"هزيمة هذا النظام ربما تكون خيرًا للبلد من انتصاره، حتى لو كان ذلك يعني رجوع النفوذ الغربي، وأيًّا كان الذي يحكم، أريد فقط أن يعيش كل مواطن، متمتّعًا بالحرية والكرامة البشرية".
عبارة مرعبة بحق، وردت في سياق نقاش بين بطل رواية نجيب محفوظ السمان والخريف، عيسى الدبَّاغ، ورفاقه السابقين من أعضاء حزب الوفد "المنحل آنذاك"، إثر قرارات يناير/كانون الثاني 1953.
كان الدبّاغ، الذي مارس السياسة ناشطًا في حزب الأغلبية، قبيل ثورة الضباط الأحرار في 23 يوليو/تموز 1952، فُصِل من وظيفته، بمقتضى تقارير أمنية، نظرًا للتوجس من ولاءاته السياسية، فإذا بأحلامه تذهب هباءً منثورًا، فالتاريخ حين يقفز قفزاته الواسعة لا يبالي بأولئك الذين يسقطون من فوق ظهره، وفق تعبير محفوظ ذاته، وكان الدباغ ليس كفرد، وإنما كتيار شاب مثقف، من أبرز الساقطين.
سقوط حدا به إلى أن يهجر القاهرة، هربًا من ذكرياته، وتجنبًا للاحتكاك بشعارات مرحلة لا يجد نفسه في متونها، فلاذ بالإسكندرية التي كانت لا تزال مدينة الأجانب، فتوثقت وشائج علاقاته بهم، حتى صاروا أقرب إليه من بني جلدته، وغدا يعيش حياة عبثية غريزية، عازفًا عن الشأن العام، حتى باغته صوت "زعيم الأمة الجديد" الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، متدفقًا من المذياع، بقرار تأميم قناة السويس، ومن ثم إعلان العدوان الثلاثي على مصر سنة 1956، فما كان إلا أن ارتفعت حرارة اهتمامه مجددًا، فاستقل القطار ليجتمع مع رفاق النضال السابق بمقهى ما في وسط القاهرة، ليطرح السؤال: ما موقفنا إزاء هذه التيارات المتلاطمة؟
ولمّا ردَّ أحدهم بأن هزيمة النظام، قد تكون أفضل من انتصاره، خيّم وجوم ثقيل على الحاضرين، في حين دغدغت الإجابة شيئًا من سريرة الدباغ، لقد كانت روحه تتمزق بين نازعين متصارعين، الأول حبه للوطن الذي حلم أن يكون أفضل، والثاني حقده على النظام الذي قهره.
ومع أخبار استبسال المقاومة في بورسعيد، أحس الدبّاغ أن الأسوار بينه وبين "جمهورية الجنرالات" تذوب، وأن نبع الحماسة في أعماقه يجري هادرًا، إلى حدِّ أنه صار يتوق إلى حمل السلاح مع الفدائيين في مدن القناة، غير أنه بعد انسحاب العدوان، وخروج النظام أقوى مما كان، وما ترتب على ذلك من المزيد من التهميش والإقصاء، استوطنه شعور بأن الأسوار عادت مكانها، وصارت أعلى وأرسخ، وهكذا غامت الحياة والمستقبل والآمال مجددًا، واكتنف اليأس وانعدام القيمة والجدوى، كل شيء.
ذاك المشهد المحوري من الرواية، التي أصدرها محفوظ عام 1962 لترمي حجرًا ثقيلًا في بحيرة السياسة الراكدة، أو ربما ليقذف الديكتاتورية بذاك الحجر، كان بمثابة قرع لأجراس الخطر مبكرًا: انتبهوا أيها السادة، إن حكم الصوت الواحد يجتث جذور الوطنية من "طينة الوطن" وقلوب الناس، فإذا بهم حيث يتعرض صميم الحياة (حياتهم) لتهديد وجودي، على غرار "غزو خارجي" يقفون مشتتين بين الكراهية ونداء الوطنية.
تجسيد واقعي لنبوءة محفوظ
بعيدًا عن الرواية، وقريبًا منها كذلك، في الأمس القريب، خرج المقهورون المقموعون من أبناء الشعب العراقي، في 9 مارس/آذار 2003 لاستقبال جنود الاحتلال الأمريكي بالورود، بعد إسقاط نظام الرئيس الأسبق صدام حسين، ما يوحي بأن نبوءات أديبنا الراحل قابلة للتحقق في أي زمان ومكان على أرض الواقع.
الثابت يقينًا أن القوة الغاشمة، تستحضر في ضمائر الناس "عفاريت الرغبة" في هدمها، بأي وسيلة وبغض النظر عما ستؤول إليه الأمور لاحقًا، فالمقهورون يرومون التشفي ممن قهرهم، فلا تستقصي أو تستفسر عندئذٍ عن عناوين مثالية رومانسية، على شاكلة الوطنية والتضحية والفداء... إن الطغاة كما يقول الكواكبي في طبائع الاستبداد يجلبون الغزاة.. أو الخراب والفوضى لا فرق.
على أن الأكثر دراماتيكية، حتى من خيالات محفوظ، ومن مقولات الكواكبي، ما حدث فور إعلان سقوط صدام، حيث خرجت أفاعي الجنون من جحورها، فإذا بالمقهورين الذين رزحوا تحت بطش صدام عقودًا، يطلقون قوةً تدميريةً شاملةً وهوجاء، فاجتاحوا المتاحف، وأمعنوا في شواهد حضارتهم وتراث أسلافهم تخريبًا، ودمروا المنشآت الحكومية، ضمن ميلودراما سوداء، لا يتسنى تأويلها إلا بأن القمع والقهر وبتر الألسنة والحكم وفق مبدأ "لا تناقش ولا تجادل"، دفعهم لا شعوريًا في لحظة بغير عقل إلى ذلك، وأن النظام السياسي الذي أشاع الرعب، وانتزع من الإنسان كرامته، قد "سرطن" المجتمع، فصار يأكل بعضه بعضًا.
إنه حصاد الديكتاتورية المُسمَّم، وإنه الإرهاب ولقد كان نظام صدام إرهابيًا بامتياز، إذ ماذا يفعل الإرهاب أكثر من أن يجعل الإنسان يقمع نفسه بنفسه؟ ماذا يفعل أكثر من التنكيل به إذا عبّر عن ذاته؟ ماذا يفعل أكثر من بث العسس هنا وهناك فإذا بالجار والأب والابن والزوج يتجسسون على بعضهم بعضًا؟ وماذا يفعل من قبل ومن بعد أكثر من إشاعة الشكوك والضغائن والكراهية بين الناس؟
ميلودراما عنوانها العريض أن السلطة المطلقة ليست مفسدة مطلقة فحسب بل مَهلكة
شاعرنا العراقي أحمد مطر يطرح إشكالية التضحية من أجل الوطن، في سؤال شعري، مباغت كوجع الضرس، وليس شاعريًا على الإطلاق "نموتُ.. نموتُ ليحيا الوطن/ يحيا لمَنْ؟ /لابن زنى يهتكه/ ثم يقاضيه الثمن".
الحب ليس دفقة سائبة ذات اتجاه واحد، وليس حركة محكومة بقانون القصور الذاتي، بل إنه عملية "خذ وهات"، بمعنى أن الناس لا يحبون الوطن، ولا يستصغرون التضحية من أجله، إلا إذا أحسوا أنهم شركاء، ولهم فيه مثل ما عليهم.
بعد انهيار نظام صدام، وتفتت قبضته الفولاذية، أو التي بدت كذلك، تلاحقت الانتكاسات في بلاد الرافدين، بدءًا بالاضطرابات الطائفية بين الشيعة والسنة، وتفشي الراديكالية المتطرفة، إثر سيطرة تنظيم الدولة "داعش" بكل ما يمثله من بربرية، على مساحات واسعة من الأرض، حتى طالعنا مشاهد حز رؤوس أبناء الشعب الواحد، على صيحات التكبير، وصولًا إلى انسلاخ إقليم كردستان عن الوطن الأم.
ميلودراما عنوانها العريض أن السلطة المطلقة ليست مفسدة مطلقة فحسب، بل مَهلكة.. مهلكة ستقع لا محالة في لحظة ما، قد تتأخر لكنها بقدر تأخرها، ستأتي أشد فظاظة وتكلفة.
قدمان راسختان من الديكتاتورية
وقت سقوط تمثال صدام حسين، في ساحة الفردوس، قال ماجد عبد الهادي مراسل قناة الجزيرة آنذاك، عبارة جامعة مانعة، في بث مباشر من موقع الأحداث "سقط التمثال.. وبقيت له قدمان راسختان في الأرض".
عبقرية العبارة تكمن في أنها خرجت عفوية وسريعة، كومضة برق، في مشهد استثنائي ملتبس إلى أقصى حد، وكذلك في اختزالها ما كان وما سيكون، فالقدمان الراسختان هما قدما الديكتاتورية التي جرّفت إمكانية التعايش، ومسخت الإنسان إلى حد أنه كَفَرَ بما يمثله الوطن، وكأن لسان حاله كالمثل الشعبي المصري، الذي يبدو من الإفرازات المنحطة لانفتاح السادات "إن وقع بيت أبوك خد منه قالب".
لم يكن صدام والذين معه من البعثيين يظنون في أسوأ كوابيسهم أن تتمشَّى دبابتان أمريكيتان فحسب، في شوارع عاصمة الخلافة، دون أدنى مقاومة شعبية، ولم يكن وزير إعلامه محمد الصحَّاف، وهو يلقي بيانه الصحفي الأخير قبيل الغزو بنحو ساعة، فيشتم "علوج الأمريكان"، يتخيل أنه ومن معه سيسقطون من فوق ظهر التاريخ، بعد محض دقائق.
الإصرار على المسارات والآليات ذاتها ينذر بفتح الأبواب أمام عواصف جامحة
ولكن أنظمة الرؤية الواحدة والرأي الواحد، لا ترى إلا انعكاس صورتها، في مياه النهر، تمامًا مثل أسطورة الفتى نرسيس، الذي مات مطرقًا في إعجاب إلى صورته المنعكسة على صفحة الماء، فنبتت في مكانه أزهار بنفسجية، ومن ذلك اشتقت مفردة النرجسية، ونظرياتها في حقول علم النفس.
في مصر الآن، ثمة انتخابات رئاسية، تبدو، أو المؤكد، أنها محسومة سلفًا، لكن يبقى السؤال حول "ما بعدها" مهمًا ومحوريًا، وذا تأثير كبير على المستقبل، ما يجعل طرحه بغير مواربة فرض عين وطنيًا، على جميع المنشغلين بالشأن العام.
من نافلة القول إن أحدًا لا يريد لمصر سيناريو فوضى، في وقت بالغ الحساسية، إذ لا تستنكف النخبة السياسية والعسكرية في الحكومة الإسرائيلية اليمينية، عن الطنطنة بحديث تهجير الغزيّين إلى شبه جزيرة سيناء، وإذ تضغط الأزمة الاقتصادية على خلق الله، كما لم تضغط من ذي قبل، وإذ تمثل قضية سجناء الرأي أزمة لا تنتهي، أو لا يُراد أن تنتهي، وإذ لا تشهد حرية التعبير والممارسة السياسية، الحد الأدنى من الانفراج المنشود.
ما ينبغي أن يكون في الأعوام الستة المقبلة، ليس ما كان، منذ الثلاثين من يونيو حتى اللحظة الراهنة، والإصرار على المسارات والآليات ذاتها، ينذر بفتح الأبواب أمام عواصف جامحة، ويهدد بقفزة هائلة للتاريخ.
إن مؤيدي السلطة المصرية الراهنة يرفعون في وجوه الذين يقفون على ضفة معارضته، عبارة "مش أحسن من سوريا والعراق؟"، وهذه كلمة باطل يراد بها باطل، ذلك أن السير على القضبان ذاتها، لن يؤدي إلى محطة أخرى، والمطلوب الآن، وبإلحاح، أن تتخذ السلطة أو العقلاء فيها من الإجراءات ما يضمن حماية هذا الوطن من أي سيناريوهات على غرار ما رأيناه بالأمس القريب، بعيون مشدوهة مفزوعة وحزينة ودامعة في بلاد الرافدين.