في الأنظمة الديمقراطية لا ينتظر المواطنون حتى يجدوا زعيمًا فذًا من أجل تغيير رئيس دولتهم، ولا يشترط في الرئيس الجديد أن يكون ذا كاريزما، أو شخصية فريدة أو تاريخية تحظى على شبه إجماع. ويرفضون كذلك حكمة الانتظار وقبول الموجود، بدعوى أن بلدهم لا يتحمل التجربة مع شخص جديد بينما يشهد العالم أزمات كونية.
بمخالفات تافهة، لكنها تتعلق بالنزاهة والمصداقية، أصر البريطانيون على تغيير رئيس وزرائهم بوريس جونسون، وانتخب حزب المحافظين صاحب الأغلبية في البرلمان البريطاني، السيدة ليز تراس لزعامة الحزب ورئاسة الحكومة.
لم تكن تراس، التي تولت وزارات الخارجية والتجارة وغيرها، بالمتحدثة اللبقة، ولا صاحبة شخصية كاريزمية مثل مارجريت تاتشر، أو متمرسة مثل تيريزا ماي، ناهيك عن أسطورية ونستون تشرشل.
ليز تراس النائبة أصبحت رئيسة لوزراء بريطانيا وعمرها 47 سنة، فهي من مواليد 26 يوليو/ تموز 1975، أي أنها لاتزيد سنًا سوى أربع سنوات عن النائب المصري أحمد الطنطاوي (43 سنة) المولود 25 يوليو 1979. بينما هي أصغر بخمس وعشرين سنة من الرئيس عبد الفتاح السيسي (68 سنة).
حين تشكلت الحركة الوطنية للتغيير (كفاية) منتصف عام 2004، وبعد مرور 23 سنة على حكم مبارك، لم تطرح الحركة بديلًا لخمس سنوات، رغم رفضها "التمديد" و "التوريث" بعد سيطرة الابن جمال وشلته على مقاليد الحزب الحاكم.
كانت المشكلة وستظل، في غياب الديمقراطية، هي عبثية البحث عن مرشح بديل لانتخابات الرئاسة حين يقترب موعدها، وسط بيئة، لا تعرف سوى التدخل والتلاعب في أي انتخابات، والتحكم في نتائجها لصالح صاحب السلطة والقابضين له عليها.
من هنا، يتشكك الناس حتى من طرح اسم مرشح بديل لأي انتخابات آتية. وكلما ضاقت قبضة الحاكم على العملية السياسية برمتها كلما زاد الشك في اعتبار أي بديل محتمل مجرد كومبارس يمثل دور السنّيد في المسرحية الديمقراطية، ويتحمل لكمات البطل حتى يصرعه بالضربة القاضية، ليحتفل القائد الملهم مع أتباعه ورعاياه، أمام كاميرات العالم، باجتياز العرس الديمقراطي للتجديد الرئاسي.
حين طرحت حركة كفاية في أواخر عام 2009 اسم محمد البرادعي، العائد لمصر بعد نهاية إدارته للوكالة الدولية للطاقة الذرية في فيينا، ليكون بديلًا رئاسيًا لمبارك، كان عمره وقتها 67 سنة بينما كان عمر مبارك 81 سنة. أي كان البرادعي أصغر بـ14 سنة.
لم يكن البرادعي مطروحًا كبديل لخوض انتخابات رئاسية أخرى أمام مبارك في عام 2011، ولكن باعتبار أن مبارك أخذ فرصته كافية، وكفاية عليه وعلى نظامه السنوات التي قضاها، ويجب أن يفسح الطريق لغيره. ولفقد الثقة في انتخابات رئاسية أخرى، بعد تزوير انتخابات 2010 البرلمانية، لم يكن أسلوب الانتخاب مطروحًا عند الحديث عن بديل رئاسي.
البديل يتم التوصل إليه توافقيًا، وليس بالإجماع أو الانتخاب، ليتولى مرحلة انتقالية عند انسداد المسار السياسي والعبث بعملية التداول السلمي للسلطة سواء بالدستور أو العملية الانتخابية وسيادة القانون.
من هنا يحرص الحاكم المتشبث بالسلطة على الحيلولة دون وجود بديل. ويكون شعار الحكم هو "أنا وبعدي الطوفان". ويمكنك وضع مرادفات أخرى للطوفان تخيف الداخل والأغنياء والنساء والأقليات، مثل أنا وبعدي الفوضى، أو غياب الأمن وانهيار الدولة وتقسيمها، أو الحكم الديني.
ولتخويف الإقليم والعالم يمكنك قول أنا وبعدي عدوى الثورات، وطوفان العاطلين وقوارب المهاجرين. والأهم والأخطر تهديد أمن إسرائيل من معارضي السلام، وحلفاء إيران الشيعية والثورة الخمينية!
عام 1979 شهد إغلاق فرص دعم الغرب، وخصوصًا الولايات المتحدة، لنشر قيم الديمقراطية والتداول السلمي للسلطة في العالم العربي. ذلك لأنه شهد حدثين متناقضين يتعلقان بحليفين في المنطقة على رأس نظامين مستبدين، هما الشاه محمد رضا بهلوي في إيران، و"رئيس العائلة" في مصر محمد أنور السادات.
الأول تردد في دعم حكمه الرئيس كارتر الديمقراطي المهتم بحقوق الإنسان، فأطاحت به الثورة الخمينية، مهددة المصالح الحيوية الأمريكية ومصالح حلفائها النفطيين في المنطقة، بجانب إسرائيل. أما الثاني، فأعطى كارتر حظوة وفضّل التوقيع على معاهدة السلام العربية الأولى والأهم مع إسرائيل لضمان أمنها وتفرغها للصراع مع الباقين!
خسر كارتر انتخابات الإعادة في العام التالي، واُغتيل السادات في العام الذي تلاه. وبقي للجميع درس مغبة التخلي عن الأنظمة المستبدة التي تخدم المصالح الغربية والإسرائيلية، لأن بديلها في تلك المنطقة إسلاميون متطرفون مخيفون!
بالتالي، تحول حديث حقوق الإنسان ونشر الديمقراطية لشعارات حزبية ترفعها الأحزاب الغربية للمزايدة على بعضها البعض أمام الناخبين في الداخل دون ضغوط حقيقية خارجيًا على الأنظمة المستبدة طالما ظلت حليفة، تخدم المصالح الأمريكية أو الإسرائيلية، وياحبذا لو كلتيهما.
لم يكن طرح اسم البرادعي، الحاصل على جائزة نوبل للسلام عام 2005، بالأمر المخيف للغرب، مثلما تحاول الأنظمة الحاكمة تخويف الغرب من البديل. خصوصًا حين تزامن ذلك مع وجود رئيس أمريكي ديمقراطي، باراك أوباما، يؤمن بالتغيير وقيم حقوق الإنسان وتداول السلطة التي جعلته أول رئيس جمهورية غير أبيض لبلد إستعبد لقرنين الأفارقة من بني جلدته.
كان طرح البديل مرتبطًا لدى عامة المصريين بشخصية "عالمية" ناجحة، وبدعم ائتلاف سياسي شعبي كان بين أبرز شخصياته جورج إسحق من ناحية، وعبد المنعم أبو الفتوح من ناحية أخرى. لن أخوض هنا في قدرات البرادعي السياسية أو إضاعته فرصة تاريخية للزعامة، دون انتظار تعليمات المجلس العسكري، بمجرد سقوط دولة مبارك البوليسية مساء 28 يناير/ كانون الثاني 2011، ولا تنصله من المسؤولية التاريخية والاكتفاء بانسحابه من الساحة بعد مذبحة رابعة في 14 أغسطس/ آب 2013.
قد يكون لهذا حديث آخر، أما تركيزي هنا فعلى أهمية وجود بديل ليس بالضرورة هو "زعيم الأمة" المنتظر و"فارس أحلام" كل التيارات السياسية بالإجماع، فربما لم ولن يأت هذا السراب! كل المطلوب إنهاء فزّاعة سؤال: ما البديل؟!
بعد عمليات التجريف السياسي الكامل الذي تعرضت له مصر على مدى السنوات الست الماضية، وإغلاق كل منافذ التعبير عن الرأي، والتي ازدادت وتيرتها بعد فوز الجمهوري دونالد ترامب بالرئاسة الأمريكية عام 2016، لم تعد هناك فرصة لتشكيل ائتلاف مثل "كفاية" أو للسماح بمظاهرة أمام دار قضاء أو دار عزاء.
ولم يعد الإعلام في مصر يقدر على مقابلة معارض أو بديل، بخلاف عهد مبارك الذي سمح بمقابلات للبرادعي في الإعلام المصري حين عاد لبلده.
وحتى حين قلق نظام مبارك من ازدياد شعبية البرادعي ومنع مواصلة استضافته في الإعلام المصري، لم يمنعني أحد في القاهرة قبل شهرين من ثورة يناير من إجراء مقابلة مع البرادعي بمنزله في برنامجي "استوديو القاهرة" لأنها كانت على قناة العربية (السعودية).
ولم يتم حظر مقابلات الإعلام المصري مع النائب أحمد الطنطاوي، إلى أن ضاقوا ذرعًا عام 2017 بمقابلاته التلفزيونية وحملته ضد التنازل عن جزيرتي تيران وصنافير خلافًا لأحكام القضاء، وبعد احتجاجاته في مجلس النواب على تمرير المعاهدة برفع الأيدي والتصفيق دون تسجيل الأصوات، لعدم إحراج المؤيدين رغم معارضة أكثر من 120 نائبًا.
لكن الحظر الكامل ضد الطنطاوي، جاء بعد تصويته في نوفمبر/ تشرين الثاني 2019، ضمن 16 نائبًا، برفض التعديلات الدستورية بمد فترتي رئيس الجمهورية عن ثماني سنوات بما يخالف دستور 2014 المشدِّد على عدم المساس بتلك المادة.
علَّق البرادعي (البديل السابق) على تصريحات الطنطاوي (البديل المحتمل) الذي اعتبر تلك التعديلات تأسيسًا لطغيان واستبداد يعصف بتداول السلطة، ويعيد مصر لوضع أسوأ مما كانت عليه قبل ثورة يناير، فامتدحه البرادعي على حسابه بتويتر "النائب أحمد الطنطاوي يتحدث بشجاعة وصدق معبرًا عن رأي كل من شارك في ثورة يناير بشأن التعديلات الدستورية".
فهل سيمثل الطنطاوي بعد خروجه من مصر إلى لبنان، بديلًا رئاسيًا، كما كان البرادعي، ليُنهي فزّاعة "أنا وبعدي الطوفان" ويتوقف اللغط عن كونه مجرد مرشح لانتخابات أخرى؟ إلا إذا تمت الانتخابات وفق دستور 2014 بدون التعديلات التي عارضها الطنطاوي، أي بإشراف قضائي مستقل وبدون مرشح تجاوز مدتيه الدستوريتين!