في مجازفة لا يحب الكُتَّاب الحريصون على ثقة القراء ارتكابها، كتبتُ هنا في وقت مبكر من حرب غزة تحت عنوان الخبر المؤكد: لا شيء سيبقى في مكانه. واليوم، بعد أن تخطت هذه الحرب شهرها الثاني، أراني متمسكًا بمجازفتي أكثر من ذي قبل. ليس في الأمر أيُّ رجمٍ بالغيب ولا عناد ولا تفكير بالتمني، بل لديَّ أسبابي.
بالرغم من آلة الإبادة المسعورة والتأييد الغربي القارح الذي يمكنه قيادة الإنسان في لحظات ضعف إلى الجنون، فالصورة ليست مظلمة إلى هذا الحد، لكنها فسيفساء ضخمة متعددة الألوان. ومن يريد أن يجد شيئًا محددًا في هذه الفسيفساء الضخمة سيراه، ويبني على أساسه استنتاجاته، التي قد لا تكون صحيحة.
أوضح وأبرز ما يمكن العثور عليه هو استقرار صورة وحشية الرجل الأبيض، لأنه إذا كان ممكنًا تبرير التأييد الغربي المطلق لإسرائيل فور هجوم حماس الأول، بالخطأ في الفهم أو الانسياق العاطفي وراء الربيب الصغير، فإنَّ بقاء هذا التأييد على حاله مع كل هذه الوحشية ضد المدنيين، وصولًا إلى الفيتو الأمريكي الأخير، هو الجنون بعينه، ويمكننا الاعتقاد باطمئنان أنَّ الوحشية هي الدين الغربي الجديد بعد إزاحة الكنيسة.
منذ الثامن من أكتوبر/تشرين الأول بدت الدلائل واضحة على أنَّ ما تشنه إسرائيل حرب إبادة، وهناك شكوك بأنَّ قيادتها كانت على علم بهجوم حماس وتركته يمر لشنِّ حملة تطهير عرقي تُنهي القضية الفلسطينية، وفي أفضل الاحتمالات، فما يجري انتقام وحشي يمارسه نظام يميني هُزم في معركة، فخرق قواعد الحرب وركَّز عدوانه على المدنيين.
كلُّ من يقف في وجه إنهاء الحرب شريك فيها. ويمكن أن نرد وحشية مباركة الحرب إلى أصله العرقي العقائدي، على بعد أكثر من 500 سنة من الآن، عندما وصل كولمبوس إلى أرض لا يعرفها فسمَّى وصوله اكتشافًا، بالرغم من أنَّ للأرضِ أصحابًا ويعرفونها.
أممية شعبية تُبنى على مهل
الوحشية التي أباد بها الإنسان الأبيض حضارات كاملة كانت على الأرض التي سُميت بعد ذلك أمريكا، وجرت انطلاقًا من استهانته بدمِ الآخر "الأقل إنسانية"، هي ذاتها الوحشية التي تمارسها عصابات المستوطنين الصهاينة من بدايات القرن العشرين إلى اليوم. ويتشابه الازدراء اللغوي من كريستوفر كولمبوس لحضارات أمريكا الهندية بازدراء جالانت للفلسطينيين، وينبهنا هذا التطابق إلى أنَّ العنف يبدأ في اللغة.
هناك "أممية شعبية جديدة" تُبنى على مهل من الأفراد الضعفاء ستتجمع قدراتهم فتصير بحرًا
في كتابه فتح أمريكا.. مسألة الآخر نقل الناقد الأدبي تزفتيان تودوروف خبرته اللغوية إلى حقل التاريخ، فجاء كتابه مفاجئًا في مسيرة الناقد، ومفاجئًا في قراءته للتاريخ من وجهة عنف اللغة الذي يؤسس للعنف المادي وحروب الإبادة. أصدر تودوروف الكتاب في بداية الثمانينيات، وترجمه العظيم الذي نفتقده اليوم بشير السباعي وقدمته الناقدة العظيمة أيضًا فريال جبوري غزول، بمقدمة تُعدُّ قراءة ثاقبة، لسرد تودورف لقصة الإبادة.
بين الاحتلالين لم يتوقف التاريخ عن مدّنا بدلائل على الوحشية البيضاء، خلال 500 عام من العار الإنساني الذي يرتكبه الإنسان الأبيض. ولأنَّ الولايات المتحدة تطرح نفسها زعيمة لهذا العالم الغربي، فهي تحت الضوء، دون أن يعني ذلك أن الألمان والفرنسيين وغيرهم لم يرتكبوا مثل تلك الجرائم. في التاريخ الأمريكي جرائم إبادة عديدة، جرت لأهداف كبرى وأحيانًا لأهداف تافهة، أو على الأقل، يمكن تحقيقها دون سفك الدماء.
بعد رحيل هنري كيسنجر الشهر الماضي، ودعه الكاتب إيفان أوسنوس بمقال طويل في مجلة النيويوركر، سرد فيه مسيرة كيسنجر بنجاحاته ومخازيه، بينها صمت كيسنجر ورئيسه نيكسون على دلائل تطهير عرقي مارسه الجيش الباكستاني عام 1971 في باكستان الشرقية أسفر عن إبادة نحو 300 ألف هندوسي وفرار نحو عشرة ملايين إلى الهند (أعلن استقلال الشرق التي صارت بنجلاديش بعد هذه الأحداث). وكان الصمت الأمريكي مقايضة مخزية مع جنرال باكستان آغا محمد يحيى خان لمجرد قيامه بدور الوسيط لنقل رسائل استمالة الصين، لتواجه شيوعيتها الصديقة شيوعية الاتحاد السوفيتي العدوة!
حياة 300 ألف إنسان مكافأة لساعي بريد؟! لكن جورج دبليو بوش زايد على وحشية كيسنجر - نيكسون في غزوه العراق، بحرب مباشرة من الرجل الأبيض أتت هي والاضطرابات الطائفية التي تسببت فيها على حياة أكثر من مليون عراقي، فيما وصف بـالحرب الوقائية. ولنلاحظ كيف يفضح المصطلح "حرب وقائية" حجم ازدراء الآخر، الذي يمكننا قتله من باب الاحتياط!
استدعائي لكتاب تودورف اليوم، ليس عودة إلى الجذور لإثبات تواصل التاريخ الدموي للرجل الأبيض، وهي شهادة حقيقية ويمكن أن تُعجب من يُقدِّرون جماليات اليأس ويستسهلونها. لكنني أستدعي هذا الكتاب تحديدًا لأنه وضع ذلك التاريخ الدموي على طاولة التشريح اللغوي.
درس تودوروف رؤية "الأنا" الغربية لنفسها واعتزازها بمركزيتها التي قادت الرجل الأبيض إلى الاستهانة بـ"الآخر" وبدمه. في المقابل يشرح كيف كان "الآخر"، وكيف نظر إلى نفسه أو "أناه" التي كانت ناقصة، لأن المرأة مستعبدة. وكان "الآخر" في نظر الآزتيك هو الإنكا أو المايا، وليس الغازي الأبيض. كانت الشعوب الأصلية كثيرة العدد ولديها عناصر قوة لم تجد سبيلها للتجميع في مسار.
ربما يلمح المتشائمون في فسيفساء غزة تشابهًا في خلل فهمنا كعرب لـ"الأنا" مع فهم الشعوب القديمة لها في الأمريكتين؟ التشابه في التشرذم قائم بالفعل ويعزز اليأس. إمكانياتنا أكبر من إمكانيات شعوب أمريكا البائدة، والهدر عندنا أفدح من هدرهم.
المتفائلون، مثلي، يؤمنون بأنَّ شيئًا لن يبقى في مكانه بعد حرب غزة، في فسيفساء الصورة ما يعزز هذا التفاؤل. هناك "أممية شعبية جديدة" تُبنى من الأفراد الضعفاء، ويمكن لجهودهم الصغيرة أن تتجمع قطراتها فتصير بحرًا.
"أنا" و"آخر" جديدان
فداحة الوحشية ضد الفلسطينيين، مع وسائل التواصل الجديدة غير المراقبة كسلاح في يد الضعفاء، ضرب مصداقية عبارة روديارد كبلنج الشهيرة "الشرق شرق والغرب غرب لا يلتقيان"، حيث يولد توصيف جديد لمفهومَي "الأنا" و"الآخر".
صار واضحًا أنَّ هناك "أنا" تجمع الرجل الأبيض مع ساعي البريد. ولا يقف التطابق بينهما عند مستوى التواطؤ وتكامل مباركة العدوان مع الصمت عليه، بل وصل إلى حد التشابه في الفساد، حتى أن المتنافسين على رئاسة أمريكا ملوثان بجرائم كانت حكرًا على سعاة البريد: بايدن بفساد ابنه (من يعلم ماذا لديه شخصيًّا من فساد يمكن أن يظهر مع الحفر العميق في قضايا الابن؟) وترامب تكفيه جرائمه الشخصية، فكأن ديمقراطية الصندوق استهلكت نفسها، وتطابق الفاعلون مع سُعاة البريد.
كل يوم ستكون هناك أعداد أكبر لا تريد أن تحكمها جريمة كولمبوس
غضب الناخبين من انحدار الديمقراطية إلى الشكلانية هو الذي حمل المتطرفين اليمينيين والمجانين إلى كراسي الحكم في دول عريقة في الديمقراطية، ويبدو أن غزة هي لحظة التنوير التي ستعيد توجيه القوى في مسارات صحيحة وآمنة. وهذه الملايين التي اندفعت إلى الشوارع في مئات المدن حول العالم تؤكد هذه الحقيقة.
كشفت الوحشية البيضاء في فلسطين فساد مؤسسات الديمقراطية الداخلية التي يجب أن تنفذ إرادة الناخبين في البلد الواحد، وفساد المؤسسات الدولية التي تهدر أصوات أغلبية الدول بسبب فيتو من دولة كبرى واحدة.
الوعي بحقيقة الوحشية المصورة في فلسطين لن يتراجع. وكلُّ يوم ستكون هناك أعداد أكبر لا تريد أن تحكمها جريمة كولمبوس، وتريد أن تبرهن على أن الإبادة ليست لعنة في دم الإنسان الغربي. هؤلاء لا يجمعهم شيء مع بايدن وترامب وماكرون، بل تجمعهم رابطة الإنسانية مع من يحسون بوطأة العدوان على إنسانيتهم في أيِّ مكان، بسبب استمرار هذه الحرب.
هذه "أنا" جديدة أخرى تجمع الشرق والغرب في مواجهة "آخر" يمثله رجل السلطة الغربي وساعي البريد في العالم الثالث، ويمكن أن يصبح التضامن مع غزة تضامنًا من أجل السودان والنيجر وغيرهما.
حق التظاهر، النعمة التي لم تزل موجودة في الغرب رغم التضييق، أطلقت الشق الغربي من "أنا الضمير" في الشوارع، واكتشفنا نحن المحرومين من هذا الحق قوتنا في مقاطعة الشركات الداعمة للاحتلال. المقاطعة عمل جماعي آمن بمظهر فردي، لا يمكن التحكم فيه أو العقاب عليه، وبدأت آثاره تظهر بشكل موجع للشركات التي تدعم الاحتلال الاستيطاني والحرب. وفي الإطار نفسه جاء تطبيق لا شكرًا ليضع في يد المقاطع غربالًا شخصيًّا لاستبعاد الشركات عديمة الإنسانية. هذه خطوة لوضع التكنولوجيا في خدمة القضايا العادلة قد تتبعها خطوات.
ومن المتوقع أن تصبح المقاطعة سلاحًا أكثر كفاءة من التظاهر، وقد صارت الفكرة مطروحة على نطاق العالم. ويمكن فهم الدعوة للإضراب العالمي كقفزة جديدة للأعلى. كتبت هذا المقال في اليوم الذي حددته دعوات ناشطين لإضراب عالمي. وأيًا كانت النتيجة، فالدعوة بذاتها دليل على ارتفاع سقف المقاومة العالمية، والوسيلة صارت مطروحة يمكن إنجاحها في مرات قادمة.
خلال هذه الحرب صار المناصرون للقضية الفلسطينية من كل الشعوب بالملايين على السوشيال ميديا، بينهم الآلاف من كبار المؤثرين الذين يتمتع بعضهم بمتابعين يزيدون على قراء أكثر صحف العالم توزيعًا. كيف لي أن أعتبر هؤلاء "آخرَ"؟! وكيف لا أجازف بالقول إن وضع القضية لن يعود كما كان في السابق، وإن ما نجح فيه كولمبوس من 500 سنة لن ينجح فيه نتنياهو؟
يمكنني أن أجازف أكثر وأجزم بأنَّ ما انصهر في حرب فلسطين سيتطور ليرسم صورة جديدة للعالم. وربما تقود القسمة الجديدة لـ"الأنا والآخر" إلى إعادة النظر في النظام الدولي ومؤسساته البائسة، التي تقف عاجزة في وجه الوحشية.