برخصة المشاع الإبداعي: حسام الحملاوي، فليكر
لافتة من ثورة 25 يناير

الفيل في الغرفة.. تغييب ثورة يناير وغياب تأصيلها

منشور الأربعاء 5 فبراير 2025

أجلس في مسرح بوسط البلد، كان معروفًا باستقلاله وكونه مساحة حرة، لأشاهد عرضًا ينتمي منتجوه ومخرجه وممثلوه لثورة يناير، بل إن من بينهم معتقلون سابقون، لكني أجد غيابًا كاملًا لثورة يناير، التي هي العامل المشترك بين الجميع، حتى الجمهور.

نجلس في قلب ثورة يناير جغرافيًا، ولا نجرؤ على ذكرها. ليس في هذا المسرح وحده، فوسط البلد تحفل بالمسارح والمعارض التي دائما ما تكون نشطة، ولكن لا أثر للثورة، وكأنها لم تحدث في نفس هذه المنطقة بضع أعوام مضت. الفيل في الغرفة، ولا يجرؤ أحد على التحدث عنه.

يمكن توصيف ذلك بأنه جريمة سرقة. سرقة وعيٍّ وذاكرةٍ على مرأى ومسمع من الجميع وعلى رأسهم نحن؛ شهود العيان وأصحاب التجربة ممَّن بقيوا على قيد الحياة. هل هناك ما يمكننا فعله ونحن نرى ذكرياتنا وأحلامنا وواقعنا يُسرقون منَّا؟ أم أننا قبلنا الهزيمة وعلينا التسليم بالتفريط في وعينا وتجربتنا الجمعية؟

ربما لأنها كانت ثورة عفوية، لم تحظَ يناير بفرصة للتأصيل الفلسفي مثلما حدث مع الثورات الأخرى عبر التاريخ مثل الثورة الفرنسية. ربما حان الوقت أن نقوم، بينما لا نزال على قيد الحياة، بهذا الدور.

ربما سلاح البقاء الوحيد لدينا الآن هو حفظ وتدوين الأفكار والذكريات. هل ما زالت الفرصة سانحة للعمل على التأصيل الفلسفي لثورة يناير؟ هذا الحدث التاريخي الذي يقبع الآن في خلفية ذكرياتنا ووعينا، مهدد بالانقراض؟

تغييب ثورة انتصرت

لم تكن ثورة يناير 2011 مجرد حدث سياسي عابر، بل مثلت نقطة تحول كبرى في تاريخ مصر الحديث والمنطقة ككل، وعلى جميع الأصعدة؛ اجتماعيًا وسياسيًا وثقافيًا، وأيضًا من حيث النتائج المباشرة، وكذا الإرث الذي تركته.

وبعد مرور 14 عامًا على اندلاعها، و11 عامًا على انحسارها، نجح النظام المصري القمعي في فرض وعي جمعي بأنها لم تكن إلا حلمًا عابرًا في أحسن الأحوال، وفي أسوأها خطأ لا ينبغي تكراره. وفي إطار من القمع والسيطرة من النظام على جميع الأصعدة.

الفنانون الذين يقدمون عملًا إبداعيًا يتحدث عن صورة يناير ربما يدفعون الثمن غاليًا

من العجيب والمخيف أنَّ ثورة يناير بمعايير النصر والهزيمة، حققت نصرها المطلق؛ بإسقاط النظام البائد وإجراء انتخابات حقيقية. ولكن إمعانًا في تغييب واقع الثورة، سُرقت هذه المكتسبات عنوة، وتُرِك كل من شارك في الثورة في حالة من الذهول والعجز.

فسياسيًا؛ قضى النظام تمامًا على كل أثر لمعارضة حقيقية، واستبدل بها دائرةً من المعارضين الكارتونيين الذين ينحصر دورهم في تبييض وجه النظام وإضفاء شرعية وهمية عليه، لاغيًا أي محاولات لتنظيم جدِّي، لإيصال رسالة واضحة بأن السجن سيكون مصير كل من تسول له نفسه تصور أنه معارض.

يَفرض النظام الأمر الواقع بوجوده المطلق، ماحيًا من الذاكرة صور ملايين المصريين الذين ملأوا ميادين بلدهم احتجاجًا ورفضًا لنظام مبارك، حتى غابت مجرد فكرة المعارضة نفسها عن الوعي الجمعي والفردي.

أما اقتصاديًا؛ ولأن "العيش" كان أول مبدأ للثورة متجليًا في هتافها الأشهر "عيش.. حرية.. عدالة اجتماعية"، اتخذ النظام الطريق المضاد له؛ أي التجويع، وكأنه يمحو هدف الثورة الأول، بوضع المصريين في أزمة اقتصادية طاحنة لا تنتهي ولا ترحم ولا تترك الوقت والجهد للتفكير في خيالات الماضي وشعارات الثورة.

ما حدث في السياسة والاقتصاد حدث في المجالين الثقافي والفني؛ حيث التغييب التام لثورة يناير تمامًا عن أي محتوى ثقافي أو فني طوال أكثر من عقد من الزمان، وكأنها لم تكن. حدثت، ونتذكرها جميعًا، ونرى آثارها ونرصدها، ولكننا لا نتحدث عنها وكأنها الفيل في الغرفة.

الإنتاج الفني والثقافي في مصر في العقد الماضي تُمسك به بإحكام قبضة النظام وأجهزته الأمنية، باستثناء بعض الكُتَّاب والفنانين الأفراد، الذين يصدر عن أحدهم من حين لآخر عمل إبداعي يتحدث عن صورة يناير، وربما يدفعون ثمن هذا غاليًا. 

مقاومة الغياب بالتوثيق

متظاهرون في ميدان التحرير، 25 يناير 2011

ثورة 25 يناير 2011 لم تكن مجرد حدث سياسي واجتماعي، بل ظاهرة يمكن تأصيلها فلسفيًا من خلال دراسة القيم والمبادئ التي شكلتها، وتفاعلها مع قضايا الحرية، العدالة، والمقاومة، التي تناولتها الفلسفة عبر العصور لفهم جذورها الفكرية. فالثورة تعكس رغبة شعب في تحقيق الحرية الفردية والجماعية التي تحدث عنها جون لوك باعتبارها حقًا طبيعيًا غير قابل للتفاوض، واعتبرها جان جاك روسو تعبيرًا عن العقد الاجتماعي الذي ينشأ بين الحاكم والمحكوم. بينما يرى إيمانويل كانط أن الحرية هي قدرة الإنسان على استخدام عقله والتفكير بشكل مستقل.

الثورة جسدت هذا المفهوم، حيث طالب الشعب بالاستقلال عن السلطة الأبوية القمعية التي فرضها النظام لسنوات طويلة. العدالة كانت إلى جانب العيش والحرية من شعارات الثورة الرئيسية. ووفقًا لجون راولز، يجب أن تُوزَّع الفرص والموارد بشكل عادل ليستفيد منها الأفراد الأكثر تهميشًا في المجتمع. ومن المنظور الماركسي، ثورة يناير كانت تعبيرًا عن صراع الطبقات، حيث انتفضت الفئات المسحوقة ضد هيمنة النخب الاقتصادية والسياسية التي احتكرت الثروة والسلطة.

هناك العديد من المدارس الفلسفية التي يمكن تطبيقها على ما حدث في يناير 2011، وما ذكرته هو فقط يعض الأمثلة. ما ينقصنا، نحن من عشنا الثورة ولدينا القدرة على التفكير والكتابة، هو العمل سويًا على خَلق أساس فلسفي لهذه الثورة، يكون هو الوعاء الذي تغرف منه الأدبيات والأعمال فنية ما يخلِّد ذكرى الثورة، بمنحها مرجعية للإبداع في المستقبل، وكذلك الأساس الفكري والفلسفي لحركة شعبية يود النظام القمعي إرسالها لغياهب النسيان.

لذلك، أدعو كل من عايش تجربة الثورة جسديًا وروحيًا، وعنده ملكة الكتابة، أن يكتب عن يناير، قبل فوات الأوان.

ثورة يناير ليست مجرد حدث سياسي، بل تعبير عن قيم إنسانية وفلسفية عميقة ترتبط بالحرية، العدالة، والكرامة. تأصيلها فلسفيًا يوضح أنها كانت انعكاسًا لفكر إنساني متجذر عبر التاريخ، وتجربة فريدة تجسد الصراع الأبدي بين الحرية والقمع، وبين العدالة والظلم. ورغم التحديات التي واجهتها، تبقى روح يناير شهادة على قدرة الإنسان على المقاومة والسعي نحو التغيير.

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.