
نصيبه من الوهم
حمدين صباحي في درع دون كيخوته
مطلع العام الحالي، نشر حمدين صباحي في المنصة مراجعاته التي سمَّاها "نصيبي من الخطأ"، وهو عنوان حَمَّالُ أوجه، قد يوحي بأن الرجل يُقسِّم الأنصبة ليتحمل نصيبه منها. لكنَّ صاحبه تحدّث أكثر عن أنصبة الآخرين بكلام إنشائي يُحمِّلهم في مجمله وزرَ كل شيء، متقمصًا دور الزعيم/الفارس الذي يجلس ليقيّم تجربةً عاشها بوهمٍ دون كيخوته.
ففي مطلع القرن السابع عشر، قدّم الإسباني ميجيل دي ثيربانتس روايته الخالدة دون كيخوته، عن رجل خمسيني نحيل انغمس في قراءة كتب الفروسية حتى ذاب في عوالمها تمامًا، فصدق أنه قادرٌ على إعادة زمن الفرسان الذين يطوفون الأرض لنشر العدل ونصرة المظلومين، فطفق في رحاب الأرض يحارب طواحين الهواء وقطعان الأغنام حتى توالت هزائمه.
ومثل دون كيخوته، يرفض صباحي في سلسلة مراجعاته مواجهةَ الحقيقة، رغم إيقانه في لحظة السقوط أنه هُزِمَ بالفعل، دون أن يفسر الهزيمة بضعفٍ فيه أو بخللٍ في مشروعه، بل يجد المبررات في خصومه السحرة الأشرار/الإخوان.
يستهل حمدين مراجعاته بصورة تظهر فيها انعكاساته ثلاث مرات؛ صباحي على اللابتوب، وصباحي محفورًا بالحرق على لوحٍ من خشب، وصباحي في جدارية ضخمة أمامه تجسده في لحظة زعامة، محمولًا على أعناقِ حشودٍ ترفع الأيادي والأعلام، لكنَّ علم مصر الأكبر في هذه الصورة كان عَلمَ الثورة السورية، الذي رفعه متظاهرون خلال مليونية شهدها ميدان التحرير في يونيو/حزيران 2012.
ثلاثة انعكاسات لزعيم تحيط به صور ذاته أكثر مما يحيط به الناس.
مراجعة بلا مكاشفة
المراجعات بطبيعتها تقتضي قدرًا من المكاشفة والجرأة؛ كيف سارت العلاقة بالسلطة؟ ماذا جرى في الغرف المغلقة؟ وأين أخطأ في مشورة أو قرار؟
لم يفعل ذلك كله، بل كتب نصًا عامًا يضاف إلى ما يمكن أن يُعرّف بـ"المعلوم من حمدين بالضرورة"، أخطر ما فيه غياب أي تحليل جاد لأسباب هزيمة الثورة، من دور للجيش والدولة العميقة، إلى ضعف القاعدة الشعبية.
الحقيقة أن من يقدم نفسه على أنه زعيم ثوري أو من يضع نفسه في موضع القيادة، لا يملك ترف إخفاء الكواليس عن الناس، ولا أن يمرّ على المحطات المفصلية كأنها تفاصيل هامشية؛ موقف جبهة الإنقاذ بعد ما وصفه باختطاف الثورة، الردة عن يناير، طبيعة علاقته بالسلطة أو علاقات شركائه بها لاحقًا، كل هذا حق الناس في أن يعرفوا. أما ما قدّمه صباحي فكان مجرد نسخة جديدة من بطولات دون كيخوته، يصنع أعداءً خياليين ليبرر الهزيمة، ويظل محتفظًا بصورة "الزعيم" التي لم يجرؤ يومًا على امتحانها في مرآة الحقيقة.
بين الأخطاء والخطايا
لا تبدو المراجعة الأولى نقدًا ذاتيًا بقدر ما هي بكائية بطل تراجيدي مهزوم. نصٌّ مغمور بالاستعارات الدينية والتاريخية؛ "الخروج من الجنة"، "الخطيئة الأولى"، "المعلوم من الثورة بالضرورة". مع الكثير من الأوصاف الوجدانية مثل "جنة التحرير" و"قبلة أحرار الدنيا". أسلوب يمنح القارئَ شعورًا بأنه أمام أسطورة ميثولوجية تتحوّل فيها أخطاء البطل القابلة للقياس إلى "خطايا تراجيدية" تُرسخ مظلوميته ونقاء صورته.
في عرضه للأحداث، يُظهر صباحي نفسه صاحب الرؤية السليمة التي لم يستمع لها أحد؛ نادى بمجلس رئاسي مدني، واعترض على الحوار مع عمر سليمان رغم تشكيك البعض في ذلك وأنه فعل مثلما فعل الإخوان وقال "سأجلس مع عمر سليمان". لا يقول صراحة "قصّرت"، "فشلت في بناء التوافق"، "انسقت وراء لحظة الفرح".
مع التركيز على أخطاء الآخرين، يتجاهل حمدين صباحي قضايا جوهرية أخرى مثل ضعف التواصل مع الطبقات الشعبية خارج الميدان، غياب خطة واضحة لإدارة الانتقال، الارتهان لرمزية الميدان دون بناء مؤسسات.
في النهاية، يستدعي مشاهد الهتاف والرقص ورفعه زعيمًا على الأكتاف، بل وحتى إمامة الصلاة. كلها تفاصيل لا مكان لها في مراجعات ونقد ذاتي يمارسه سياسي.
إعادة إنتاج الأسطورة
في مراجعته الثانية، واصل صناعة البطل التراجيدي الذي يحرس حلمًا أفسده الآخرون. يقول صباحي بيقين "أصاب الشعب وأخطأت النخبة". لكنه أحد أبرز وجوه تلك النخبة، ومرشّح أساسي ساهم في تفتيت أصوات يناير. لكنه بدلَ أن يضع نفسه في قفص الاتهام، يتحدث كحكيم يراقب من بعيد. يعترف لفظيًا بترشحه، لكن يذيب مسؤوليته في جمعٍ مبهم اسمه "النخبة".
في مراجعاته يتحدث بلا لبس عن أخطاء الإخوان أما أخطاؤه فيمرّ عليها باعتبارها مجرد اجتهادات
يستند إلى أرقام ليقول إن "الثورة" حازت 51% لو اتحدَّت، مضيفًا حتى عمرو موسى إلى هذا المعسكر. لكن هذا مجرد افتراض دعائي؛ فمن قال إن أصوات موسى كانت ستنتقل آليًا إلى مرشح للثورة؟ يتجاهل أن السياسة ليست أرقامًا جامدةً، بل معقّدة تتأثر بالانطباعات والاصطفافات والآلة المضادة للدولة العميقة. هكذا يحوّل صباحي الأرقام إلى أداة لتبرير فرضية جاهزة "لو اتفقنا لفزنا"، من دون وضع فرضيته هذه في أي اختبار.
ثم ينقل صباحي بفخر أنه رفض أن يكون نائبًا لمحمد مرسي أو عبد المنعم أبو الفتوح رغم أنها كانت خطوة تحتاج للمراجعة، وفي موضع آخر يروي عن لجنة المائة "إذا قرروا التوافق على عبد المنعم سأعلن تنازلي له، غير أني لن أقبل موقع نائب الرئيس، وهذا يعطيه فرصة انتخابية أفضل".
إن كان حمدين يؤمن بضرورة إنقاذ الثورة عبر التوافق، فقبول موقع نائبٍ لمرشح توافقي كان سيشكّل جسرًا رمزيًا بين كتل متنافرة، ويزيد فرص الفوز وإدارة الانتقال بتوازن، لكنه برفضه المنصب مرتين أضعف دعوى "التضحية من أجل التوافق"، أو أنه يريد التوافق، لكن ليس لدرجة أن يدفع مقابله أثمانًا شخصية.
مرافعة تبريرية
في المراجعة الثالثة، يقول صباحي "الآن في هذه المراجعة وبعد ما شهدته مصر من انحسار الحلم وتغول الكابوس ألوم نفسي". لكن هذا "اللّوم" يأتي بعد عقد من الزمن، وبصياغة وجدانية أكثر منها سياسية، هو لا يعترف بقرار خاطئ اتخذه، بل فقط بكونه "خجل" أو "لم يرفع صوته" كما ينبغي.
يضع صباحي الخوف والمظلومية في كفّتين متساويتين "الخوف كان سلاح السلطة والمظلومية كانت سلاح الجماعة". معادلة تبدو متوازنة لكنها تخفي أن السلطة امتلكت الرصاص والدبابات أما الجماعة فامتلكت خطابًا شعبويًا. مساواة الطرفين تذيب حقيقة أن هناك غالبًا ومغلوبًا، قامعًا ومقموعًا، ثم يصف الأمر كله بـ"تجارة الخوف وغنيمة المظلومية". هنا يتجاهل صباحي أحداثًا دامية مثل مذبحة الحرس الجمهوري، وكأن الدماء التي سالت لم تكن جزءًا من معادلة "فرض الحقائق الجديدة". وهذا ليس غريبًا على من لم يتورع عن زيارة بشار الأسد.
في مراجعاته هو، يتحدث بلا لبس عن أخطاء الإخوان. يكتب خطابًا تخيُّليًّا على لسان مرسي وكأنه ينتظر من خصمه أن يستعير لسانه. أما أخطاؤه فيمرّ عليها باعتبارها مجرد اجتهادات أو وجهات نظر لم يُقدَّر لها أن تُسمع، لا كقرارات كان لها ثمن باهظ. يوزّع المسؤولية على الآخرين، محتفظًا لنفسه بدور الشاهد الحكيم المظلوم، لا الفاعل الذي ساهم في تمهيد الطريق نحو الهزيمة.
يعيد صباحي في أكثر من موضع إنتاج صورة "المفكر الصائب الذي تجاهله الآخرون"، يقول إنه كان ضد حوار عمر سليمان في 2011، وضد التفويض في 2013، وضد الدم في رابعة مع رغبته في فض الاعتصام وأنه لا حل غير ذلك، وعدم اعترافه بالمذبحة وقتها، وعند مراجعة هذا قال ما قاله معاوية في عمار بن ياسر: قتله الذي أخرجه، واكتفى بـ"لم أعلن موقفي بما يكفي"، "لم يُستمع لي".
يقول صباحي عن طلب السيسي للتفويض "لكن القضاء على الإرهاب كان دعوة حق يراد بها تغيير حقائق قائمة وفرض حقائق جديدة، منها تعظيم دور المكوِّن العسكري في السلطة الانتقالية على حساب المكوِّن المدني".
لكن المكوِّن العسكري لم يكتسب ثقله من "التفويض" بل كان هو اللاعب الأساسي، من وجّه الإنذار لمرسي كان وزير الدفاع، من تلا بيان 3 يوليو كان وزير الدفاع، ومن هتفت له الجماهير في الميادين كان وزير الدفاع، التفويض لم يصنع سلطة الجيش، بل جاء كاشفًا لها.
أخطأت بسبب الجميع
منذ السطر الأول في الخطأ الرابع، يعلن صباحي أنه "يتحمل كامل المسؤولية عن خطأ ترشحه للرئاسة 2014"، لكنه سرعان ما يبدأ في نثر المبررات؛ إجماع الأهل والأصدقاء، دعم الحزب، قناعة الشركاء السياسيين، كيف يمكن لإنسان أن يقول "أنا وحدي أتحمل" مسؤولية الخطأ ثم يقضي باقي الفقرة في إلقاء مسؤوليته على الآخرين إلا إذا كان يتقمص دور البطل التراجيدي الذي يفتدي الجماعة التي أخطأت؟
لم يمتلك صباحي شجاعة الاعتراف بتحوّل جبهة الإنقاذ إلى مجرد كومبارس في مسرحية
اللافت أكثر أن صباحي ظل مقتنعًا بأن الجيش لن يرشح أحدًا، استنادًا إلى خطاب 3 يوليو عن أن المؤسسة "لا تطلب الحكم" وكأنه متابع عادي للأخبار وليس فاعلًا سياسيًا في مطبخها. وعندما أعلن وزير الدفاع ترشحه، لم يتراجع رغم اعترافه لاحقًا بأن يقينه كان أن أغلبية الشعب تؤيد السيسي، ومع هذا اليقين قرر خوض الانتخابات، فحوّل المنافسة إلى انتخابات شكلية انتهت بنتيجة مهينة، حصل فيها على أصوات أقل من الأصوات الباطلة.
يقول إن تقديراته ذهبت إلى أن منصب الرئيس سيكون من نصيب مرشح الثورة، ونسي أن الثورة سقطت بسبب الطريقة التي أُسقط بها أول رئيس مدني. كما أنه لم يعترف بأن حساباته كانت أقرب إلى أمنيات ذاتية من كونها قراءة واقعية لخريطة القوة الفعلية؛ جيش يستعيد المشهد، دولة عميقة تستعيد توازنها، كل المؤشرات كانت تقول إن المنافسة الحقيقية ستُحسم لصالح مرشح المؤسسة العسكرية، لا "حدس" حمدين.
ويكشف تناقضه أكثر بقوله "من مكر التاريخ أن الجماعة صنعت الخوف، فإذا بالخوف يصنع شعبية السيسي". عودة إلى السحرة الأشرار في رواية دون كيخوته، وكأن لا دور له هو أو معسكره في تعزيز هذه المعادلة.
وهم التنظيم
يقول صباحي إن "ضعف التنظيم هو السبب الجوهري في انتكاسة الثورة"، متجاهلًا حقيقة أنه كان رئيس حزب الكرامة وصاحب التيار الشعبي وعضوًا بارزًا في جبهة الانقاذ. ثم يحاول شرح دروس للتنظيمات، لكنه يسقط في فخ التناقض، فهو يقول "التنظيم ليس بديلًا عن الشعب"، دون أن يخبرنا كيف يعبّر الشعب عن إرادته دون تنظيمات اجتماعية وسياسية تُعبّر هذه الإرادة.
الأكثر إشكالية، حين يعترف بأن "قوى الثورة وعت الدرس" فأسّست التيار الشعبي وجبهة الإنقاذ، وهو نفسه يعترف أنهما لعبا دورًا محوريًا في 30 يونيو، لكنهما فشلا في تمكين الشعب بعد 3 يوليو ما يكشف أن الأزمة لم تكن في غياب التنظيم بل في غياب قدرته على تحقيق أي رؤية، ثم يقر بخطأ ترك الجبهة للتفكك، ويلقي بالمسؤولية على سفر البرادعي، كأن جبهة كاملة انهارت لغياب فرد واحد.
لم يمتلك صباحي شجاعة الاعتراف بتحوّل جبهة الإنقاذ إلى مجرد كومبارس في مسرحية انتهت بخنق الثورة، مفضّلًا الحفاظ على صورة "الزعيم" في مخيلته، مثل دون كيخوته الذي أقنع نفسه بأن السحرة هم من حوّلوا العمالقة إلى طواحين، والفرسان إلى أغنام.
مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.