كان رفض السلطات البريطانية سفر الوفد المصري إلى مؤتمر الصلح بمثابة الشرارة التي أضرمت النيران في كومة القش، ولكن ما شكَّل تلك الكومة في الأساس، كانت الظروف الاجتماعية والاقتصادية الطاحنة لغالبية المصريين، فبعد مرور أعوام الحرب الصعبة، وعودة تجارة القطن إلى الانتعاش، ذهبت العوائد إلى جيوب كبار التجار وملاك الأراضي- المكتظة بالفعل- بينما التهم التضخم نصيب بقية الشعب.
وكانت السياسة البريطانية تجاه مصر ترتكز على تحويلها إلي وحدة زراعية متخصصة في زراعة القطن لمصانع الغزل والنسيج في لانكشاير، ومن هنا كان اهتمام سلطات الاحتلال بتنظيم الزراعة والري ، ولكن في الوقت نفسه أغفلت الاهتمام بالصناعة.
ظلت الزراعة هي السمة الرئيسية للاقتصاد المصري طوال فترة الاحتلال البريطاني، ويشير تقرير المعتمد البريطاني سير إلدون جورست لسنة 1909 أنه حتي عام 1907 كان 41% من السكان يعملون في الزراعة، بينما لم يكن يعمل في الصناعة سوى 3.4% غالبيتهم الساحقة يعملون في صناعات وحرف صغيرة.
وفي عام 1912 سجل لورد هربرت كتشنر (المعتمد البريطاني بمصر من 1911 إلى 1914) نجاح هذه السياسة في تقرير قال فيه "إن مصر بلد زراعية وليس فيها صناعات يعتد بها، وهي تعتمد على محصول واحد (القطن) تصدره إلى الخارج وتجلب به حاجتها من المنسوجات والوقود والمواد الغذائية، وكانت بريطانيا تحصل على القطن المصري بأرخص الأسعار".
الكساد يضرب الغطاء الذهبي
عام 1914 هبطت أسعار القطن إلى النصف فوصلت إلى جنيهين للقنطار، مما أدى إلى موجة كساد كبيرة طالت كافة طبقات الشعب، خاصة المزارعين، ولم تتدخل الحكومة بإجراءات كافية لمواجهة آثار الأزمة الاقتصادية، بل زادت أعباء المزارعين بوقف البنوك التسليف على القطن (قروض بضمان المحصول)، ولم تخفض الضرائب، فاضطر كثير من الفلاحين إلى بيع القطن بسعر بخس وصل إلى 60 قرشًا للقنطار، واضطر كثيرون لبيع ما يملكون من حُلي وماشية لسداد ديونهم، وكان التدخل الحكومي الوحيد هو تعيين جاشنجية (مثمنين) لتقدير قيمة المصوغات الذهبية التي يبيعها المواطنين للحكومة لسداد ما عليهم من ديون أميرية.
وعزز من توحش الأزمة الاقتصادية طباعة البنك الأهلي أوراقًا نقدية دون غطاء كافٍ من الذهب، بعد إرسال معظم الذهب إلى بريطانيا مقابل سندات، وكان القانون يفرض وجود غطاء ذهبي يعادل نصف قيمة الأوراق المالية المطروحة للتداول، وأصدرت الحكومة مرسومًا باعتبار سندات الحكومة الإنجليزية بديلًا لاحتياطي الذهب.
في هذا الوقت كان الغطاء الذهبي يبلغ حوالي 5.6 مليون جنيه، تم إرسال 3.2 مليون جنيه منها إلى بنك إنجلترا بلندن، وفي أغسطس 1916 بلغت قيمة الأوراق النقدية المطبوعة 11 مليون جنيه، وبنهاية عام 1916 ارتفعت إلى 21.2 مليون جنيه، وفي عام 1917 بلغت حوالي 30.8 مليونًا، وفي 1918 وصلت إلى 46 مليونًا، وفي عام 1919 بلغ 67.3 مليونًا، وكلما زاد إصدار البنكنوت كلما زاد بالمقابل شراء السندات البريطانية كغطاء له، حتى وصل حجم البنكنوت في عام 1920 إلى 75 مليون جنيه منها 3.4 مليون فقط تغطى بالذهب، أما الباقي فكان مغطى بمحفظة السندات البريطانية.
هذا التحول من الذهب إلى محفظة السندات البريطانية كان يعني ارتباط الجنيه المصري بنظيره الاسترليني، فأي انخفاض في قيمة الأخير يعني انخفاض الجنيه المصري بنفس النسبة.
https://e.infogram.com/50b12177-80d3-46a8-8771-a0d17baa18f3?src=embedتوحش التضخم
في أعقاب الحرب عادت أسعار القطن إلى معدلاتها الطبيعية، ونمت الصادرات المصرية بشكل مطرد حتى وصلت إلى 80 مليونًا و100 ألف جنيه مصري مقابل 47.4 مليون جنيه واردات عام 1919، إلا أن التضخم كان أكبر من العوائد التي ذهبت إلى جيوب الأجانب وكبار التجار، وارتفعت أسعار جميع السلع بشكل كبير.
أورد ذلك اللورد ملنر في تقرير عن الثورة إذ قال إن "أسعار الأشياء ارتفعت في مصر ارتفاعًا متواليًا لم يسبق له مثيل، ولا سيما أسعار الحاجيات كالحبوب والأقمشة والوقود، فثقلت وطأتها على الفقراء، لا سيما أن أجورهم لم تكن لتكفي النفقات التي يقتضيها غلاء المعيشة، في حين أنهم كانوا يرون عددًا من مواطنيهم ومن الأجانب غير المحبوبين عندهم، يجمعون الثروات الطائلة، فإن عائلة مكونة من أربع أنفس، رجل وزوجته وطفلين، لم تكن تستطيع في أوائل عام 1919 الحصول على ما يكفيها من القوت، إلا بثمن يفوق بكثير متوسط الأجرة وقتئذٍ، فهذه العوامل المختلفة أفضت ولا ريب إلى الاستياء والقلق بين معشر الفلاحين".
ومنحت الحكومة علاوة غلاء لموظفيها، ولكن في نفس الوقت رفعت أسعار تذاكر النقل بالسكك الحديدية 50% وبلغ متوسط إجمالي زيادة الأسعار 350% للسلع. بينما ارتفعت الإيجارات بين 60 إلى 100% في القاهرة والإسكندرية.
الإنفوجراف التالي يوضح زيادة الأسعار في 1919 مقارنة بسنة الأساس (1913-1914)
https://e.infogram.com/359217eb-fd10-4db0-9806-02ff13088f94?src=embedأزمة الطاقة
تمكنت الحكومة من توفير الغذاء بأسعار مرتفعة، ولكن توفير احتياج البلاد من الوقود كان مسألة عسيرة، نظرًا لاعتماد مصر في ذلك الوقت على الفحم المستورد لإدارة قاطرات السكك الحديدية، والري، والخدمات العامة، والصناعات، بالإضافة لاستيراد البرافين للتدفئة المحلية والطهي، بينما كانت البدائل المحلية قاصرة على الروث المجفف، وحطب القطن، وكميات ضئيلة من الخشب المحلي وفحم الخشب المصنوع محليًا.
https://e.infogram.com/6a2abf43-0331-430e-883a-74cf4e67e5cf?src=embedغياب العدالة الاجتماعية
كان لغياب لعدالة الاجتماعية والتوزيع العادل للثروة أثرًا كبيرًا في الثورة، وإذا نظرنا إلى الزراعة كحجر الأساس للاقتصاد المصري نجد أن أقل من 1% من مُلّاك الأراضي الزراعية امتلكوا حوالي ثلثي الأراضي (63.3%)، بينما توزع الثلث الأخير على 99% من المُلّاك.
https://e.infogram.com/50fa88c9-780b-4223-804a-42297f9ecb2a?src=embedبدأ الحراك السياسي في مصر على يد المهنيين من أبناء الطبقة الوسطى مثل مصطفى كامل ومحمد فريد، إلا أن الحراك الشعبي الذي استجاب كان عماده الفلاحون والعمال، الذين لم يتوقوا فقط للحرية السياسية، ولكن كانوا يطمحون إلى ظروف معيشية أفضل.
المراجع
- التنمية الاقتصادية لمصر الحديثة: أ. إ. كراوتشلي- ترجمة د. محمد مدحت مصطفى: دار بوب بروفيشنال برس.
- ملامح تطور الاقتصاد المصري في ظل التحولات السياسية والاقتصادية: دراسة لدكتور خيري أبوالعزايم فرجاني.
- التحليل الاقتصادي والاجتماعي لمصر: شارل عيساوي- ترجمة د. محمد مدحت مصطفى: دار بوب بروفيشنال برس .