحد أدنى هو التواجد السياسي القوي لأول مرة منذ سنوات في أعقاب إغلاق المجال العام، ويعتبرون أن الحد الأدنى مكسب لا يستهان به، حتى في حالة خسارة الانتخابات.
وبين جدل المقاطعة والمشاركة يبدو الخلاف ليس مبدئيًا أصلًا، فهو خلاف في "التكتيك" بلغة أهل السياسة، خلاف في الطريقة وليس في الطريق، فالفريقان متفقان مبدئيًا على ضرورة التغيير، وعلى انتقاد السياسات الحالية بشكل حاسم، وعلى أهمية تجديد شرايين البلد السياسية التي تيبست أو كادت.
لكن الأهم هو التأكيد على حق كل فريق في الدفاع عن وجهة نظره دون انتقاص من الفريق الآخر، بل وربما يغيِّر أيهما رأيه ويمسي أكثر انحيازًا للرأي الآخر كلما اقتربت الانتخابات، وكلما اتضحت الرؤية أكثر، وبان ما إذا كان الأكثر تعبيرًا عن اللحظة السياسية المقاطعة أم المشاركة؟
خلال المتابعة لكل التفاصيل التي ستتضح خلال العام الحالي سيبني كل فريق، بل كل مواطن، قناعاته من حدث يبقى مهمًا مهما كانت الملاحظات والانتقادات المقنعة، والحصار الكبير الذي تفرضه السلطة على المشهد العام.
هل التغيير عن طريق الانتخابات ممكن؟
كثير من تجارب الأنظمة الاستبدادية والسلطوية في العالم جاءت هزيمتها في الانتخابات بشكل لم يتخيله أحد، بما فيهم هذه الأنظمة ذاتها، فسيطرتها وتسلطها على مجتمعاتها كان أقسى من أن يتخيل أحد أن التغيير ممكن، ولكن جاءت الرياح بما لم تشته سفن هذه الأنظمة التي تلقت هزائم مؤلمة في انتخابات ظنت أنها محسومة قبل أن تبدأ.
المشترك في كل هذه الانتخابات أنها جاءت على خلفية أزمات اقتصادية حادة، وحصار كامل للحريات العامة، وتسلط كبير على كل المؤسسات والأفكار بشكل قاس وغير طبيعي.
دول أمريكا اللاتينية كانت الأكثر وضوحًا في التغيير السياسي عن طريق الانتخابات، وفي أعقاب أزمات اقتصادية خانقة، وتراجع كبير في مستوى المعيشة دفع الغالبية من المواطنين إلى الانحياز لفكرة "التغيير".
المؤكد أن التغيير عن طريق صناديق الانتخابات هو تغيير دستوري وآمن، وتعبير عن احترام إرادة الناس، وفرصة لترسيخ مبادئ التداول السلمي للسلطة، وهي المبادئ التي تضمن نزاهة الحكم، وخضوعه للمساءلة والمحاسبة القانونية والشعبية، ولعل أي حديث عن إمكانية التغيير السياسي عن طريق الانتخابات في الحالة المصرية يلزمه تحقق عدد من الشروط التي تضمن نزاهة وعدالة المنافسة الانتخابية أولًا.
هذه الإجراءات تبدأ بضمان الإشراف القضائي الكامل على الانتخابات
قبل الحكم على إمكانية التغيير السياسي عن طريق الانتخابات تبدو قضية حرية الانتخابات نفسها، وضمانات إجرائها بشفافية هي الخطوة الأولى والحاسمة، والتي يمكن عن طريقها إصدار الأحكام القاطعة حول إمكانية التغيير السياسي عن طريق الصناديق.
في التفاصيل حول نزاهة الانتخابات لا يمكن تجاهل عدد من الإجراءات الهامة والرئيسية التي تضمن للناس أنهم أمام عملية ديمقراطية حقيقية، ويمكن عن طريقها إقناع الناس أن الانتخابات ليست محسومة مسبقًا لأي طرف، هذه الإجراءات تبدأ بضمان الإشراف القضائي الكامل على الانتخابات بداية بفتح باب الترشيح ومواعيد التقديم مرورًا بالحملات الانتخابية والحد الأقصى للإنفاق وحتى فرز الصناديق في اللجان الفرعية وإعلان النتائج.
هذا الإشراف القضائي يلزم بجانبه حياد كامل من مؤسسات وأجهزة الدولة، والسماح بمتابعة دقيقة وجادة من مؤسسات حقوقية دولية ومصرية على العملية الانتخابية برمتها، ومساحات متساوية لجميع المرشحين في وسائل الإعلام، فضلًا عن ضمان حرية الحركة للحملات الانتخابية بلا تضييق أو تخويف من الأجهزة الأمنية.
هذه الخطوات هي التي تضمها الاتفاقات الدولية لنزاهة الانتخابات، وهي التي تطبقها كل الدول التي تحترم مواطنيها وحقهم في التصويت الحر، وفي اختيار من يحكمهم، فضلًا عن حق الشعوب في اختيار مستقبلها وصناعته عن طريق التصويت الحر.
هذه الإجراءات والخطوات هي الضمانة المؤكدة لأي انتخابات نزيهة وشفافة، وهي ضمانات قانونية ودستورية تصون إرادة المواطن وتحميها، وتحترم المواطن وإرادته، وتحمي الدستور روحًا ونصًا، وهي الشرط المؤكد الذي يمكن بعده إجابة السؤال: هل التغيير بالانتخابات ممكن.