بعكس ما تتخيل السلطة الحالية بأن الحكم على مدى نزاهة الانتخابات الرئاسية يرتبط فقط بتعدد المرشحين، والحياد في أيام التصويت؛ يبدو أن جماهير المتابعين لهذه الانتخابات لديهم قناعات مختلفة تمامًا، وصحيحة للغاية.
فلا عدد المرشحين هو المهم، ولا نزاهة أيام التصويت وحدها. باختصار، الحكم على جدية وتنافسية الانتخابات يبدأ من المعركة الأهم وهي جمع توكيلات الترشح.
التوكيلات هي الخطوة الأولى للحكم على نزاهة وشفافية الانتخابات ومدى توافقها مع المعايير الدولية. هذه حقيقة مؤكدة.
فحتى لو تعدد المرشحون، والتزمت أجهزة ومؤسسات الدولة الحياد في أيام الدعاية الانتخابية؛ إذا لم يسبق ذلك كله حياد ونزاهة وسهولة تحرير التوكيلات لكل المرشحين، فإن درجة نزاهة الانتخابات لن تتجاوز الصفر الكبير.
معركة بلا داعٍ
في مشاهد ما حدث مع أنصار المرشح المحتمل أحمد الطنطاوي أمام مقار الشهري العقاري، في أول أيام عمل حملته لجمع التوكيلات؛ تشكيك كامل في إمكانية إجراء انتخابات رئاسية نزيهة وحيادية وتنافسية.
حالات المنع والتضييق والترهيب التي وثّقتها حملة المرشح المحتمل تدعو إلى الغضب المجتمعي، وتغلق أمام الناس كل أبواب الطرق السلمية للتغيير الديمقراطي، وتنزع عن السلطة الحالية كل آمالٍ يعقدها البعض على إصلاح سياسي متدرج، ظنَّ الناس أنه بدأ مع دعوة رئيس الجمهورية لحوار وطني في العام 2022.
في كل محاولات فرض نموذج لانتخابات أشبه بما جرى في عام 2018؛ دعوة "لتيئيس" الناس، وهذا بالضبط هو الخطر الأكبر على البلد واستقراره.
يوم الجمعة الماضي؛ تغيرت الأحوال واستطاعت حملة الطنطاوي حشد أنصارها ومؤيديها بأعداد كبيرة أمام مقرات الشهر العقاري. خلق هذا الحشد حالة من الرضا بين من يأملون في إجراء انتخابات رئاسية نزيهة وتنافسية، ولم يحدث ما يعكر صفو اليوم إلا التضييق على بعض هؤلاء المؤيدين لتعطيل الكثيرين منهم من تحرير التوكيلات.
المقارنة بين ما حدث أول أيام تحرير التوكيلات من منع وتضييق تلاه حالة كبيرة من الغضب، بما حدث يوم الجمعة من رضا وهدوء، تكشف متابعة الناس بدقة، لا سيما على السوشيال ميديا، لتفاصيل الانتخابات وما يحدث فيها وما سينتج عنها.
قدّمت معركة التوكيلات دليلًا على عدم وعي السلطة الحالية بكل ما تغيّر خلال السنوات العشر الماضية
المؤكد أن "معركة التوكيلات" التي تحولت إلى معركة بلا داع، باتت في عيون المتابعين هي الحاسمة في حكمهم على مدى نزاهة الانتخابات، ومدى حيادية أجهزة ومؤسسات الدولة فيها، وبالتالي قناعة الناس بنتيجتها النهائية.
مخاطر التفكير في 2018
في متابعة الناس بدقة للانتخابات التي بدأت بمعركة التوكيلات، تأكيد جديد أن محاولات استنساخ ما جرى في 2018 بطرق مختلفة لن يفيد، ولن يُصبح مقنعًا لأحد في الداخل أو الخارج، بل لا أبالغ إن قلت إنه صار خطرًا على البلد ذاته.
في تحليل أزمات السلطة الحالية، تبدو الأزمة الأكبر هي عدم إدراك أن متغيرات سياسية واقتصادية واجتماعية عميقة حدثت منذ 30 يونيو/حزيران 2013 حتى الآن، وأن العامين الماضيين وحدهما شهدا تغييرات كبيرة في درجة وعي الناس ومدى رضاهم عن استمرار السياسات القائمة، وبات تعامل السلطة مع كل ما جرى على طريقة "وكأنَّ شيئًا لم يكن"، اعتمادًا على غرور القوة والسيطرة، خطرًا ووهمًا من الممكن أن يُكلفها، والبلد بأكمله، ثمنًا فادحًا.
تقديري أن أهم ما جرى خلال السنوات الماضية هو زيادة منسوب الغضب الاجتماعي ضد السياسات الحالية، لا سيما الاقتصادية، وباتت رغبة التغيير لدى فئات كبيرة من المصريين ملحة أكثر من أي وقت مضى، فضلًا عن أن موقف السلطة نفسها داخليًا وخارجيًا بات مأزومًا كما لم يحدث من قبل؛ فالغلاء وتراجع مستوى المعيشة من جانب، وتراجع وضعف التحالفات الخارجية من جانب آخر، لم يجعلاها في أقوى حالاتها طوال السنوات العشر التي مضت.
في اتخاذ قرارات تخص الانتخابات الرئاسية، وهي الاستحقاق الدستوري الأهم، بدون قراءة هذا المشهد السياسي داخليًا وخارجيًا، أو التغافل عن كل التغيرات التي حدثت طوال السنوات الماضية، خطيئة كبرى لا يجب أن تستمر ولا يجوز التمادي فيها تحت أي ظرف.
وعي الناس الذي تنامى خلال السنوات الأخيرة، والأجيال لا تزال تحلم أن يلحق بلدها بالعصر عبر التحول لدولة مدنية ديمقراطية حديثة، تحترم الحريات العامة وترسِّخ للعدل والمساواة والمواطنة، لن يقبل أن يفشل المواطن في ممارسة أبسط حقوقه؛ تحرير توكيل للمرشح الذي يراه معبًرا عنه بصدق.
لذلك فإن معركة تحرير التوكيلات لانتخابات الرئاسة باتت على بساطتها تعبيرًا صادقًا عن إمكانية أن تشهد البلد جديدًا على مستوى السياسة، كما قدّمت دليلًا على عدم وعي السلطة الحالية بكل ما تغيّر خلال السنوات العشر الماضية على مستوى وعي المواطن من جانب، ثم على مستوى التغيرات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي حدثت.
الرغبات الصادقة في انتقال مصر خطوات للأمام على طريق الدولة المدنية الديمقراطية، تعني احترام كل الأطراف لنزاهة إجراءات الانتخابات الرئاسية التي تبدأ بحرية تحرير التوكيلات بلا منع أو تضييق أو تهديد، ثم استكمال هذه الخطوة بإجراء انتخابات رئاسية نزيهة وحيادية وتنافسية يحترم الجميع نتيجتها ايًا كانت. أما الاستمرار في عملية تشبه الاستحواذ على مقرات الشهر العقاري، والتضييق على المرشحين فلن يولِّد إلا غضبًا، ولا يمكن اعتباره إلا الخطأ الذي سيتحول مع الوقت إلى خطر.