تسير مجموعة من السيدات مختلفات الأعمار حاملات الأعلام في مظاهرة سلمية تهتف بالاستقلال، بينما يتبعهن مجموعة من الطلبة بغرض الحماية.. تتقدم المسيرة نحو بيت الأمة لتفاجأ بمجموعة من الجنود الإنجليز يسدون عليهن الطريق.
تتقدم سيدة في الأربعين من عمرها وتشق الصفوف غير عابئة بتحذير زميلاتها، فإذا بجندي يجلس القرفصاء في مواجهتها مصوبًا سلاحه نحوها، فما كان منها إلا أن تقول له "ليكن لمصر اليوم ميس كافيل"، في إشارة إلى الممرضة البريطانية إديث كافيل التي أعدمها الألمان في الحرب العالمية الأولى. يخجل الجندي ويتراجع أمام السيدة هدى شعرواي.
اغتيال طفولتها
ولدت هدى محمد سلطان في 23 يونيو/ حزيران 1879، توفي والدها وهي في الخامسة فتعهدتها والدتها بالعناية، وحفظت القرآن الكريم وهي في التاسعة، وتعلمت الفرنسية والتركية ودرست الموسيقى والرسم، وكل ذلك في قصر والدها من خلال المدرسين الخصوصيين حيث كانت تلك عادة الطبقة الأرستقراطية في ذلك الوقت.
لم تستمر طفولة هدى طويلًا فقد تزوجت في الثالثة عشر من ابن عمتها علي شعرواي باشا، عضو الجمعية التشريعية، الذي انضم للوفد المصري لاحقً، ومنه أخذت لقبها (شعراوي)، وكان في ذلك الوقت متزوجًا وله أبناء، ولعل ذلك من الحوادث التي أثرت في تكوين شخصيتها واتجاه نضالها بعد ذلك نحو حقوق المرأة، إذ كان على رأس مطالبها منع الزواج دون السادسة عشر.
وتقول هدى شعرواي في مذكراتها "كان سبب عدم رغبتي في الزواج منه هو أنني شببت أراه عميدنا، والمشرف على شؤوننا إشراف الأب أو الأخ الأكبر، الذي يجب أن أخشاه وأحترمه، ثم أتذكر أنه أب لثلاث بنات يعشن معه ومع أمهن، وأن ابنته الكبرى كانت تعيرني بأنني سأكون زوجة أبيها".
تكوينها الثقافي
نشأت هدى شعرواي في منزل أرستقراطي متدين يهتم بالعلم والأدب، تقول عن والدها إنه "كان يميل إلى مجالس الأدب والعلم... وكان من أبرز شيمه الكرم والوفاء والترفع والتمسك بشعائر الدين... كذلك فقد كان بارٍّا بأهله في حياته وبعد مماته؛ حيث أوقف عليهما جانبًا كبيرًا من ممتلكاته، كما فعل الشيء نفسه بالنسبة للفقراء، حتى لا يجد واحدًا من الذين كان يعولهم مشقة في الحياة من بعده، وقد أوقف على الحرمين الشريفين والأزهر الشريف والمساجد والمدارس جانبًا من أوقافه... وإذا أردنا أن نتناول الجانب الاجتماعي في هذا الدور، فسوف نجد أنه كان وراء إلغاء نظام السخرة والكرباج؛ حيث قدم اقتراحًا بذلك إلى نوبار باشا رئيس مجلس النظار، وانتهى الأمر بإلغاء هذا النظام الذي كان يعتبر وصمة في جبين مصر في ذلك الوقت. كذلك فقد قدم اقتراحًا بإلغاء جميع الضرائب الإضافية التي كانت ترهق كاهل الفلاحين".
كان منزل أسرتها يستقبل شيوخًا ومعلمين وأدباء، ومنهم سيدة مغربية تدعى خديجة تأثرت بها كثيرًا، فتحكي عنها "كانت تتردد علينا كثيرًا، وتقضي عندنا أيامًا عديدة في غرفة تُخصص لها طوال إقامتها، وكنت أذهب إلى غرفتها كل صباح، فأجدها تحت الناموسية في فراشها تكتب في أوراقها، وإذا سألتها ماذا تكتبين؟ أجابتني إنها تكتب شعرًا، فأطلب منها روايته فتروي لي ما نظمته... لقد كنت معجبة بتلك السيدة إعجابًا شديدًا؛ لأنها كانت تحضر مجالس الرجال، وتتباحث معهم في أمور أدبية واجتماعية بينما كنت أرى المرأة الجاهلة ترتعد فرائصها خوفًا ويتصبب جبينها عرقًا؛ إذا قضى الحال أن تحادث رجلًا حتى ولو كان من وراء ستار، وقد أعطتني بذلك فكرة أن المرأة الفاضلة تستطيع أن تتساوى بالرجل إن لم تَفُقه".
حركة تحرير المرأة
في ذلك الوقت ظهر كتاب قاسم أمين الذي نبه الأذهان إلى وجوب تحرير المرأة وخلق نهضة عامة من خلال تثقيف المرأة وتحريرها. وكان كتابه الجريء بمثابة الحجر الأول في بناء أساس تلك النهضة التي قابلها الرأي العام بعاصفة شديدة من الاستنكار والمقاومة. "ولو أن تلك العواصف قد أثرت في قاسم وهزته، إلا أنها لم تستطع أن تنال من رسالة الحق التي أداها في جرأة وشجاعة، وكم سمعنا في ذلك الوقت السيدات أنفسهن يستنكرن تصريحات قاسم أمين ومبادئه رغم إنها كانت في صالحهن؛ لأنها كانت تظهرهن في الثوب الحقيقي من عدم الكفاءة، وكان ذلك يجرح كبريائهن، فكن بذلك يذكرنني بالجواري عندما تعطي لهن ورقة العتق من الرق، إذ كن يبكين على حياة العبودية والأسر".
تأسيس الاتحاد النسائي
أسست هدى شعرواي جمعية الاتحاد النسائي المصري في مارس 1923، بعد تلقيها دعوة من الاتحاد النسائي الدولي لحضور مؤتمر في روما عن قضايا السيدات، وكانت أغراض الجمعية وفقًا للائحتها التأسيسية هي رفع مستوى المرأة الأدبي والاجتماعي للوصول بها إلى حد يجعلها أهلًا للاشتراك مع الرجال في جميع الحقوق والواجبات، والسعي بكل الوسائل المشروعة لتنال المرأة المصرية حقوقها السياسية والاجتماعية.
وكان للجمعية مطلبين أساسيين هما فتح باب التعليم الثانوي والعالي في وجه الفتيات، وسن قانون يمنع زواج الفتيات قبل سن السادسة عشرة.
وتقدمت الجمعية بطلب رسمي في 21 نوفمبر/ تشرين الثاني 1926 إلى رئيس مجلس الوزراء ووزير الحقانية ورئيسي مجلس الشيوخ والنواب، تطلب فيه "إصلاح القوانين العملية للعلاقة الزوجية وصيانة المرأة من الظلم الواقع عليها من تعدد الزوجات، والإسراع في الطلاق بدون سبب جوهري، والظلم والإرهاق الذي يقع عليها فيما يدعى دار الطاعة، ومن أخذ أولادها في حالة افتراق الزوجين في سن هم فيها في أشد الحاجة لعنايتها وحنانها".
خلعت هدى شعرواي البرقع بعد عودتها من مؤتمر روما وتبعها في ذلك عدد كبير من السيدات، وكانت ترى أن الإسلام لم يأمر بالحجاب، فقالت في حديث لاحق لمجلة الهلال (غير معروف تاريخ النشر بالتحديد) "لا يعقل أن الإسلام الذي منح المرأة من حقوق الامتلاك ورعاية أموالها بنفسها ما لم تبلغه المرأة الكاثوليكية، والذي تقول المذاهب الأربعة فيه إنه يجوز للمرأة إبداء الوجه والكفين. أقول لا يعقل أن الإسلام يقول بهذا الحجاب الذي يؤخر المرأة المصرية". وكان لها تصريح في مؤتمر روما أوردته في مذكراتها أن "النقاب كان من أكبر العوامل التي أدت إلى بقاء المرأة في درجة من العلم لا متأخر عنها ولا متقدم، ذلك بأنه في سن معينة يحال دون ذهاب الفتيات إلى معاهد التعليم".
وعن تعدد الزوجات كانت ترى أن "تحديد القرآن الكريم لأربع زوجات مطاع ولكنه لا يوحي بهذه العادة التي كانت منتشرة عند قبائل العرب قبل الإسلام، فإنه يقول بالنص: (فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة)، ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم". إذن يكون لها (المرأة) حق المطالبة بإلغاء هذه العادة التي توجد الشقاق في الأسر وتولد البغضاء بين الإخوة والأخوات من أمهات مختلفة، والرجوع إلى حكم الشريعة التي لا تبيح الانقسام والتفرقة".
وعن الميراث كانت ترى أن "البنت لا حق لها إلا في نصف ميراث الأخ"، موضحة أن "مقتضيات الزواج أن يقوم الرجل بنفقات البيت أيٍّا كانت ثروة زوجته. والمرأة ترث عن زوجها ربع ما يملك إذا لم يكن له ولد، والثُمن في الحالة الأخرى، وللأبناء الذين يعترف بهم أبوهم عين حقوق الوراثة التي يتمتع بها الأبناء الشرعيون".
لجنة سيدات الوفد
رأست هدى شعرواي اللجنة المركزية سيدات الوفد التي تأسست عقب اجتماع السيدات في الكنيسة المرقسية بالقاهرة في 8 يناير 1920 اعتراضًا على تولي يوسف وهبة الوزارة، وأرادت هدى شعراوي أن يكون للجنة تأثير حقيقي على قرارات الوفد، وليس مجرد كيان شرفي، فعندما تجاهل الوفد عرض مشروع ملنر على لجنة السيدات أرسلت لسعد زغلول رسالة قالت فيها بعد توجيه الشكر "نلفت نظر معاليكم إلى الاحتجاج الذي اضطررنا لتقديمه وذلك لأن مندوبي الوفد فضلًا عن كونهم قد تساهوا أولًا عن دعوتنا كباقي الهيئات لإبداء آرائنا في المشروع، قد أظهروا الضجر وعدم الرغبة في أخذ آرائنا عندما قدمنا لهم طلبًا بذلك، مصرحين بأنه لا يجوز للنساء التدخل في الأمور السياسية".
وتابعت في رسالتها أنه "لولا إلحاح مندوبنا الشديد، لما تنازلوا بإجابة طلبنا، وإننا لفي غاية الاندهاش والاستياء من معاملتهم هذه لنا التي تنافي الخطة التي اتبعتموها معنا للآن، وتخالف المعاملة التي عودتمونا عليها بتعضيدكم لنا في مشاركتنا لكم في الحركة الوطنية، وتحبيذكم لعملنا وقت تشكيل لجنتنا بتلغرافاتكم المظللة بأسمى عبارات التهاني والأماني.. والآن وقد قربت القضية المصرية من حل مرض، فلا يليق بالوفد المصري الذي يطالب بحقوق مصر ويعمل لنوال استقلالها أن ينكر على نصف الأمة حقها فيه، وجئنا نطرح أمام عدالتكم مسألتنا هذه كي نقف على رأي معاليكم فيها، متسائلين عما سيكون مركز مصروالمرأة المصرية في المستقبل ولنا في صائب حكمكم عظيم شفيع".
ورد عليها سعد زغلول برسالة في 27 أكتوبر/ تشرين اﻷول 1920، قال فيها "حضرات صاحبات العصمة، رئيسة الوفد النسائي، وأعضائه المصونات، تشرفت بمكتوبكن الكريم ثم تلغرافكن المفيد، وأتأسف شديد الأسف لعدم تشرف حضرات مندوبي الوفد بعرض المشروع عليكن، كما عرضوه على غيركن، ولكني أؤكد لحضراتكن أنهم لم يفعلوا ذلك استخفافًا بكن أو إهمالًا لشأنكن، بل لظروف أجنبية عن هذا المعنى، ولو كنت فيهم لامتنع تأثير هذه الظروف، وتعين عليَّ أن أقوم بشخصي بعرض المشروع عليكن وتوضيح معانيه ومراميه؛ رغبة في الاستنارة بآرائكن التي لها المقام الأول من الاعتبار عندي وعند زملائي، ويسرني جدٍّا أنكن مع ذلك فهمتن المشروع حق الفهم، وأبديتن فيه تحفظات أراها غاية في الأهمية، وأرى التشبث بها من أخص أحبائي، وإني أول من يرى أنه لا يمكن أن تتقدم هيئة اجتماعية بدون أن يشترك حسكم اللطيف فيها، وأرجو أن تتفضلوا مع هذه الكلمات بقبول أطيب تحياتي وأوفر احتراماتي".
كذلك كان للجنة سيدات الوفد موقفًا قويًا تجاه عدلي يكن، وطالبته بالاستقالة عقب فشل مباحثاته مع جورج كيرزون، وزير خارجية بريطانيا، وقالت ضمن خطاب له "إننا نربأ بموقفك الحاضر أن يحوم شك حول استقالتكم لعدم ظهورها للآن، ليطلع عليها الشعب التائق لمعرفة صيغتها، بعد أن قمت بالواجب عليك لبلادك برفضك مشروع كيرزون ووقوفك موقفًا شريفًا..."
وفاتها
توفت بالقاهرة في 12 ديسمبر/ كانون اﻷول 1947، بعد أن شاركت في تأسيس 14 مؤتمرًا نسائيًا دوليًا، وأسست 15 جمعية نسائية في مصر، وأسست مجلتين نسائيتين هما المرأة المصرية والإيجيبسيان.
للعودة إلى الصفحة الرئيسية للملف اضغط هنا.
المراجع:
- مذكرات هدى شعراوي: دار هنداوي للنشر والثقافة
- موقع ذاكرة مصر المعاصرة التابع لمكتبة الإسكندرية
- موقع جمعية هدى شعراوي