علمتنا سُنن التاريخ أن الثورات هي أرقى وأصعب محطات التدافع الاجتماعي، وهي أهم مفاتيح تطور المجتمعات. وأن كل ثورة متفردة كالبصمة. لكن كل الثورات تشترك في جوهر واحد هو التغيير الجذري الشامل الذي يتقدم بالمجتمع نحو تحقيق حياة أفضل للشعب، استجابةً لحاجاته وتحقيقًا لآماله. وبقدر إنجاز هذا التغيير ومدى عمقه وشموله واتساع القاعدة الشعبية التي تجني ثماره يُقاس نجاح أي ثورة.
كما تشترك كل الثورات في مسار رئيسي، إذا افترضنا أنه ألف خطوة، فإن الخطوة الأولى هي إسقاط السلطة القائمة، والخطوة الثانية هي إقامة سلطة الثورة، وهنا فقط يمكن قطع باقي الألف خطوة، وكلها تستهدف التغيير من أجل حياة أفضل للناس ماديًا ومعنويًا واجتماعيًا واقتصاديًا وثقافيًا وسياسيًا.
كل حراك شعبي كبير يحتج على سلطة ظالمة أو يتمكن من إسقاطها هو مشروع ثورة؛ إذا توقف عند هذه الخطوة فهو انتفاضة، وإذا أنجز الخطوة الثانية فهو أمام احتمالين؛ إما مواصلة السياسات القديمة، ولو بتعديلات سطحية، وهذا هو الانقلاب، وإما تغيير شامل عميق فتلك هي الثورة. هذا هو المعلوم من الثورة بالضرورة.
تركنا المعلوم من الثورات بالضرورة
تحت شمس 25 يناير 2011 بدأ أعظم وأنبل وأوسع حضور شعبي في تاريخنا. تمكن المصريون من خلق جنة التحرير التي دامت ثمانية عشر يومًا، كل يوم بألفٍ مما تعدون، حتى صارت قبلة أحرار الدنيا ومرتجى المستضعفين في أرض الله الواسعة.
فلما كان مساء 11 فبراير/شباط، جاءت اللحظة الباهرة التي شهدت انتصار الثورة في خطوتها الأولى؛ إسقاط رأس السلطة. وهي اللحظة نفسها التي كان ينبغي فيها الإقدام دون أي تأخير على إنجاز الخطوة الثانية، وهي قيام سلطة ثورية بالإعلان في الميدان عن تشكيل مجلس رئاسي مدني مفوض شعبيًا، يتولى السلطة باسم الثورة، ويمارس الصلاحيات الدستورية لرئيس الجمهورية طوال فترة انتقالية ملائمة لإقرار دستور جديد وإجراء انتخابات برلمانية ورئاسية.
لو أن الطلائع الثورية اتفقت على المجلس الرئاسي المدني لتهيَّأت قيادة القوات المسلحة لقبول الإرادة الشعبية
لكن اللحظة الباهرة غشت أبصار الثوار، فاكتفوا بالخطوة الأولى وتركوا الميدان قبل استكمالها وتحصينها بالخطوة الثانية الواجبة.
كيف تركنا الميدان قبل أداء هذا الواجب؟ كيف تجاهلناه؟ أو أغفلناه؟ أو تعامينا عنه؟ أو عجزنا عن إنجازه؟
كيف تقبلنا هذه المفارقة المبكية؛ الرئيس الذي أسقطه الشعب هو الذي يُحدد من يتولى السلطة بعد سقوطه؟! مبارك الذي لم يتمكن من إبقاء نفسه على كرسي الحكم يختار بنفسه من يجلس عليه؟!
سقط مبارك بإرادة الشعب ففقد كل شرعية تُخوّل له اختيار من يخلفه. ولم تكن ثمة مرجعية دستورية تنص على تولي المجلس العسكري زمام السلطة. وما أتاح الفرصة لسريان وصية مبارك غير الشرعية سوى عجزنا الفاضح عن إعلان تشكيل مجلس رئاسي مدني.
ولو أننا أنجزنا هذا الواجب، المعلوم من الثورة بالضرورة، لتغير مسار الثورة. ولو أن الطلائع الثورية والنخب السياسية أدت واجبها في الاتفاق على المجلس الرئاسي المدني، والحصول على تفويض شعبي من الميدان قبل إعلان تنحي مبارك أو عقبه مباشرة، لتهيأت قيادة القوات المسلحة لقبول الإرادة الشعبية التي انحازت لها. لقد كانت اللحظة التاريخية مواتية لإدارة شراكة بناءة بين الشعب وجيشه في إدارة المرحلة الانتقالية تحت قيادة مدنية، تستمد شرعيتها من جماهير الثورة في الميدان.
لا أركز على فداحة هذا الخطأ قياسًا على مثال نظري صائب فقط، بل إدراكًا للظروف الموضوعية التي كانت في تقديري تسمح لنا بتفادي الوقوع فيه. فلم تكن الفكرة غائبة عن قوى الثورة؛ بل حاضرة في الميدان وموضوعًا لنقاش متعدد الأطراف بين شركاء الثورة.
وكان رأيي أن نتوافق على تسمية مجلس رئاسي من سبعة إلى أحد عشر عضوًا، يمثلون القوى الرئيسية في الميدان على قاعدة "لا هيمنة ولا استبعاد". ومع المجلس برلمان من مائة عضو، على القاعدة نفسها. وأن نعرض نتيجة التوافق على الميدان للحصول على موافقته.
وقد شهدت تجمعات الميدان وخيام المعتصمين مساعي عدة للتوافق على تشكيل هذه القيادة. وتبلورت هذه المشاورات في اقتراح قيادة جماعية من مائة اسم يمثّلون كافة شركاء الثورة، على أن يختاروا مجلسًا رئاسيًا من بينهم. وبالفعل شرع المهندس خالد يوسف في عرض الاقتراح من فوق منصة الميدان، وبدأ في تلاوة الأسماء المقترحة، غير أنه حين وصل لاسم الدكتور عبد المنعم أبو الفتوح، قاطعه الدكتور محمد البلتاجي، ونزع من يده الميكروفون، وأفشل المحاولة.
ثم داهَمَنا الوقت قبل أن نصل إلى نتيجة حاسمة، وسقط مبارك ونحن لم نحدد بعد بديلًا ثوريًا لإدارة الدولة في مرحلة الانتقال.
الجماعة وعمر سليمان
لا ألقي باللوم في هذا الخطأ على جماهير الثورة، وهي عمادها وحطبها ومصدر قوتها وشرعيتها، التي صمدت ببسالة، وكان من حقها الطبيعي بعد ثمانية عشر يومًا من الرباط في الميدان أن تعود إلى بيوتها وتطمئن على عائلاتها.
وإنما اللوم كله على القيادات التي حازت صفة تمثيلية في قطاعات شعبية وأحزاب وجماعات، وتمّرست في النضال ضد سلطة مبارك وكوّنت بينها من الخبرات المشتركة، خصوصًا في كفاية والجمعية الوطنية للتغيير والبرلمان الشعبي، ما يسمح لها بإنجاز هذا الواجب لو أنها تحلّت بقدر أكبر من العزم والحسم والبصيرة والقدرة على الاتفاق.
وربما كان أقرب المقربين لأداء هذا الواجب مَن واظبوا على اللقاء اليومي في عيادة الأستاذ الدكتور عبد الجليل مصطفى، على مشارف ميدان التحرير، الذي انتظم فيه ممثلون عن القوى السياسية وأداره هو بإخلاص ودأب، يعاونه المهندس يحيى حسين عبد الهادي.
أشهد أنني أخطأت وأُقر بنصيبي من الخطأ وأعتذر عنه
وقد شهد هذا اللقاء من الاتفاق والخلاف ما يستحق التوثيق لأهميته وأثره، ومن بينه الخلاف على المشاركة في الحوار الذي دعا إليه اللواء الراحل عمر سليمان رئيس جهاز المخابرات العامة، وكنت تلقيت اتصالًا ليليًا من الدكتور محمد البلتاجي، علمت فيه بنيّة جماعة الإخوان المشاركة في هذا الحوار صباح اليوم التالي.
اختلفت معه وأوضحت له رأيي؛ أنه من الخطأ أن يستجيب أحد منّا فرديًا لدعوة الحوار دون قرار جماعي وموافقة مسبقة من الميدان، وأنني لن أقبل الحضور قبل استيفاء هذا الشرط، ورجوته أن يرجئ القرار حتى نلتقي باكرًا ونناقش الأمر جميعًا فوافقني.
أبلغت الدكتور عبد الجليل مصطفى والتقينا مبكرًا في عيادته، وأثناء النقاش الذي حضره الدكتور عصام العريان، وبينما كنت أعرض رأيي، فوجئنا بمعلومة أن ممثل الإخوان قد ذهب بالفعل للمشاركة في الحوار دون انتظار نتيجة تشاورنا.
نتحمل الوزر الأكبر
تتحمل جماعة الإخوان قدرًا كبيرًا من وزر هذا الفشل، لكن شركاء الثورة يتحملون وزرًا أكبر. لأنهم كانوا قادرين بدونها، لو اتفقوا وعزموا على تشكيل هذه القيادة بموافقة الميدان. ولو فعلوا، لما ارتضت الجماعة أن تبقى معزولة خارج الإجماع، وربما رشّدت سلوكها الفردي الذي جرها لتكون أول من حاور وأول من غادر.
لكننا فشلنا، فشلنا في تشكيل قيادة مُفوضة شعبيًا نحاسبها على إدارة الدولة واستكمال الثورة. وقد كنتُ واحدًا من هؤلاء. أشهد أنني أخطأت وأُقر بنصيبي من الخطأ وأعتذر عنه. كان هذا الخطأ الأول هو الأفدح، بل لعله الخطيئة المؤسِّسة التي ترتب عليها أو لحق بها باقي الأخطاء.
بين خيام المعتصمين في الميدان، بجوار مسجد عمر مكرم، كنت آخر نهار 11 فبراير 2011 في خيمة قيادات الضرائب العقارية، الذين حققوا بإضرابهم واعتصامهم الطويل بقيادة المناضل كمال أبو عيطة انتصارًا مشهودًا، وانتزعوا أول تنظيم نقابي مستقل.
عندما ارتفع أذان المغرب اصطففنا للصلاة، قدموني إمامًا، وكنا في الميدان نؤتى رخصة القصر والجمع، فوجدتني أرفع صوتي بتلاوة سورة واحدة، كررتها في الركعات الجهرية الأربع للمغرب والعشاء، سورة النصر: إذا جاء نصر الله والفتح. وفي لحظة التسليم انتفض الميدان هادرًا بأهازيج النصر. وحين وجدتني مرفوعًا على أكتاف المبتهجين رددت ثلاثة هتافات:
عاش نضال الشعب المصري
عاشت ثورة 25 يناير
الشعب يريد بناء النظام
ثم هبطت لأشارك في حلقة رقص جماعي، يدي تتشابك بيد شريك الحلم والسعي أمين إسكندر، والأحباء الآتين من كل مكان، خصوصًا من بلطيم، منتشين بفرح غامر لا مسبوق ولا ملحوق.
ثم وجدتني، رغم ما عزمت عليه ودعوت إليه من تشكيل قيادة للثورة قبل ترك الميدان، أنصرف إلى بيتي مع المنصرفين.
في أول النصر وفي ذروة الفرح تركنا ميدان التحرير.
خرجنا من الجنة نحمل وزر الخطيئة الأولى.