صورة معدلة
ميدان التحرير، مارس 2013

نصيبي من الخطأ| في مديح الأمل

خاتمة

منشور الجمعة 31 يناير 2025

كل ما عددته هنا من بين أخطائي ينصب على مواقف معينة محددة تفحصتها وعرضتها لأكتشف الأخطاء، وأكشفها، بهدف وعيها لتفادي تكرارها.

لكن الهدف المنشود من هذا النقد الذاتي، وعموم النقد، لا يقتصر بالضرورة على فحص ونقد الممارسات العملية، وإنما يتسع لفحص ونقد الأفكار والمفاهيم النظرية.

الفكرة تسبق الحركة، ثم تنضج وتتطور على ضوء نتائجها والخبرات المكتسبة منها. تَفَادي أخطاء الفعل يستوجب تَفَادي أخطاء الفكر، وتصويب الممارسة يتطلب تصويب الوعي.

كل نقد ذاتي جاد يعترف بأخطاء الممارسة هو إقرار ضمني بقصور التفكير أو سوء التقدير، وبالحاجة الماسة إلى تطوير المفاهيم وبلورة الوعي.

وفي يقيني أن ثورة يناير، بالحضور الشعبي الأعظم الذي شهدته، كانت مهيئة للنصر وتفادي ما لحقها من نكسة مُوجعة لو أنها وجدت عقلًا ثوريًا أوعى أو وعيًا ثوريًا أعقل. وحتى بعد النكسة، التي استطالت لياليها المظلمة، كان ممكنًا تفادي موجة الإحباط الواسعة التي دهمت كثيرين من المنتمين للثورة لو أن المفاهيم التي شكّلت وعيهم كانت أصوَب وأنضَج وأوضح.

ورغم أن نقد العقل الثوري أو نقد الوعي السائد لدى نخب الثورة، على أهميته، ليس من بين المهام التي أدّعي القدرة عليها، خاصة في هذه الخاتمة، حيث لا يتسع المجال؛ فإنني حرصًا على الاقتراب ما استطعت من الفائدة المرجوّة، أُشير إلى بعض المفاهيم التي ساهمت في تكوين وعيي الذاتي، ومن ثَمَّ أسهمت فيما ارتكبت من أخطاء.

وتقديري أنها مفاهيم كانت، والأرجح أنها لا تزال، سائدة أو رائجة في وعي قطاع عريض من النخب التي شاركت في الثورة، وتستحق منّا جهدًا جماعيًا لفحصها ونقدها، وربما نقضها كلها أو بعضها.

ثورة يناير كانت مهيئة لتفادي النكسة لو أنها وجدت عقلًا ثوريًا أوعى أو وعيًا ثوريًا أعقل

أما المفاهيم الأصوب من وجهة نظري فأعرضها بالإيجاز المُستطاع في هذه العناوين التي تكثّف خلاصة ما تعلّمت من التأمل النقدي في مسارات ومآلات التجربة. غير أنني لا أُقدمها أحكامًا نهائيةً بل قناعتي الراهنة التي تحتمل النقد والنقض عبر الحوار دون أي توهم باحتكار الصواب:

من ضيق الأيديولوجيا إلى سعة المشروع الوطني القومي الإنساني

"موت الأيديولوجيا" مقولة متعسفة مغرضة.. وهي، بالمناسبة، مقولة أيديولوجية. ستبقى الأيديولوجيا ضرورة لامتلاك رؤية كليّة للعالم والمجتمع والذات، وتحديد مقاصد كُبرى لنضال الإنسان، وحافزًا للتغيير، وحجر أساس في بناء التنظيم. لكن الالتزام بها محفوف بخطر الانغلاق على الذات، بما يُحوّلها إلى مَعزل يفصل المؤمنين بها عن سواهم من القوى الاجتماعية والتيارات الفكرية والسياسية.

السعي للثورة يتأسس على مشروع وطني جامع عابر للأيديولوجيات

ولأن الثورة غير ممكنة إذا اقتصرت على فريق بمفرده، فإن الأيديولوجيا على يَد المتزمتين يمكن أن تَنقلب من حافز ثوري إلى عائق مضاد للثورة.

السعي الواجب لاستكمال الثورة يتأسس على مشروع وطني جامع، يعبّر عن القواسم المشتركة بين قوى اجتماعية وسياسية، لا على التزام أيديولوجي محدد ومحدود. هو مشروع عابر للأيديولوجيات والأحزاب والطبقات.

إن المشروع الوطني المصري له غاية واحدة ذات أقانيم ثلاثة: الاستقلال الوطني، والعدالة الاجتماعية، والديمقراطية. إنها أحجار الأساس للمشروع الوطني كما بَلوره النضال الشعبي الممتد في تاريخنا المعاصر، وهو ما عبّر عنه شعار الملايين في ميادين 25 يناير: عيش.. حرية.. عدالة اجتماعية.. كرامة إنسانية.

وهو أساس متكامل متراص، إذا نزعنا منه حجرًا واحدًا لا يستقيم البنيان ولا يصمد أمام معاول الهدم. ومن الخطر اجتزاء أركانه أو مقايضة أحدها بالآخر، فلا الديمقراطية ممكنة دون عدالة اجتماعية، ولا استدامة للعدالة الاجتماعية دون الديمقراطية، ولا ضمانة لأيهما دون الاستقلال الوطني.

والهدف هو إقامة الدولة المدنية الديمقراطية القادرة على تحقيق هذه الغاية، وضوح هذا الهدف والاتفاق عليه هو المعيار الأول لفرز القوى التي تُشكّل الجبهة الشعبية المدنية الديمقراطية. وهذا المشروع المعبر عن الوطنية المصرية الجامعة لا يكتمل إلا بارتباطه العضوي بأُمته العربية وهويته الحضارية التي تبلورت بفعل الجغرافيا والتاريخ، وتفاعله مع شعوب العالم لبناء نظام دولي إنساني تسوده قيم المساواة والعدل والحرية.

من التطابق المستحيل إلى التوافق الضروري

من مظاهرات ثورة 1919.

الوعي الخامل يُغري أصحابه بأن يحصروا حركتهم على من يوافقونهم الفهم والرأي والقرار والسلوك، والوعي الخائب يستنزف أصحابه في فرض التطابق على الآخرين ويشترطونه في شركاء حركتهم، فإذا فشلوا -وقطعًا سيفشلون- اتخذوهم خصومًا وأعداء، على مذهب من لم يكن معي فهو ضدي.

التطابق وهم، واشتراطه خطل يخاصم الطبع الإنساني. فلا يزال الناس مختلفين حتى في الأسرة نفسها أو الطبقة أو الحزب. الوعي الصائب يحترم حقيقة التنوع والتعدد ويوظفها لإثراء الجماعة الوطنية - القومية - الإنسانية. ولا يسعى إلى طمس الخلافات بالتطابق المستحيل وإنما إلى احتوائها بالتوافق الممكن، الذي يتأسس على القيم المشتركة والمصلحة العامة والأهداف الجامعة والقواعد التي يقبلها بالتراضي شركاء هذا التوافق. ما ينفع هدف استكمال الثورة هو الوعي النشط الخلّاق المتسم بمهارة تأسيس واستدامة وإدارة توافق ثوري لا يفرّق ولا يُلفّق ولا يفرّط.

عقلية التوافق ليست فقط هي الشرط لقيام الجبهة المدنية الديمقراطية، لكنّها أيضًا لازمة لبناء ونماء وتماسك كل حزب من أحزابها وكل مؤسسة في الشبكة الاجتماعية. وهي شرط بناء الكتلة التاريخية التي تضم طبقات وقوى اجتماعية لا تتطابق في مصالحها، بل قد تتعارض في بعضها، لكنها تتحد بالتوافق على القواسم المشتركة.

أهدَرت قوى الثورة من شعبيتّها لأن بعض النخب المتصدِّرة تبنّت خطابًا زاعقًا مُنفِّرًا

غير أن الأهم هو التوافق مع الشعب، مع عموم الجماهير، لأنها عماد ووقود كل تغيير. وهي ليست مجرد طرَف في التوافق كالأحزاب والقوى المنظّمة، وإنما هي الحَكَم عليه والضمان لفاعليته، وكل توافق لا يمنحه الشعب ثقته وتأييده لا يعول عليه.

وكم أهدَرت قوى الثورة من شعبيتّها لأن بعض النخب المتصدِّرة تبنّت خطابًا زاعقًا مُنفِّرًا كان يُمكن تفاديه ببعض التحصين ضد غواية المغالاة في الخطاب الثوري، وبعض الحرص على التوافق مع المزاج الشعبي.

كما أَهدَرت قوى الثورة قسطًا فادحًا من طاقتها بسبب تشتتها، ومتوالية انقسامها وهوسها الأرعن بتفريخ تنظيمات متكاثرة متناثرة متنافرة، وغالبًا متناحرة، خاصةً في زخم المد الثوري. ما لبثت تلك التنظيمات أن تبخرت في الجَزر، والتورط في تضخيم كل حبة خلاف إلى قبة تسيل على جوانبها أطنان الرطانة الثورية وإصدار الأحكام القطعية، وقرارات الحرمان الثوري والحرمان المضاد من باباوات الثورة المُستجدّين والمُعتّقين.

كل هذه "البهدلة" واﻻستنزاف المجاني لطاقة الثوريين وصورة الثورة هو إحدى النتائج الكارثية لسيادة عقلية التطابق. ولم تكن خسارة الثورة بتراخي مرشحيها ونخبتها عن التوافق على مرشح رئاسي واحد 2012 إلا تجسيدًا مؤسفًا لانزواء عقلية التوافق.

الدرس الذي تعلمناه بثمن باهظ هو أن استكمال الثورة يتطلب وقف متوالية التشظّي والشروع في متوالية الالتئام، أي نقض الوعي المنغلق على وهم التطابق وتسييد الوعي المنفتح على إمكانية التوافق.

من إضراب المحلة، 6 أبريل 2008

من وعي الاحتجاج إلى وعي الثورة

رغم أن المعلوم من الثورة بالضرورة أنها إسقاط نظام يرفضه الشعب لإقامة نظام جديد ولاؤه للشعب، فإن التجربة تكشف القُصور الفادح في وعي وممارسة النخب التي تصدرت مسار 25 يناير؛ فبقدر الإنجاز الباهر بإسقاط رأس النظام القديم بقدر الإخفاق الفاجع في بناء نظام جديد.

ولم يكن الإخفاق قدَرًا، بل نتيجة أسباب من أهمها أن الوعي السائد كان وعيًا احتجاجيًا أكثر منه ثوريًا. الوعي الاحتجاجي يُركز على فضح مساوئ النظام الذي يواجهه، لا الإقناع بمزايا النظام الذي يسعى لإقامته. يفيض في تشخيص الداء ويشح في وصف الدواء. يجتهد في عرض المشكلة أكثر مما يجتهد في إبداع الحل. إنه وعي مشطور يستغرقه واجب إسقاط النظام، وهو الشطر الأول والأخطر من الثورة، على حساب الشطر المتمم والأهم وهو بناء النظام الجديد.

سقف الوعي الاحتجاجي انتفاضة ناجحة تُسقط النظام لكن الثورة أكبر وأعمق

انعكس هذا الوعي المشطور على منهج تربية وتثقيف وتدريب الكادر الحزبي والتنظيمي، فرفع مهاراته في التحريض والتعبئة والتظاهر والاعتصام والصلابة في تحمل السجن، لكنه لم يكتسب مهارة مماثلة، ولا مقاربة، في بناء النظام الجديد وإدارة أجهزة السلطة وتطوير مؤسسات الدولة ووضع السياسات واتخاذ القرارات التي تحل مشكلات البلاد.

لافتة من ثورة 25 يناير

وانعكس ذلك على صورة هذه النخب لدى الشعب فرأى أنها، وإن كانت قادرة على المعارضة، فهي غير قادرة على الحكم.

استكمال الثورة يتطلب استكمال الشطر المنقوص في الوعي السائد.

وعي الاحتجاج يعرف ماذا يرفض، ووعي الثورة يعرف ماذا يريد. الاحتجاج تَمرُّد على المشكلة، والثورة إنجاز للحل. بالاحتجاج يُسقط الشعب سُلطة فاشلة تعاديه، وبالثورة يُقيم سلطة ناجحة تواليه. الاحتجاج يَفتَح طريق الثورة، لكن الاكتفاء به يقطع عليها الطريق.

سقف الوعي الاحتجاجي انتفاضة ناجحة تُسقط النظام، لكن الثورة أكبر وأعمق؛ هي تغيير شامل في السياسات لصالح الشعب. هي بيت سعيد لكل أسرة، هي بأوجز تعبير: تمكين المستضعفين، ولن يتمكنوا بمجرد إسقاط نظام ظالم، بل بإقامة نظام عادل ولاؤه لهم بسياساته وممارساته.

وهذا الهدف يحتاج قوى مؤَهلة للانتقال من القدرة على المعارضة إلى القدرة على الحكم، وأول شروط تأهيلها الانتقال من وعي الاحتجاج إلى وعي الثورة.

من وهم الكمال إلى حقيقة التقدم

الأديان والفلسفة والنظريات والعقائد والأيديولوجيا والثورات، كلها، وعدت الإنسان بمدينة فاضلة، كاملة، تتحقق فيها الأحلام ويصل فيها إلى الكمال. لم يتحقق الكمال أبدًا. لكن التقدم الهائل الذي أنجزه الإنسان لم يكن ليصل إليه لولا سعيه الدائم وراء هذا الوهم الجميل.

في بواكير تثقفي الذاتي تعلّمت من المفكر القومي نديم البيطار أن وظيفة المِثال الثوري أن يُلهمنا ويُحفّزنا ويدفعنا، لا لتحقيق ما فيه من كمال نظري، وإنما لكي نتقدم في اتجاهه. وقد ساعدني هذا الفهم على مواصلة السعي والنجاة من براثن اليأس، رغم ما خبرته من انتكاسات وخيبات أمل وهزائم مجانية.

التقدم يتحقق بالتراكم.. بالنقاط لا بالضربة القاضية

وبهذا الفهم يستطيع كثير من المنتمين لثورة يناير الذين هجروا الأمل، أن يستعيدوه إذا وعوا أن جوهر واجبهم هو تحقيق التقدم الممكن، لا بلوغ الكمال المستحيل. أعلم أنهم لم يشهدوا تقدمًا، بل تقهقرًا تَنَحَّت فيه الثورة وسادَت الثورة المضادة وتَسَلَّطت. لكن هذا يستدعي وعينا بأن التقدم ليس خطًا مستقيمًا، بل دَوَرات من التقدم والتراجع، لكن مُحصّلته التقدم. وأن هذا التقدم لا يتحقق طفرةً، بل بالتراكم، بالنقاط لا بالضربة القاضية.

الإفلات من شرك الثنائيات

كثيرًا ما ارتكبنا الخطأ لأننا ضيّقنا مجال الاختيار بوضع بعض المفاهيم في حالة تناقض على طريقة "إمّا... أو...". وكأننا محاصرون بين بديلين لا ثالث لهما، أو كأنّ أحد البديلين ينفي الآخر بالضرورة. وما أكثر الثنائيات التي شوّشت الوعي السائد، ولعل أشهرها وأخطرها "ثورة أم سياسة؟". الإجابة، أيًّا كانت، خطأ، لأن السؤال نفسه خطأ، بل هو شرك منصوب عمدًا أو جهلًا للفصل والوقيعة بين مفهومين متكاملين، يغذّي أحدهما الآخر.

ينطبق على هذه الثنائية وصف الخُلف المزعوم الذي أطلقه المفكر طارق البشري على ثنائية "العروبة أم الإسلام؟". كما ينطبق على عديد من الثنائيات بينها "الطليعي أم الجماهيري؟" في وصف الحزب أو الفرد، والصحيح أن الحزب أو الفرد لا يكون طليعيًا إلا بقدر ارتباطه بالجماهير وتأثيره فيها وتأثّره بها. وكذلك ثنائية "العمل السياسي أم العمل الاجتماعي/النقابي والخدمي والخيري؟"، والصحيح أنهما يتكاملان ويعزز أحدهما الآخر، وبدونهما معًا لا يتحقق الارتباط بأوسع الجماهير، وهي القوّة القادرة على التغيير.

ينطبق الأمر كذلك على ثنائية "الميدان أم البرلمان؟"، لأن القوى القادرة على حشد الميدان تُسلّم مصير الثورة لسواها ما لم تكتسب مواصفات وقدرات ومهارات الفوز بالانتخابات.

وفي الحالة الثورية تتضخم ثنائية "نحن أم هم؟"، وتصل إلى اختيار حدّي، تُعبّر عنه الصياغة العامية الذائعة "يا إحنا يا هُمَّ"، بما تتضمنه من تصور عن القضاء على السلطة المعادية للشعب ورجالها وأنصارها، وليس فقط إسقاطها من الحكم والقضاء على سياساتها.

ورغم مشروعية الغضب، وضرورته للتعبئة الثورية، فإن الثورة غضب نبيل، هدفه العدل لا الانتقام. ووسيلته العدالة الانتقالية، وليس الانتقامية، التي تُحاسب بلا تَهاون ولا تواطؤ ولا تباطؤ. وتفتح الباب لتطهير جراح المجتمع قبل إغلاقها، ثم تَشرع في البناء لتحقيق أهداف الثورة دون استنزاف في مستنقع الكراهية وانقسام المجتمع.

التيّار السائد لا يلغي المهزوم بل يُنحيه

الثورة الناجحة تُقيم سلطةً ناجحة تقضي على سياسات فاسدة، وتنهي امتيازات فاسدة للطبقة الحاكمة وأعوانها، وتقتص وتُعاقب بموجب قواعد ومؤسسات العدالة الانتقالية المعتبرة. ثم هي مع ذلك، وبعده، تحترم وتصون حقوق المواطنة لكل المصريين بلا تمييز، بمن فيهم أنصار السلطة التي أسقطتها الثورة.

ولا تستطيع السُلطة الناجحة أن تُطبَّق هذا النهج ما لم تُدرك أن حل ثنائية "يا إحنا يا همَّ" لا يكون بالاندفاع وراء صيحات المحو والإلغاء والاجتثاث، فهو، علاوة على عواره الأخلاقي وتكلفته المجتمعية، غير ممكن فعليًا على ضوء الخبرة الإنسانية.

إن التدافع الاجتماعي يستمر عبر جولات، يتوالى فيها الكسب والخسارة، الصعود والهبوط، للأمم والدول والحضارات والعقائد والطبقات والأحزاب والثورات. في كل جولة أو مرحلة يسود الغالب ويتنحى المغلوب.

والتيّار السائد لا يلغي المهزوم، بل يُنحيه. هي إزاحة إلى الهامش وتجريد من السلطة والسطوة، لكنها ليست إلغاءً أو إفناءً أو إنهاءً، فهذا فوق قدرة المتغلّب مهما اشتدت قُوّته أو تمادى في عُنفه، فأقصى ما يستطيع هو أن يُملي إرادته -وهذا هو تعريف النصر- ويفرض سيادته على المهزوم، لا أن يلغي وجوده أو يمحو فكره.

قد تتجمد الحركة لكن الأفكار لا تموت.

في مديح الأمل

قبل وبعد ومع النقد الذاتي والتعلّم من الأخطاء والسعي لامتلاك موارد القوة وبناء التنظيم وإنضاج الوعي السائد وتعميق الارتباط بالشعب، فإن علينا أن نستحضر أهم مَورد من موارد القوة: الأمل.

يكاد الصراع الذي لم تُحسم نتيجته النهائية بعد بين الثورة والقوى المضادة للثورة أن يكون في عُمقه المعنوي صراعًا بين الأمل واليأس. الأمل سلاح كلّي القدرة، والتخلي عنه استسلام قبل انتهاء المعركة، واليأس خيانة كما يقول شعار صائب رفعه ثوار 25 يناير. الأمل فاتحة النصر، واليأس خاتمة الهزيمة. الأمل، كالعقل، نعمة تُميّز الإنسان، حتى ليصح القول إن الإنسان حيوان آمل. والذين يهجرون الأمل لا يتخلون عن سلاح انتصارهم، بل عن شرط إنسانيتهم.

لو سَكَت الشعب مرحليًّا لأسباب يُقدّرها بخبرته فليس رضا إنّما يختزن غضبه كالمياه الجوفية إلى يوم آت تتفجر فيه الأرض عيونًا لتخضّر هذا التَصحُّر العابر

وإذا كنّا بحاجة للأمل في العُسر واليُسر والسرّاء والضرّاء فنحن أحوج في هذه السنين العجاف التي تَغَوَّل فيها الكابوس ونَشَر التصحُّر الذي يحيط بنا ويُجرد الوطن بالقمع والمنع من أجمل وأنبل وأنفع وأينع من فيه وما فيه، تَصَحُّر يغل الأيدي ويسجن الطاقات ويعطل الإمكانيات.

لأننا حتى تحت قسوة هذا الحصار نستطيع أن:

نفعل ما يفعل السجناء

وما يفعل العاطلون عن العمل:

نربّي الأمل(*)

ونستطيع أن ننشد مستبشرين:

في الإمكان أبدع مما كان

في الإمكان الأبدع

أبدع مما كان

في الإمكان في الإمكان في الإمكان(**)

نكون أقدر على أن نربّي الأمل ونَحرُسه وننشره ونحققه، كلما فهمنا حقائق واقعنا الموضوعي بعقل بارد بصير، وكلّما استلهمنا القيم الكبرى في ثقافتنا والحضارات الإنسانية بقلب حار ذكي.

العقل البصير يرى دواعي الأمل في الواقع المُعاش رغم تغوّل الكابوس وتكالب أسباب اليأس، يرى الواقع على ضوء التاريخ، لا كحقيقة نهائية ثابتة ساكنة، بل كمرحلة في مسار التغيير والتحول باتجاه التقدم.

وأعظم دواعي الأمل هو الشعب، ليس لأنّه معصوم، وإنما لأنه الأقرب للصواب وهو الأقدر والأقوى والأبقى؛ أسقط رئيسين في سنتين لكن حلمه لم يتحقق. وهو أوعى من أن يتنازل عن حلمه العادل في العيش والحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الوطنية والإنسانية. ولو سَكَت مرحليًّا لأسباب يُقدّرها بخبرته المُكلّفَة فليس رضا، إنّما يختزن غضبه كالمياه الجوفية إلى يوم آت تتفجر فيه الأرض عيونًا لتُخضِّرَ هذا التَّصحُّرَ العابر.

الإيمان بسيّدنا الشعب منبع للأمل وشرط لاستكمال الثورة.

والقلب الذكيّ يحتضن الأمل، مُستلهمًا القيم الإنسانية الكبرى في الحق والخير والجمال، مهتديًا بالقيم الكبرى في تكوينه الثقافي. ومن حُسن حظّنا أن حضارتنا العربية الإسلامية التي بلورها المسلمون والمسيحيون معًا عبر التاريخ تتأسس على القيم الكبرى التي تُلبّي حاجة شعبنا الماسّة في هذه السنين العجاف. فقد شاع الظلم؛ وعلاجه هو القيمة الكبرى في الإسلام: العدل. وانتشرت الكراهية؛ وعلاجها هو القيمة الكبرى في المسيحية: المحبة.

ومن دواعي الأمل أيضًا أن تكون أسمى القيم التي تحتضن أهداف الثورة وتدعم غايتها، العدل والمحبة، نابعتين من إيمان ديني وموروث حضاري لأغلبية شعبنا، مما يعظّم تمسكه بها، ويحفّز نضاله لاستكمالها. الإيمان بالله والإيمان بالشعب منبعان لا يغيضان للأمل.

طريق استكمال الثورة الذي يستحق أن نقطعه إلى آخره يحتاج نفوسًا عامرة بالأمل، وقلوبًا موقنةً بالاستجابة وهي ترفع هذا الدعاء وهذا الرجاء:

يارب.

يا شعب.


(*)محمود درويش، حالة حصار (**)علي قنديل، كونشرتو الإمكان والعصافير الطليقة

هذه القصة من ملف  المنصة تنشر مراجعات حمدين صباحي عن ثورة يناير


نصيبي من الخطأ| الخروج من الجنة

حمدين صباحي _  فشلنا في تشكيل قيادة مُفوضة شعبيًا نحاسبها على إدارة الدولة واستكمال الثورة. وقد كنت واحدًا من هؤلاء. أشهد أنني أخطأت وأُقر بنصيبي من الخطأ وأعتذر عنه.

نصيبي من الخطأ| فسيفساء أم شظايا؟

حمدين صباحي _  لقد كان خطًأ فادحًا أتحمل وِزره مع باقي الشركاء؛ أننا تركنا جبهة الإنقاذ للتفكك، ثم انفرطت نهائيًا مع استقالة ممثلها في السلطة محمد البرادعي

نصيبي من الخطأ| في مديح الأمل

حمدين صباحي _  رغم أن نقد العقل الثوري ليس من بين المهام التي أدّعي القدرة عليها، خاصة في هذه الخاتمة حيث لا يتسع المجال، فإنني أُشير إلى بعض المفاهيم التي ساهمت فيما ارتكبت من أخطاء.