في إحالة النائب السابق أحمد الطنطاوي، ومدير حملته الانتخابية، و21 من أعضائها للمحاكمة، رسائل واضحة تتجاوز الطنطاوي نفسه لتصل إلى المجتمع والبلد وأهله.
الاتهام الموجه للطنطاوي ورفاقه بالتلاعب في أوراق رسمية، ويُقصد بها توكيلات الترشح للرئاسة، غير مفهوم، لا سيما مع استخدامها في تاريخ مصر مرات عديدة كنوع من أنواع الحشد أو الضغط السياسي، أو توجيه رسائل محددة للرأي العام.
أقرب مَن استخدم سلاح التوقيعات الشعبية كانت حركة تمرد، التي قادت التحركات الجماهيرية ضد حكم جماعة الإخوان المسلمين عام 2013، وأعلنت الحركة وقتها حصولها على أكثر من 22 مليون توقيع شعبي للمطالبة بإجراء انتخابات رئاسية مبكرة.
آنذاك لم يعتبر أحد أنَّ الحركة تخالف القانون أو الدستور، أو ترتكب أيَّ جريمة، وبالتأكيد لم يُقدَّم أيٌّ من قادتها إلى المحاكمة الجنائية.
وقبلها بنحو قرن، نجح الوفد في جمع نحو 3 ملايين توكيل شعبي تفوِّض سعد زغلول بالحديث باسم مصر مُطالبًا الاستقلال، ولم يكن عدد الشعب المصري وقتها يتجاوز 11 مليونًا، أي أن نحو 27% من المصريين وكّلوا سعد وزملاءه للسفر إلى باريس، والتحدث باسم الشعب المصري للمطالبة بالتحرر والاستقلال.
حدث هذا في وقت الاحتلال البريطاني لمصر، وعلى الرغم من رفض الاحتلال في البداية أن يسافر زغلول ورفاقه، فإنهم اضطروا للاستجابة في نهاية المطاف على وقع ثورة 1919، وسافر سعد زغلول إلى مؤتمر باريس.
في تعدد استخدام التوقيعات والتوكيلات الشعبية تاريخيًّا ما يشير إلى أنَّ الأمر لا يتجاوز الضغط السياسي والنضال الشعبي، من أجل إيصال رسائل معينة أو تحقيق أهداف سياسية محددة، وهذا لا يخالف القانون.
بقدر ما كان قرار إحالة الطنطاوي ورفاقه إلى المحاكمة صادمًا، بقدر ما كشف عن ثلاث رسائل مؤسفة وغير مبشرة عن المشهد السياسي في مصر، وإمكانية حدوث تغييرات في السياسات الحاكمة خلال السنوات العشر الأخيرة.
الأولى: الانتخابات تحصيل حاصل
ترتبط الرسالة الأولى في إحالة الطنطاوي ورفاقه إلى المحاكمة بشكل مباشر بالانتخابات الرئاسية المقبلة، التي ومع افتقادها كثيرًا من شروط الجدية والتنافسية، كان ينبغي على السلطة أن تحافظ على مظاهر جدّيتها، ولكنها لم تهتم.
ومع اختيار السلطة أن تحاكم سياسيًّا شابًا كان يسعى لأن يكون مرشحًا رئاسيًّا، لولا تضييقات حقيقية تعرَّض لها وحملته الانتخابية وأنصاره منعتهم من استكمال العدد المطلوب من التوكيلات للتقدم بأوراق الترشح، فإنها تؤكد أنَّ المناخ العام الذي ستجري فيه الانتخابات سيكون قمعيًا.
سينال هذا الاختيار من العملية الانتخابية التي تسعى السلطة لإقناع العالم بها، وهنا أقصد العالم الخارجي أكثر من الداخل، فاعتقادي أن ملاحقة الطنطاوي وحملته هي ملاحقة للانتخابات الرئاسية نفسها، وضربة للصورة التي تحاول السلطة تصديرها للعالم، بأنَّ هناك في مصر انتخابات جادة وتنافسية.
الثانية: سيظل الحصار مستمرًا
في القرار القانوني المعلن بإحالة الطنطاوي ومن معه للمحكمة، قرار سياسي غير معلن باستمرار غلق المجال العام وعدم السماح بمساحات للتنافس والتنوع السياسي.
فإدانة الطنطاوي في قضية "التوكيلات الشعبية" ستمنعه قانونًا وبالتبعية من ممارسة النشاط السياسي، وهو ما يعني منعه من المضي قدمًا في تشكيل الحزب الذي أعلن عنه مؤخرًا، واستحالة أن يكون أحد مؤسسيه، فضلًا عن منعه من الترشح في أي انتخابات مقبلة.
قد تستمر سيطرة السلطة على المشهد العام لبعض الوقت لكن هذا لن يدوم طويلًا
هذه الرسائل بالغة الوضوح في دلالاتها عن طبيعة العمل في مقبل الأيام تعني استمرار السيطرة على المجال العام، و"هندسة" المشهد السياسي على مزاج وهوى السلطة، ومنع كل من تراه السلطة مشاغبًا أو معارضًا جادًا لسياستها من الوجود في المشهد العام.
الثالثة: لا تنتظروا إصلاحًا
لم يُراهن كثيرون في النخبة السياسية على أن مخرجات الحوار الوطني، الذي دعا له رئيس الجمهورية في 2022 وبدأ هذا العام، ستشكّل نقلة كبيرة، لكنهم اعتبروها خطوة أولى على طريق إصلاح سياسي متدرج، قد يحتاج عدة سنوات لإنجاز انتقال ديمقراطي وتأسيس دولة مدنية ديمقراطية.
هنا، ظني أنَّ إحالة مرشح رئاسي للمحاكمة تمهيدًا لمنعه من ممارسة العمل السياسي خصمت كثيرًا من أحلام كل الذين ذهبوا إلى أنَّ مصر تتجه نحو إصلاح سياسي، وأنَّ سلوك سلطتها يمكن أن يتغير. ليس من المعقول أن يبدأ الإصلاح السياسي المنتظر بالملاحقات القضائية والمنع من ممارسة العمل السياسي.
تبدو أزمة السلطة الحالية في عدم اقتناعها بأنَّ الحياة السياسية الجادة والصحية هي تلك الخالية من القيود، والخارجة عن "الهندسة"، التي يكون فيها للجميع الحق في التعبير والاعتقاد والحركة السياسية والتنظيم، ولا تحكمها وتتحكم بها أجهزة الدولة، ولا تسيطر عليها المؤسسات وتوجهها وتضبط خطواتها على مزاج ومقاس من في السلطة.
ولعل قرار إحالة الطنطاوي للمحاكمة هو تأكيد جديد على إصرار السلطة الحالية على التسلط على الحياة العامة بكل تفاصيلها، ومنع كلِّ من لا تحب أفكاره أو خطابه السياسي من الوجود في المحيط العام.
لكن على الرغم من ذلك، لن تنجح السلطة بسهولة في مواصلة السيطرة على الحياة العامة، فالأوضاع السياسية والاقتصادية المتردية ستزيد صعوبة الحكم بنفس الطريقة القديمة. قد تستمر سيطرة السلطة على المشهد العام لبعض الوقت لكني أعتقد أن هذا لن يدوم طويلًا.