لا ألوم من يتملكهم اليأس من إمكانية التغيير السلمي والشعبي عبر صناديق الاقتراع مع ازدياد الاستبداد. بالتالي، من غير المجدي إقناعهم بأن حصول أي مرشح على أصوات أعلى سيكفل له الفوز بالرئاسة، خصوصًا وأن صاحب السلطة هو من سيحدد موعد بدء التنافس الانتخابي، وموعد نهايته وقواعده، وسيواجه منافسًا خسر قبل ثلاث سنوات انتخابات أقل أهمية على مقعده في مجلس النواب، رغم قناعته وأنصاره بأنه حصل وقتها على أعلى الأصوات، ولكن محكمة النقض رفضت طعنه بالتزوير.
لكن لو عدنا لما يزيد عن مائة سنة إلى الوراء، سنجد كيف استطاعت التوكيلات الشعبية أن تعطي نائبًا سابقًا وزملاءه؛ تفويضًا يجعلهم يتحدثون باسم مصر في مؤتمر الصلح الدولي للحصول على استقلالها، رغم أنف وجبروت المستعمر البريطاني. وقد تكون أهمية المعركة في جمع التفويض أولًا، بغض النظر عن نتائجه المباشرة، طالما أنها بداية صحيحة لنضال قد يطول.
تتعلق هذه المقاربة التاريخية التي مضى عليها نحو قرن، بنفس الرجل الذي لا نزال ننقل عنه عبارته اليائسة الشهيرة "مفيش فايدة"؛ سعد زغلول، مع أنه ربما قالها لزوجته يأسًا من شفائه، لا وصفًا لحال البلد.
عندما انتهت الحرب العالمية الأولى 1918 كان سعد زغلول أتم لتوّه عامه الستين. وحسب مذكراته، كان في غاية الاكتئاب وأدى إدمانه القمار إلى تفكيره في الانتحار والانفصال عن السيدة صفية، ابنة رئيس الوزراء مصطفى فهمي، التي ارتفعت به طبقيًا من عالم كان فيه صحفيًا بجريدة الوقائع تلقى تعليمًا أزهريًا ووالده من أعيان الفلاحين، إلى عالم فيه التعليم الأجنبي ودراسة القانون وصولًا إلى الباشوية والمناصب الوزارية.
فبعد أن فاز سعد بمقعد برلماني في الجمعية التشريعية التي أُنشئت عام 1914، أوقف الإنجليز نشاطها بعد أشهر بذريعة نشوب الحرب العالمية. لذلك حين سمع بعد أربع سنوات أن الحرب انتهت وسيعقدون مؤتمرًا في فرنسا ينظر حق المستعمرات في تقرير المصير، ذهب سعد مع زميليه النائبين السابقين عبد العزيز فهمي وحلمي شعراوي الى المندوب السامي البريطاني، يطلبون السماح لهم بالسفر الى فرساي لتمثيل مصر باعتبارهم نوابًا عن الأمة، فما كان منه إلا أن استخف بهم، ورد عليهم بأن هذه الجمعية التشريعية أُغلقت وأُلغيت قبل أربع سنوات، ووبخهم وطردهم.
من هنا بدأت حملة تجميع التوقيعات والتوكيلات الشعبية للوفد الذي سيمثل مصر رغمًا عن الإنجليز، الذين نفوا الثلاثة إلى مالطة، فاشتعلت المظاهرات وأعمال العنف التي عُرفت بثورة 1919، وانتهت باضطرار الإنجليز الى إعادة المنفيين؛ ليشكلوا وفدًا أوسع ضمَّ مختلف طوائف الشعب من مسلمين ومسيحيين وبدو.
سافر الوفد إلى باريس وحضر مؤتمر فرساي الذي لم يلبِّ مطالب الاستقلال الكامل، لكنَّ التفويض الشعبي والائتلاف الموحد للمعارضة كان ركيزة لتحول مصر إلى دولة ملكية دستورية 1923، اكتسح حزب الوفد انتخاباتها البرلمانية ليشكل حكومة الأغلبية ورئيس وزرائها سعد زغلول.
مصر والبديل المدني
في مثل هذا الشهر من العام الماضي، وقبل فترة طويلة من عودته إلى مصر وإعلانه نية الترشح لانتخابات الرئاسة، تساءلت في مقال نشرته المنصة عمّا إذا كان من الممكن أن يكمل أحمد الطنطاوي ما بدأه البرادعي.
ذكّرت وقتها، مع نهاية الفترتين المحددتين بمجموع ثماني سنوات لرئيس الجمهورية؛ وفق دستور 2014 قبل تعديلاته عام 2019، أن الطنطاوي كان من أجرأ النواب الذين عارضوها في البرلمان، ونقلتُ عن الدكتور محمد البرادعي ما كتبه عنه حينها بأنه "يتحدث بشجاعة وصدق معبرًا عن رأي كل من شارك في ثورة يناير بشأن التعديلات الدستورية".
أعطيت وقتها مثالًا بالسيدة ليز تراس التي كانت في الـ47 من العمر، أي أكبر بأربع سنوات فقط من الطنطاوي، عندما اختارها حزبها المحافظ رئيسةً للوزراء، على أن البديل ليس بالضرورة أن يكون زعيمًا "ملهمًا وفذًّا" اجتمعت الأمة عليه، بل يكفي نائبًا فاز بانتخابات من قبل وكان أداؤه متسقًا مع مبادئه وما وعد به ناخبيه، أما دون ذلك فيفترض في الأنظمة الديمقراطية أن تكون مهام المؤسسات والسلطات والمجالس النيابية.
التوكيلات.. آلية حشد تفويض شعبي
يُشترط لقبول الترشح "أن يزكي المترشح 20 عضوًا على الأقل من أعضاء مجلس النواب، أو أن يؤيده ما لا يقل عن 25 ألف مواطن ممن لهم حق الانتخاب في 15 محافظة على الأقل، وبحد أدنى 1000 مؤيد من كل محافظة منها" وفق قانون تنظيم الانتخابات الرئاسية.
جاء الوقت للتوافق على شخص نزيه لن تشتريه المناصب، ليقود مرحلة انتقالية
بالتالي فمعركة الطنطاوي هي في جمع تلك التوكيلات من 25 محافظة، بينما يتم اعتقال وتعقب الكثيرين من أنصار حملته، كما رفضت مكاتب الشهر العقاري التصديق على أي توكيلات بحجة أن اللجنة الوطنية للانتخابات لم تكن بدأت عملها بعد، ولم يكن أحد يعرف متى ستبدأ، بعد أيام أو أسابيع أو أشهر!
ليس بالضرورة أن تؤدي هذه التوكيلات للمعارض الجريء والجاد أحمد الطنطاوي، الذي يخوض حتى الآن تجربته بثقة واتزان، إلى تجاوزه العقبات الموجودة ووضع اسمه على قائمة الانتخابات الرئاسية، ولا على مدى فرص نجاحه في توفير ضمانات نزاهة العملية الانتخابية، ولكن الأهم في المشاركة هذه المرة أن تكون أداة لتشكيل ائتلاف ودعم شعبي من المعارضة المفتتة والمتناثرة، التي لم تستوعب درس 2011 لتتحدث بصوت واحد.
جاء الوقت للتخلي عن الفردية والتنازع الأيديولوجي، وقبول التوافق حول مرحلة انتقالية، يتحدث فيها باسم البديل الشعبي شخص نزيه لن تشتريه أو تستهويه المناصب، ولن يسمح التوافق بشأنه على مواصلة تخويف الناس من أبواق الحاكم المتشبث بالمقعد بأنه هو أو الطوفان.
أخيرًا، يجب على من يشككون في جدوى التصويت في انتخابات يحكمون عليها بالتزوير، ويبررون بذلك تقاعسهم، أن يثبتوا أولًا أنها مزورة بعد الذهاب والتصويت باعتباره عملًا قانونيًا وليست مظاهرة أو مخالفة، وانتظار معرفة النتيجة والبقاء لحراسة الصناديق والفرز، وبعدها فمهمة مرشحهم إكمال مسيرة المطالبة باستعادة إرادتهم الشعبية، إن سُلبت فعلا، والتي بدون التعبير عنها بالانتخاب، فلا يجب أن يلوموا أحدًا إلا أنفسهم.
لن يجرؤ أحد على تزوير أصوات الملايين؛ لو خرجت فعلا وأثبتت بنزولها الجارف أنها لن تسكت هذه المرة. لا أحد مستعد لتحمل عواقب ذلك طالما ظهرت!