بينما كانت الحرب العالمية الأولى تضع أوزارها وضجيج المدافع يخمد ونيرانها تنطفئ، كانت الأمور على ضفاف النيل تسير على نحو مغاير، فبعد سنة واحدة من نهاية الحرب العظمى انفجرت الثورة في مصر.
المؤرخ الراحل عبد الرحمن الرافعي وصف الحرب التي تمر هذه الأيام ذكراها المئوية بأنها "مرحلة هامة في تاريخ مصر القومي، شبت في عقاب الحرب العالمية الأولى، وكانت ولا تزال الأساس لكل التطورات التي تعاقبت على البلاد في السبع وعشرين سنة الماضية، وحوادث هذا الزمن لا تُعرف حق المعرفة إلا بدراسة هذه الثورة، فهي جديرة بالتدوين والتحقيق في شتى نواحيها". (من مقدمة الطبعة الأولى لكتابه ثورة 1919- تاريخ مصر القومي 1919- 1921 بتاريخ 6 أبريل 1946)
أسباب الثورة
يُرجع الرافعي أسباب الثورة إلى تذمر الشعب على الاحتلال البريطاني الذي تدخل في كافة شؤون البلاد ووضعها تحت الأحكام العرفية، وتطلعه إلى الاستقلال خاصة بعد إصدار الرئيس الأمريكي وودور ولسن للمبادئ الأربعة عشر وما تضمنته من حق الشعوب في تقرير مصيرها.
ثم تصاعدت الأحداث مع تشكيل سعد زغلول، بصفته وكيل الجمعية التشريعية، لوفد يمثل الشعب بغرض السفر إلى مؤتمر الصلح في باريس لعرض مطالب مصر بالاستقلال، وهو ما عرضه مع زميليه عبدالعزيز فهمي وعلي شعرواي على المعتمد البريطاني السير ريجنالد ونجت في لقاء يوم 13 نوفمبر 1918 الذي لم يتجاوب مع طلبهم وإنما نصحهم بالروية زاعمًا أن الشعب المصري ليس مستعدًا للاستقلال.
وفي نفس اليوم شكل سعد زغلول الوفد المصري برئاسته وعضوية علي شعرواي، وعبدالعزيز فهمي، ومحمد محمود، وأحمد لطفي السيد، وعبداللطيف المكباتي، ومحمد علي علوبة. ثم ضم لاحقًا عضوين يعتنقا مبادئ للحزب الوطني وهما مصطفى النحاس والدكتور حافظ عفيفي، وضم كذلك حمد الباسل، وإسماعيل صدقي، ومحمود أبو النصر، وسينوت حنا، وجورج خياط، وواصف غالي، وحسين واصف، وعبدالخالق مدكور.
وبعدها بدأ الوفد في جمع التوكيلات ليكون له الصفة الرسمية للتفاوض نيابة عن الأمة، إلا أن السلطات البريطانية رفضت سفر الوفد إلى مؤتمر باريس، مما دعا سعد زغلول إلى إلقاء الخطب السياسية عن الاحتلال البريطاني ورغبة الأمة في الاستقلال، مما ألهب المشاعر وساهم في تطور الأحداث بعد ذلك.
وتقدم حسين رشدي، رئيس الحكومة، باستقالته إلى السلطان فؤاد الأول في 2 ديسمبر 1918 احتجاجًا على التعنت البريطاني تجاه مطالب الشعب ورفض سفر الوفد، وحاول السلطان رفض الاستقالة إلا أن رشدي تمسك بها، رغم محاولة السلطات البريطانية استمالته بأن سمحت له بالسفر برفقة عدلي يكن، وزير المعارف وقتها، إلا أنه وضع شرطًا للرجوع في استقالته وهو السماح بالسفر إلى أوروبا لمن يرغب من المصريين.
وفيما يلي مخطط زمني لأهم الأحداث التي تلت ذلك.
الثورة تمتد إلى المحافظات
ولم تكن الثورة بأحداثها الثرية والسريعة حكرًا على العاصمة، لكن سرعان ما وصلت أخبارها إلى مختلف المحافظات، ويرجع ذلك- بحسب الرافعي- إلى عودة كثير من طلبة القاهرة إلى محافظاتهم وقراهم بعد إغلاق المدارس أبوابها بالعاصمة، فحملوا معهم أفكار الثورة ومبادئها، وكانت النفوس على استعداد لتلبية أي نداء للثورة.
وعبر هذه الخريطة التفاعلية يمكنك معرفة أبرز أحداث الثورة في المحافظات.
وبينما كانت المحافظات تشارك في الثورة من الدلتا إلى أسوان كانت الأحداث تتواتر بسرعة كبيرة في القاهرة، حتى عمَّ الإضراب سائر المواصلات والمهن ووصل إلى موظفي الدولة، ومع فشل محاولات بريطانيا في قمع الثورة حاولت مهادنتها بالإفراج عن سعد زغلول ورفاقه والسماح للمصريين بالسفر، إلا أن ذلك لم ينجح في تهدئة المظاهرات، وهو ما يلخصه المخطط الزمني التالي.
في المرحلة التالية حاولت بريطانيا حل الأزمة بالتفاوض مع الوفد من خلال لجنة شكلتها برئاسة وزير المستعمرات اللورد ألفريد ملنر، إلا أن اللجنة لم تكن موضع ترحيب بالقاهرة، كما يتضح في هذا المخطط الزمني.
مع استمرار الثورة في أنحاء مصر، بدأت بوادر الانقسام بين أعضاء الوفد وظهر لأول مرة صراع على الزعامة بين سعد زغلول وعدلي يكن، وحظي سعد بتأييد الشعب في ذلك الخلاف، بينما مثل يكن الوفد بشكل رسمي في المفاوضات الجديدة مع بريطانيا، التي انتهت كسابقتها بالفشل، وبعدها قررت بريطانيا إعلان إلغاء الحماية.. المخطط الزمني الأخير يوضح تسلسل تلك الأحداث.
ونصَّ دستور 1923 على أن مصر دولة سيادة وهي حرة مستقلة مُلكها لا يجزأ ولا ينزل عن شيء منه، وأكد على المساواة بين المصريين أمام القانون مع كفالة الحرية الشخصية وحرية الرأي والتعبير، وأن الإسلام دين الدولة واللغة العربية لغتها الرسمية.
ووضع الدستور السلطتين التشريعية والتنفيذية في يد الملك، مع مشاركة مجلسي النواب والشيوخ في السلطة التشريعية، والوزراء للسلطة التنفيذية. أما السلطة القضائية فتتولاها المحاكم. كما منح الملك الحق في حل مجلس النواب، وإعلان الأحكام العرفية، وتعيين الوزراء والممثلين الدبلوماسيين، مع عدم جواز تولي أحد أفراد الأسرة المالكة للمناصب الوزارية.
ومنعًا لتضارب المصالح منع الدستور الوزراء من شراء أو استئجار أي من أملاك الحكومة، أو عضوية مجلس إدارة أي شركة، أو المشاركة في عمل تجاري أو مالي.
كما نص الدستور على مجانية التعليم وأنه إلزامي في مرحلته الأولية للبنين والبنات.
وكان إعلان الدستور أحد مكاسب ثورة 1919 الملموسة، وبعدها عاد سعد زغلول إلى مصر وأجريت أول انتخابات نيابية تعرفها البلاد، واكتسحها حزب الوفد بنسبة 90% وسقط يحي إبراهيم باشا، رئيس الوزراء في ذلك الوقت، أمام مرشح الوفد. وألف بعدها سعد زغلول الحكومة بتكليف من الملك فؤاد.
للعودة إلى الصفحة الرئيسية للملف اضغط هنا.
المراجع:
- ثورة 1919 تاريخ مصر القومي من 1914 إلى 1921: عبدالرحمن الرافعي- دار المعارف.
- مذكرات سعد زغلول (الجزء السادس): تحقيق دكتور عبدالعظيم رمضان: الهيئة العامة لدار الكتب والوثائق القومية.
- مذكرات في السياسة المصرية (الجزء الأول): محمد حسين هيكل- دار المعارف.
- أرشيف جريدة التايمز البريطانية.