يكبر محمد يونس (مواليد 1940) محمد البرادعي (مواليد 1942) بسنتين فقط. لكن الثاني سبق الأول بسنة في الفوز بجائزة نوبل للسلام، التي حصل عليها كلاهما عامي 2005 و2006.
كانت جائزة البرادعي عن عمله خارج مصر مع مؤسسته، الوكالة الدولية للطاقة الذرية، في فيينا التي عاد ليعيش فيها عام 2013، بعد سنتين ونصف السنة من ممارسته العمل السياسي في مصر. انتهت مرحلة البرادعي باستقالته في مثل هذا اليوم، احتجاجًا على فض اعتصامي رابعة العدوية والنهضة بالقوة، ما أودى بحياة أكثر من 600 متظاهر ومعتصم ضد إزاحة محمد مرسي من الرئاسة بيد وزير دفاعه.
أما عالم الاقتصاد البنجالي محمد يونس، فنال الجائزة عن عمله ومؤسسته داخل بلده بنجلاديش، كمؤسس ومدير لمشروع البنك القروي (أي الجرامين grameen باللغة البنجالية). وهو مشروع بنك تسليف ريفي أتاح لملايين الفلاحين والبسطاء في القرى، خصوصًا النساء، الحصول على قروض صغيرة بأقل الضمانات، لإعانتهم على بدء مشاريع زراعية أو يدوية صغيرة.
وظل يونس في بنجلاديش بعد نوبل مرتبطًا بمشروعه الذي ساعد الملايين من البسطاء، فأسموه "مصرفي الفقراء". لكن رغبته في الإصلاح السياسي وليس فقط الاقتصادي أدخلته في مشاكل بسبب تأسيسه حزبًا جديدًا في العام التالي لفوزه بنوبل، هو حزب قوة المواطن.
صاحب نوبل يواجه السلطة
لكن مشاكل يونس بدأت مع تولي الشيخة حسينة رئاسة الوزراء عام 2009، بعدما تصدر الانتخابات حزبُها "رابطة عوامي"، الذي أسسه والدها الشيخ مجيب الرحمن مؤسس دولة بنجلاديش المستقلة عن باكستان عام 1972، قبل اغتياله عام 1975 في انقلاب عسكري.
منذ وصلت حسينة إلى الحكم سلطت قضاءها "الشامخ" على منافستها الرئيسية للتخلص من خصومها
نجت الشيخة حسينة من حادث اغتيال والدها وعائلتها بوجودها وأختها ريحانة في أوروبا، قبل أن تلجأ إلى الهند. لكنها مع عودتها إلى بلادها بعدها بسنوات، انخرطت منذ منتصف الثمانينيات في منافسة مع امرأة أخرى على الحكم عبر الانتخابات.
الحزب الرئيسي المنافس لرابطة عوامي هو الحزب الوطني البنجالي BNP، الذي أسسه عام 1978 الجنرال ضياء الرحمن. ولكن بعد اغتياله عام 1982 في انقلاب عسكري قاده الجنرال حسين أرشاد، تصدرت أرملته خالدة ضياء المشهد ووصلت إلى السلطة في أول انتخابات جرت بعد الانقلاب عام 1990.
ثم فازت خالدة ضياء مجددًا في انتخابات 2001 وظلت رئيسة وزراء حتى انتهت فترتها عام 2006، لكن العسكريين عطلوا الانتخابات ثلاث سنوات في انقلاب غير دموي. وعندما أجريت عام 2009، فازت بها زعيمة رابطة عوامي الشيخة حسينة، ولثلاث دورات متتالية كانت رابعتها مطلع هذا العام. وتلقت عليها تهنئة من الرئيس السيسي، بعد ثلاثة أسابيع من تهنئة مماثلة منها على إعادة انتخابه لست سنوات أخرى وأخيرة.
ورغم مقاطعة الحزب الوطني المعارض لانتخابات هذا العام مع التقارير عن تزويرها إلى جانب ما مررته من قوانين لتخويف المعارضين وتقييد حرية الرأي، يبقى تصنيف الوضع السياسي والحريات في بنجلاديش للعام الماضي أفضل بمراحل من تصنيف مصر حسب مؤشرات مؤسسة دار الحرية الأمريكي، الذي اعتبر بنجلاديش "حرةً جزئيًا" فيما وضع مصر ضمن الدول المصنفة "غير حرة" بالمرة!
منذ وصلت حسينة إلى الحكم وهي عازمة على التخلص من خصومها السياسيين؛ سلطت قضاءها "الشامخ" على منافستها الرئيسية خالدة ضياء بتهم الفساد المالي التي بدأها العسكريون ضدها بعد نهاية فترتها كرئيسة وزراء. وبلغت أحكام السجن ضدها 17 سنة وتضاعفت بعد ذلك، لتظل بين مستشفى السجن والإقامة الجبرية المنزلية بالتماسات طبية حتى أُفرج عنها الأسبوع الماضي بعد هروب الشيخة حسينة إلى الهند. كما حاصر الطلاب الثوار المحكمة الدستورية وأرغموا رئيسها المقرب من حسينة على التقاعد.
تزايدت مشاكل محمد يونس مع الشيخة حسينة (وهي من مواليد 1947) بعد تأسيس حزبه. ففي عام 2011 صدر حكم قضائي يرغمه على التقاعد من إدارة البنك القروي (جرامين) الذي أسسه، وبتغريمه ماليًا بدعوى مخالفته قانون التقاعد الحكومي عند سن الستين، وكان في السبعين وقتها.
ومع استمرار نشاطه العام وانتقاده لرئيسة الوزراء، ازدادت قضايا الفساد ضد نصير الفقراء، بما في ذلك سجنه ستة أشهر في إحدى القضايا بالابتزاز مع عدد من مساعديه ومستشاريه في البنك بمبلغ يصل مليوني دولار، وهو حكم طعن فيه بكفالة وسط مائة قضية ضده، لم تتوقف حتى أسقطها القضاء في الأسبوع الماضي، عقب تنحي رئيس المحكمة الدستورية وتولي يونس رئاسة الحكومة الانتقالية هذا الشهر.
اعتمدت حسينة في قمعها لمعارضيها على الشرطة والأجهزة الأمنية، أما الجيش فظل بعيدًا، وهو ما حرصت عليه نفسها، استنادًا إلى تاريخ طويل من الانقلابات العسكرية في بلدها، التي بدأت بالانقلاب الدموي على والدها مجيب الرحمن عام 1975.
كما أدخلت تعديلًا دستوريًا، بسبب تدخلات الجيش والحكم لفترات تحت ستار حكومة انتقالية، يحظر استمرار أي حكومة انتقالية أكثر من ثلاثة أشهر دون انتخابات عامة.
ولعل هذه أكبر المعضلات التي تواجهها الحكومة الانتقالية الجديدة برئاسة محمد يونس. فعليها ترتيب الأوضاع في تسعين يومًا والدعوة لانتخابات عامة بينما حزب رابطة عوامي، الذي كان حاكمًا، غائب الآن عن الإجماع الوطني بل وكان قادة فروعه المحلية مستهدفين بالقتل خلال أحداث التظاهر وأعمال الشغب التي أطاحت برئيسة حزبهم ورئيسة الدولة! إلا إذا كان تعطيل الدستور سيشمل البند الذي يضمن إبعاد الجيش عن تعيين رؤساء حكومات وتعطيل الحياة السياسية!
سياقات متشابهة
ومثلما حدث في مصر عام 2011 حين قرر المجلس العسكري عدم التدخل في ثورة يناير التي لم يدافع فيها عن مبارك سوى الداخلية وأجهزة أمن الدولة، أبلغ رئيس الأركان البنجالي الجنرال واقر الزمان، مكتب رئيسة الوزراء حسينة بأن قواته لن تتدخل لفرض حظر التجوال الذي أرادته بعد شهر من الاشتباكات وأكثر من 300 قتيل.
فرصة يونس هذه وإن كانت امتحانًا عصيبًا لم يحظَ بها صاحب نوبل المصري
وهو قرار حاسم اتخذه الجنرال الجديد في رئاسة الأركان الذي تولى منصبه قبل أسبوع من الاحتجاجات التي تزعمها "طلاب ضد التمييز" على تخصيص 30% من وظائف الدولة لأقارب محاربي الاستقلال، وهم فصيل والدها الشيخ مجيب الرحمن وأنصار حزبه رابطة عوامي، لتحجب نحو ثلث الوظائف الثلاثة آلاف التي تتوفر سنويًا أمام 400 ألف خريج، وكانت الشرارة في مجتمع يعاني فيه 14 مليون بالغ من البطالة في بلد يبلغ تعداد سكانه 170 مليون نسمة.
ورغم النمو الاقتصادي الجيد بمعدل 6.6%، فإن اعتماد 80% من إجمالي الدخل القومي لبنجلاديش البالغ 455 مليار دولار على صادرات المنسوجات والملابس، مقابل دَين أجنبي: 97 مليار دولار، جعل البلاد أكثر عرضة لاضطرابات الأسواق العالمية. ومثلها مثل الحكومة المصرية حيث الناتج القومي 347 مليار دولار والدَين الخارجي 160 مليار دولار، تحججت الحكومة البنجالية التي أطيح بها بالجائحة والحرب في أوكرانيا.
من السابق لأوانه الحكم على مدى قدرة صاحب نوبل في بنجلاديش على إبقاء الجيش بعيدًا عن الحكم وترتيب انتخابات عامة وشاملة، فيما يطالب الثوار بإزاحة كل رموز النظام السابق وأغلبهم أنصار حزب رابطة عوامي. وبدون أيضًا إثارة مشاكل خارجية مع الهند الأقرب لحسينة ورابطة عوامي منذ نشأتها، مقارنة باقتراب الحزب الوطني البنجالي لخالدة ضياء من باكستان والتيار الإسلامي.
وقد حرص يونس في تعيينات حكومته الانتقالية على تعيين أحد البنجاليين من الهندوس، الذين يبلغ عددهم 13 مليون نسمة ولطالما تعرضوا للعنف والتخريب انتقامًا من قرب الشيخة حسينة من الهند وحكومتها المتشددة تجاه المسلمين.
لكن فرصة يونس هذه، وإن كانت امتحانًا عصيبًا، لم يحظَ بها صاحب نوبل المصري محمد البرادعي، حين أجبره الجيش على الاستقالة.
قد يرى البعض أن البرادعي لم يستقر بمصر حتى بعد عودته إليها في 2011 وكان يفضّل التزاماته ومحاضراته الدولية على البقاء في مصر أو مع الشباب في الميدان، ولم يتعامل مع مختلف الفئات المصرية بالشعبية التي ارتبط فيها محمد يونس بشعبه وزيه، حيث لم يسافر لأوروبا إلا للعلاج وظل في بنجلاديش حتى وهو ملاحَق قضائيًا.
لكن هناك من يرى أن شباب الثورة أنفسهم في مصر لم يتفقوا على شخص واحد، وكان الميدان منقسمًا في حقيقة الأمر بين الإخوان المسلمين وبقية الأحزاب والتيارات، وأن الجيش لم يقف محايدًا بل استخدم كل طرف ضد الآخر.
وحتى حين سلَّم السلطة بعد عام لرئيس منتخب، ظل ممسكًا بالأمن القومي والأجهزة السيادية. وهي الأجهزة نفسها التي كتب البرادعي بعد رحيله عن مصر في 2013 بأن "جهة سيادية" هددته بـ"التدمير" منذ 6 أغسطس، قبل أسبوع من فض رابعة والنهضة بالقوة، لو واصل محاولاته إيجاد حل سلمي وتحقيق المصالحة الوطنية!