يسألونك عن غزة.. هي مذبح أصنام العالم القديم
الحرب في غزة لحظة اختبار كبيرة للنظام العالمي. أو بعبارة أخرى، هي النفق الذي دخله النظام العالمي وسيصبح منه على نهار جديد. الانتفاضة الغربية المجنونة عقب 7 أكتوبر أفرغت ما بقي من مصارين هذا النظام من رايش القيم، لدرجة وقوف ماكرون، قبل أن يعود إلى بعض رشده، إلى جانب نتنياهو في مؤتمر صحفي مطالبًا بتشكيل تحالف دولي يخوض الحرب، مثل أيِّ تافه يهرول على خشبة المسرح صائحًا: إنها الحرب، أرجوكم لا تذهبوا من دوني.
بدأ هذا النظام عندما أعلنت القنبلة النووية نهاية الحرب العالمية الثانية، بطريقة أوضحت للجميع أنَّ زمن تسيَّد العالم بقوة السلاح انتهى. بَنَت أمريكا إمبراطوريتها بـ"قوة الفكرة". يحتاج العالم إلى هدنة طويلة ليلتقط أنفاسه بعد حرب قاسية، قبل أن يبني عالمًا جديدًا يحتاج إلى قيم تحرسه.
صنعت أمريكا هذه القيم التي ترفع من شأن كل ما يرتبط بالإنسان ورفاهه وأحلامه، وتقدم للعالم والبشرية "الخلطة السرية للحياة الجديدة" على طريقة كنتاكي، ببهاراتها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية.
من هذا الذي لن يرى سعادته في الديموقراطية والليبرالية والسوق المفتوحة وتقديس حقوقه الفردية كإنسان؟ حسم الأمريكيون صراعهم مع السوفييت بهذا النموذج دون أن يتكبدوا عناء إطلاق رصاصة واحدة في مواجهتهم، لا تستهن بقوة الفكرة.
ولكنَّ أبلهًا تصدّر المشهد في بداية هذا القرن، فتورط في مستنقع العراق وأفغانستان سعيًا إلى حماية الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين من التهديدات الإرهابية، والتخلص من أعدائه وأعداء إسرائيل في المنطقة، ودفع دول المنطقة لتبني منظومة منفتحة اقتصاديًا، وأكثر ليبرالية وعلمانية، لتخفيف وطأة العداء للغرب المتفشية في المنطقة.
هذه الحروب كانت بالضبط ضد الفكرة الثمينة التي مكّنتهم من الانفراد بحكم العالم لعقود، ولكن ربما رأوا، مثلما يعتقد الإسرائيلي اليوم، أن 11 سبتمبر تمثل تهديدًا كبيرًا لفكرة السيطرة نفسها.
الطريقة التي شنّوا بها الحرب والقيّم التي روّجوا لها تواجه لعنة كبرى اسمها كشف الزيف. يؤكد الدكتور محمد البرادعي الذي كان رئيسًا لوكالة الطاقة الذرية آنذاك عدم وجود دليل قاطع على امتلاك العراق أسلحة دمار شامل لحظة غزوه. هذا تصريح مهم ولكنَّ التصريح الأهم قاله ترامب في 2016 في مناظرة انتخابية؛ "لقد ذهبوا للعراق وهم يعلمون أنه لم يكن هناك أسلحة دمار شامل"، وقامت الدنيا ولم تقعد بسبب عبارة "هم يعلمون".
الدولة العظمى اختلقت، حسب رئيسها السابق، دليلًا كاذبًا ونشرته وبرَّرت به احتلالًا تسبب في قتل الملايين، وتفشّي الجماعات المسلحة، وانتهى بالتخلي عن العراق لأعدائها وأعداء طفلتها المدللة. هذه الحرب كانت ضد الفكرة، أفسدت "خلطة كنتاكي"، وكانت بداية غير منظورة لتغيّر في النظام العالمي يحدث على مهل.
جاء أوباما وتبنَّى طريقًا عكسية بعدما أيقن أن التورط لا يصب في مصلحة مستقبل الإمبراطورية، فأراد أن يقدمها مرة أخرى وسيطًا نزيهًا، وبالتالي قلص الاستثمار العسكري والسياسي في الشرق الأوسط، وبالتوازي قدم مبادرات للتعامل مع القضايا الكبرى مثل إيران والإرهاب والقضية الفلسطينية.
الفشل مع بوش والانسحاب مع أوباما قدَّما لروسيا موطئ قدم جديدًا فى المنطقة، وسمحا لإيران بإعادة التموضع في الشرق الأوسط، فأطبقت على الطاولة ولملمت الأوراق فى حجرها، أو ربما سقطت في حجرها لأنها كانت معدة لذلك. ولأن أوباما لم يمانع، بل حاول التطبيع معه بإنجاز الاتفاق النووي، انزعج الحلفاء الآخرون في المنطقة وتيقنوا أنه لم يعد بإمكانهم الاعتماد على الولايات المتحدة كما اعتادوا سابقًا، فتنامت قوة تركيا والإمارات.
وكان على إسرائيل أن تُكيَّف أوضاعها في ظل هذا التوجه الأمريكي الجديد، وبالتالي تعنَّت نتنياهو مع كلِّ مسعىً أمريكي للوصول لحل، توسَّع في الاستيطان وأحكم الحصار على غزة، ولكن بالتوازي زادت قوة حماس مع توسّع إيران في بسط أذرعها، وكأن الانفجار يُعدُّ على مهل.
حينها، قرع الوحش الصيني باب النظام العالمي بهدوء تام.
نموذج عملاق بطيء
حضر الصيني ومعه تجربة نجاح اقتصادي/اجتماعي متفرِّد، موديل جديد يحتاج لبعض الرتوش والتسويق والجاذبية ليصطاد زبونه "ويُرقِّي نفسه ويبقى نمرة واحد"، حسب نظرية البهظ بيه. الشروخ الناجمة عن الانكسارات الأمريكية ينفذ منها الصيني دون عناء، والوقت في صالحه طالما الغبيُّ متصدر العالم يطلق الرصاص على قدميه ويدمر فكرته.
في ظل الخراب العائم ينفجر السجن الكبير في غزة تعبيرًا عن تآكل النظام العالمي منذ سنوات
في مارس/آذار 2023 وبهدوء تام، أنجزت الصين اتفاقًا تاريخيًا بين إيران والسعودية، بعد ست سنوات من العمل الدؤوب. قدّمت الصين نفسها للعالم دولة فاعلة في حل الأزمات.
يحارب الأمريكيون الصين علانية بضراوة. هدد ترامب أوروبا عام 2020 بأنها قد لا تتمكن من تبادل المعلومات المهمة مع واشنطن إذا سمحت لشركة هواوي بتشييد البنية التحتية لشبكات الجيل الخامس، مع رفض ألمانيا وبريطانيا وفرنسا دعوات حظر شركة الاتصالات الصينية المملوكة للدولة من المشاركة في شبكات الجيل الخامس التي يجري تشييدها بالفعل.
وقعت ألمانيا اتفاقها مع هواوي للشروع في تنفيذ المشروع على خلاف الرغبة الأمريكية عام 2019. ومع صعود الصين، النموذج والقوة السياسية والدبلوماسية والاقتصادية، واستقلال القرار الأوروبي نوعًا ما عن الإرادة الأمريكية وعدم مساندتها في مواجهة عدوها الجديد، وتحالف هذا العدو مع العدو الآخر الروسي الذي يتنامى نفوذه وقوُّته وتمتد سيطرته وتحالفاته، في الأقاليم التي تركتها الولايات المتحدة، جن جنون الأمريكي وقرر خوض الحرب بكل الطرق.
الفكرة الأمريكية في مهب الريح، لن تجدي سياسة الاحتواء طويلة الأمد نفعًا مع قوة اقتصادية وسياسية، مثل الصين، مندمجة في سلاسل التوريد العالمية وتتعاظم تكنولوجيًا. يعتمد الأمريكيون إجراءات تتنافى تمامًا مع قواعد السوق المفتوحة التي لطالما تبنوها واستفادوا منها، ضوابط على التصدير، تعريفات جمركية، وقيود على الاستثمار.
أما الإجراءات الأهم فتذهب لمحاولة منع الصين من اللحاق بالتفوق التكنولوجي الأمريكي؛ فتُدرج شركات التكنولوجيا الصينية في قائمة سوداء لتُفرض عليها قيود تصدير مشددة.
يصمم ترامب على توسيع الناتو بضم دول أخرى بحيث لا يقتصر على القارة الأوروبية والأمريكية الشمالية، ويصعِّد من ضغوطه على الأوروبيين لتزيد مساهمتهم المالية في دعم ميزانية الحلف، ويطلب منهم ممارسة دور أكبر في العمليات العسكرية والأمنية في العالم.
الضغوط المُكفَّنة برداء الجبروت لم تحسب حساب ردَّ الفعل الروسي. اشتعلت الحرب في أوكرانيا، ووجد الأوروبيون أنفسهم في قلب خطر نقص إمدادات الغاز، فاضطروا لرفع ميزانيات التسليح عشرة أضعاف، ولاستقبال ورعاية لاجئين آخرين. تدعم الصين حليفها الروسي فيما يضغط الأمريكي على حليفه الأوروبي، أو على الأقل لا يبالي بمصالحه.
غزة تفجر السؤال
في ظل الخراب العائم، ينفجر السجن الكبير في غزة، ربما تعبيرًا عن تآكل عظام النظام العالمي منذ سنوات، وربما كتجلٍّ أعظم لتحلل الرواية السائدة المزيفة لإدارة العالم من خلال خلطة كنتاكي الأمريكية، والسير بالقصور الذاتي نحو بداية عالم جديد لا ينفرد الأمريكي بقمته، ولا تتمتع فيه التركيبات والقوانين والمعاهدات الأممية التي نظَّمت أحوال عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية بالقوة نفسها ولا التأثير، وتفتح الباب أمام ترتيبات وسياقات جديدة.
لدى الفلسطيني وعي أعمق بأفكار المستعمر المستوطن وأدواته ونقاط قوته وضعفه. متلاصقان لأكثر من 70 سنة. ما لا نراه نحن، يفهمه هو جيدًا، وما لا نعرفه نحن، يختبره هو يوميًا.
أهم ما أنجزته 7 أكتوبر أن العالم رأى وجهًا مغايرًا للنموذج. قدّم الفلسطيني معرفته بالوجه الحقيقي للمستعمر إلى العالم على طبق طوفان الأقصى. ومع تصاعد القتل والعنف والإبادة وتجويع الفلسطينيين، تزداد حدة الصدمات الكهربائية التي ترج أمخاخ شعوب العالم.
تتضاعف المظاهرات وتصرخ الشعوب في وجوه حكامها: خدعتمونا على مدار عقود. هذه الصرخات مؤيدة للفلسطينيين بالطبع، ولكنها تحمل أيضًا خوفًا داخليًا، على طريقة سيرينا أهاروني، من انهيار النموذج.
ارتقاء هذه الشعوب عن بقية العالم مرتبط دائمًا بالنموذج؛ أنا الإنسان الأبيض، أنا الديموقراطي، أنا المدافع عن الحريات وحقوق الإنسان، أنا الذي وضعت العهود والمواثيق الدولية وجمعت العالم حولها، أنا أتفوق على شعوب الدرجة الثالثة بالقيم الحضارية. اليوم؛ حكامي يدمرون تفوقي الشخصي وتفوقنا المجتمعي.
الأكيد أنَّ حُكَّامكم دمروا في غزة نموذجكم المختار، وعليكم التعايش مع هذه الفكرة بعد الحرب، والبحث لأنفسكم عن حلول بديلة.
في اليوم التالي للسابع من أكتوبر، أطلَّ القادة الغربيون بسجيتهم على العالم محملين بعطنِ قيمتهم المتسخة البالية، التي أكلوا هم عليها وشربوا، لم يتصور أيٌّ منهم أن تتحول القضية الفلسطينية إلى مركز الكون كما حدث لاحقًا، ولا أن يخرج مئات الآلاف في دولهم مرة واثنتين وثلاثة، دعمًا للفلسطينيين ومناهضة لانحياز دولهم التام لجرائم الإبادة والتجويع والتهجير الإسرائيلية.
الأمر بالنسبة للمواطن العربي/الجنوبي، حمل صدمةً أيضًا، فالأجيال القديمة ربما عوَّلت على رتوشٍ من تحضِّر الرجل الأبيض، أما الأجيال الجديدة فربما كانت صدمتها مماثلة لصدمة الشعوب الغربية، ولكنَّ مرارتها وغضبها مضاعفَان، لأنَّ ما يقع فى غزة يمسها بتبعية القرب والعلاقات.
صخرة غزة أعلنت للجميع زيف هذه القيم أو على أقل تقدير خروجها من حيز الخدمة.
غزة وسؤال المقاومة
ولأنها حرب اختبار النماذج المسيطرة، فالاختبار يمتد أيضًا ليشمل نموذج المقاومة الذي تبنَّته وصدَّرته طهران لخصومها وحلفائها طول العقود السابقة. ليس خافيًا أنَّ إيران تنظر إلى الميليشيات باعتبارها أذرع نفوذها الممتدة في الأقاليم المشتعلة، التي تمنحها نفوذًا في مفاوضاتها الدولية ووسيلة لإمالة ميزان القوى في الشرق الأوسط بعيدًا عن الأعداء مثل إسرائيل والولايات المتحدة، والمنافسين مثل المملكة العربية السعودية.
ومع دخول الحرب الدموية على غزة شهرها الثالث، يواجه النموذج المقاوم الإيراني أيضًا سؤالًا كبيرًا، ومعه حزب الله، فإذا لم يفعلا شيئًا، فإنهما يخاطران بخسارة مصداقيتهما وحلفائهما. فها هي القدس التي طالما نادينا بتحريرها، قام حلفاؤنا بعملية لم يسبق لها مثيل، لماذا لا نساندهم؟
تنفذ طهران وحزب الله مناوشات فى إطار قواعد الاشتباك المتوافق عليها مع الإسرائيليين، ولكنَّ هذا لا ينطلي على أحد الآن، الحسبة التكتيكية والسياسية لهما تُرجِّح عدم الانزلاق في الحرب، خصوصًا مع تعثر الإسرائيلي وعدم اقترابه بعد من تفكيك حماس، ولكنَّ الحسبة الإنسانية والعقائدية، سواء لأعضاء هذه التنظيمات المسلحة أو لجماهيرهم المؤيدة، يوجعها تجبر الإسرائيلي على الفلسطينيين العزل.
ومن نافل الذكر أنه في يوم 18 أكتوبر 2020، انتهى قرار الحظر المفروض على إيران بخصوص بيع وشراء الأسلحة، بموجب القرار 2231 للاتفاق النووى في 2015، فضلًا عن أنَّ الأمريكيين أفرجوا لهم في أغسطس/آب الماضي عن 10 مليارات دولار من أمريكا الجنوبية والعراق، فالإيرانيون أمام تحدٍّ كبير في مواجهة شعاراتهم المرفوعة عن المقاومة وقيادة محور الممانعة.
الإنسانية تواجه السياسة
الحرب في غزة ساحة حضرت فيها الشعوب لتقييم ومواجهة سياسات دولهم وقادتهم، على أرضية إنسانية تمامًا لا تُبالي بالحسابات السياسية والاستراتيجية للدول والجماعات. مستجدٌّ جديدٌ قويٌّ سيغيِّر ملامح العالم بعد الحرب، اسمه الشعوب التي لا يعنيها في الأزمة سوى الفلسطيني المستباح، الواقف بطوله أمام آلة القتل الإجرامية.
نهاية هامشية
منذ 20 عامًا بالضبط، خرجتُ ضمن آلاف من طلاب جامعة القاهرة احتجاجًا على احتلال العراق. شعرنا وقتها بإهانة شديدة وغضب جارف وعجز تام عن المساعدة. هذه المشاعر تحوَّلت سريعًا لنقمة على الأنظمة العربية التي أوصلتنا لهذا الهوان.
وجَّه جيلنا طاقة غضبه نحو نظام مبارك، واحتجَّ ضدَّه بكل الوسائل الممكنة، بداية من الوقفات الاحتجاجية وحتى الانخراط في التنظيمات الحزبية. لم تخطر الثورة في أذهاننا، ولكننا كنا مصممين على إحداث إصلاحات سياسية تنقذ بلادنا من الأوضاع المتردية التي تُقزِّمنا أمام التجبر الأمريكي.
لا يمكننى الآن وأنا أعيد التفكير في انفجار ثورات الربيع العربي فصلها عن غزو العراق، خصوصًا عندما أتذكر مشاعرنا كجيل وقتها.
واليوم، هناك جيل جديد آخر في كلِّ دول المنطقة يتألم من العجز أمام ما يحدث في غزة، وربما سيكون له رأي أو موقف لاحقًا جراء ذلك.
الأكيد أنَّ ما بعد هذه الحرب لن يكون كما قبلها، وعلى الجميع أن يحسب حساباته مرة أخرى، ولربما تكون في التحدي فرصة ملائمة للتوحّد والإصلاح ولترميم الشروخ بين هذه الأنظمة والمعارضة والشعوب، من خلال إجراء إصلاحات سياسية واقتصادية حقيقية وتبني سياسات جديدة، والتخلي عن نماذج وأفكار الحكم البالية.
مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.