فيما عدَّدت من الأخطاء، كنتُ واحدًا ممن وقعوا في الخطأ، وأتحمل نصيبي منه. لكني وحدي أتحمل كل الأنصبة وكامل المسؤولية عن خطأ ترشحي لانتخابات الرئاسة 2014.
في أجواء 30 يونيو وبعدها؛ في أوساط الأقربين لي اجتماعيًا وإنسانيًا من الأهل والأصدقاء، وسياسيًا من شركاء الثورة، وتنظيميًا من حزب الكرامة والتيار الشعبي وقيادات حملتي الانتخابية؛ كان الرأي بما يقارب الإجماع متفقًا -مع إدراكهم الاتجاه الغالب في الرأي العام وشعورهم بالمزاج الشعبي السائد- على وجوب ترشحي لانتخابات الرئاسة.
كان الاقتناع غالبًا، إن لم يكن كاملًا، بأن الجيش لن يُرشّح أحدًا من صفوفه ولن يدعم مرشحًا بعينه، احترامًا لمطلب الدولة المدنية الذي رفعه الشعب، وتعلمًا من الخبرة السلبية لفترة حكم المجلس العسكري، وتصديقًا لما تعهد به الجيش من أنه "لا يطلب الحكم ولا يسعى إليه"، كما ذكر في بيان 3 يوليو ثم أكده بعدها مرارًا وتكرارًا.
وكذلك كان الاقتناع غالبًا، ويكاد يكون كاملًا، بضرورة اتفاق قوى الثورة على مرشح واحد تعلُّمًا من درس فشلها في انتخابات 2012.
وكان تقدير الموقف الانتخابي يقول إن التنافس بعد خروج اﻹخوان سينحصر بين قوى الثورة المُهيأة للاتفاق على مرشح واحد، استفادةً من درس انتخابات 2012 مما يجعلها أقوى، وقوى النظام القديم التي صارت أقوى باستعادة رجال الحزب الوطني بعض حضورهم ونفوذهم بعد مشاركتهم في حشد 30 يونيو. مما يجعل المنافسة القادمة أكثر شراسةً. وأن اﻷقرب لتمثيل الطرفين في هذه المواجهة هما حمدين صباحي والفريق شفيق. وأن حسم نتيجتها لصالح الثورة، حسب هذا التقدير المنطقي، هو النتيجة المُرجّحة. وحسب شعوري وحدسي الداخلي هو النتيجة المؤكدة.
شعبية الخوف
ثم تغيرت كل هذه الحسابات مع إعلان المشير عبد الفتاح السيسي ترشحه للرئاسة، ولم يعد التقدير المنطقي منطقيًا.
كان المشير اكتسب شعبيةً متزايدةً، بدَأَت شعورًا بالامتنان عندما انحاز للشعب يوم 3 يوليو، ثم تطورت شعورًا بالخوف من عنف الإخوان وطلبًا للأمان من المؤسسة التي تملك قوة الردع، ثم تواصَلَت في متوالية متسارعة تستند إلى معادلة بسيطة: كلما تصاعد الخوف من الإخوان اتسعت شعبية المشير.
وعندما اختُبرت هذه المعادلة يوم التفويض أثبتت نجاعتها، فلمّا تعمّدت بالدم في مأساة رابعة وتفجيرات الكنائس ومديريات الأمن واقتحام أقسام الشرطة والمظاهرات المسلحة؛ تأكَّدت، ثم توالت نتائجها طوال سنوات تالية.
كانت اللحظةُ لحظةَ سيادة الخوف وسيادة الخوف تودي إلى سيادة المشير
كان يقيني أن أغلبية شعبنا تؤيد المشير السيسي، وأنها عازمة على التصويت لصالحه. ولم أكن ﻷُزايد على رأي الجماهير أو أتعالى على مشاعرها أو أنكر حقها الطبيعي في الشعور بالخوف؛ خوف كل مواطن على أمنه الشخصي، وكل وطني على تماسك دولته. كان الخوف يتمدد وتتعدد وجُوهه خوفًا على الوطن وخوفًا من الوطن وخوفًا في الوطن. وعندما يسود الخوف فمن حق الخائفين أن يلتمسوا اﻷمان عند حامل السلاح لا صاحب الفكرة.
فانتشرت بين عموم الناس مقولة بسيطة دالة مفادُها أن نار الحكم العسكري أهون من جنة الحكم الديني.
كانت اللحظة، بواقعية محزنة، هي لحظة سيادة الخوف، وسيادة الخوف تودي إلى سيادة المشير.
رفعت الجماهير صورة مُلونة، تجمع بذكاء ودهاء وجه عبد الفتاح السيسي مع وجه جمال عبد الناصر البطل اﻷكثر حضورًا في نفوس الجماهير. أصبح المشير السيسي بطلًا شعبيًا؛ هو المنقذ والحامي وحصن اﻷمان للخائفين.
من مَكر التاريخ أن الجماعة كانت الفاعل الرئيس في تصنيع الخوف، فإذا بهذا الخوف يصبح الفاعل الرئيس في تصنيع شعبية السيسي.
ومن مكر التاريخ، أيضًا، أن قوى الثورة المؤمنة بالدولة المدنية كانت الفاعل الرئيس في إسقاط سلطة ذات طابع ديني، فإذا بها تفتح الطريق أمام سلطة ذات طابع عسكري.
ومن مكر التاريخ أن الجماهير التي خرجت لتُسقط سلطة الأمير، وجدت ملاذها في الترحيب بسلطة المشير. في هذه اللحظة الماكرة أَعلَن المشير السيسي -بكامل زيه العسكري- قراره الترشح لرئاسة الجمهورية.
حسابات مُلتبسة
كان علينا أن نُعيد الحسابات ونُجري تقدير موقف جديدًا في ضوء الحقائق المستجدة؛ فاختلفنا.
كان الخلاف محدودًا في تقدير الموقف، واسعًا فيما يترتب عليه. انقسمنا بين رأيين متعارضين؛ معَ وضِد ترشّحي. وكان لكل منهما منطق متسق وأسباب معقولة وحجج عاقلة. وبعمق الاحترام وصفاء المحبة التي أُكِنُّها للمتحمسين للرأيين معًا، وجدتني في حيرة وتردد كلما تفحصت وناقشت بعقلي.
وكنت أعرف عن نفسي -وكل امرئ أدرى بنفسه- أن اتخاذي أي قرار، خصوصًا قرار خوض الانتخابات، لا يعتمد فقط على اقتناع عقلي وإنما أيضًا على اطمئنان قلبي.
وكلّما استفتيت قلبي، وجدتني مطمئنًا حاسمًا في رأيي: ضد ترشحي.
لقي هذا الرأي قبولًا واستحسانًا، خاصة من شركاء جيلي، وأثار رفضًا واعتراضًا خاصة من جيل الشباب. ولما اجتهدت في شرح أسباب رفضي رأيت أن حجة اطمئنان القلب التي أوردتها لم تكن معيارًا موضوعيًا يمكن قياسه أو الاتفاق عليه. بل معيار ذاتيّ يفسر موقف صاحبه ولا يلزم سواه إلا من ارتضاه.
مما دعاني، وقتها وفي السطور التالية، إلى بعض اﻹفاضة في سبر الذات كان يمكن الاستغناء عنها لولا أهميّتها في تفسير رأيي، خصوصًا لرافضيه، وهو حقهم وواجبي، وفي تقرير مدى خطأ ترشحي، وهو أحق وأوجب.
لغة الناس
إنني، ككل واحد منّا، ابن تجربتي.
لم يستقطبني حزب أنضَبط على نهجه، ولا مُفكّر أتثقف على منهجه، وﻻ شيخ أسلُك طريقته، فأمضيت سنوات تكويني وليس لي معلّم إلا الناس، وما أرى وأعايش من أحوالهم.
وكان معلّمي الأول هو أبي؛ الفلاح الأميّ البسيط الصلب الذي لا يتحدث أبدًا في السياسة، لكنه يوقظنا كل يوم إذ يتوضأ لصلاة الفجر على دعائه الذي يفتتحه بدعوتين ثابتتين ورثتهما عنه "اللهم اكفنا شر مَن حَكَم وظَلَم، اللهم سدد ديننا".
ظلّت روحي تتشرب الدعوتين كل فجر وقلبي ينبض بهما على عتبة كل شروق، وتشكّل وعيي على وقعهما بمرور السنوات، فعرَفت أن كل المصريين مثل أبي، يريدون حاكمًا عادلًا يأمَنون شرور ظلمه، وأن سوادهم الأعظم فقراء مثله يجاهدون للنجاة من الفقر، أو مستورون يجاهدون لكي لا يقعوا فيه.
وأدركت أن كل ما اقتنعت به فيما بعد ودعوت له وطالبت بتطبيقه من أفكار عن الديمقراطية والعدالة الاجتماعية -مع الاستقلال الوطني- لم يكن إلا اجتهادي بلغة السياسة ووسائلها لتحقيق ما طلبه أبي بالدعاء لله في كل فجر.
واستقر في يقيني أن أشرف ما أستطيع هو السعي لتحقيق دعاء أبي، وهو دعاء كل الطيبين المستضعفين، وأن أفضلَ ما أستطيع هو أن أُحسن فهم ما يريدون كي أُحسن التعبير عنه، وأحسن السعي لتحقيقه. وأنّ فهم الناس مشروط بمحبّتي لهم ثم إجادة لغتهم. ولغة الناس تتجاوز الإفصاح بالكلمات إلى دلالة السكوت وتعبيرات الوجوه والعيون وما تنقله مصافحة اليدين من إشارات. وهذه اللغة الثرية لا يمكن تعلّمها في حصص مدرسية أو محاضرات حزبية بل بمخالطة الناس والشغف بهم.
عاينت الفارق بين شرف من يريدون أنفسهم سلاحًا للشعب ولؤم الذين يريدون الشعب سلاحًا ﻷنفسهم
وقد رُزِقتُ فرصةً ثمينةً للتعلم بخوضي المتوالي لانتخابات اتحاد الطلاب من مدرستي في بلطيم ثم جامعة القاهرة. لم أترشّح في أيّ منها دون قراءة لغة الناس، يطمئن بها قلبي أنني أحوز على القبول، ولو كان مضمرًا، من غالبية الذين أطلب أصواتهم. وقد حالفني الفوز فيها جميعًا فأكملت تعليمي عبر انتخابات نقابية وحزبية وبرلمانية ورئاسية.
وكانت جائزتي من هذا التعلُّم الطويل إيمانًا راسخًا بالناس/الجماهير/الشعب، واقتناعًا مطمئنًا بصواب الشعب، حتى لو خَفيَت عليّ حكمته أو خالف موقفه ما أراه صوابًا، متأسيًّا بدرس اتباع النبي موسى لسيدنا الخضر، وارتقاءً من الاقتناع العقلّي بمقولة جمال عبد الناصر "إن الشعب هو القائد وهو المعلم" إلى الطمأنينة الصوفية في مقام الولاء لـ"سيدنا الشعب".
لا قداسة في اعتقادي إلا لله، ولو استحقها سواه لكان الشعب. والشعب ليس معصومًا، ولكن أفضل ما نستطيع من صواب هو ما تجتمع عليه إرادة الشعب.
سيّدنا الشعب
وقد وجدتني في صحبة سيدنا الشعب أمزج حرص الفتى في بيئة ريفية على إرضاء أبيه، بحرص المُريد في أحوال الصوفية على الاهتداء بشيخه.
وشهدت ألّا حول ولا قوة من بعد الله إلا بالشعب. وعاينت الفارق بين الطامح أن يستعمله الشعب ﻹنفاذ إرادته، والطامع أن يستخدم الشعب لتحقيق مأربه، بين شرف من يريدون أنفسهم سلاحًا للشعب ولؤم الذين يريدون الشعب سلاحًا ﻷنفسهم، بين من يرى نفسه عصا في يد الشعب ومن يرى الشعب عصا في يده.
ورأيتني أسعى عساني أنول الشرف؛ أن أكون عصا في يد الشعب يتوكّأ عليها، ويهش بها، ويُشهرها في وجه أعدائه ويلقيها لتلقف ما يأفكون.
سمعت سيدنا الشعب يقول لي حاسمًا قاطعًا: لا تخالف الرأي العام ﻻ تخاصم المِزاج الشعبّي ﻻ تَتَرشَّح
بهذي الروح صاحبتُ سيدنا الشّعب، وجاهدت نفسي لتتأدب في حضرته، وحظرت عليها مخالفة الرأي العام الغالب أو مخاصمة المزاج السائد. وأقمت داخلي محطة استقبال لصوت الناس وقياس للرأي العام واستشعار للمزاج الشعبي، ومما يصلني عبرها يتشكّل صوتيَ الداخليَّ صدىً لصوت الناس؛ إليه أُنصت وبه أهتدي، وهو معياري لقياس صواب وأخلاقية كل قرار، ودون طاعته لا يطمئن قلبي.
وعندما تطوَّرت معرفتي وممارستي السياسية، وأعطيت للتنظير والتنظيم جهدًا ووقتًا، وعلى كثرة وأهمية ما حصّلت من قراءة نظرية وما مارستُ من تجارب تنظيمية، فقد بقيت مرتبطًا بصوتي الداخلي ومقياسي الذاتي.
وحرصت أن تكون كل ترقية في الوعي أو العمل متسقةً مع قناعتي الأولى، داعمة لها أو على الأقل غير متناقضة معها. وحيثما نشأ تعارض كانت أولوياتي واضحة: الأولوية للشعب، لعموم الناس على النخبة، للجماهير على الطليعة، للرأي العام على قرار السلطة أو الحزب، للقاعدة على القيادة، للقيم على الأيديولوجيا، وللمعلم الأول على من لحقه من المعلمين.
وقد أنصَتُّ لصوتي الداخلي فسمعت سيدنا الشعب يقول لي حاسمًا قاطعًا: لا تخالف الرأي العام، ﻻ تخاصم المِزاج الشعبّي، ﻻ تَتَرشَّح.
أعلنتُ موقفي لشركائي، وشرحت السبب الجوهري، مضافًا إليه عدة عوامل منها:
- أنّ الحياد الواضح لأجهزة الدولة والإعلام في انتخابات الرئاسة 2012 سيقابله انحياز واضح في 2014 لصالح مرشح الدولة.
- أن توحد أجهزة الدولة ورجال النظام القديم، وتنافُسهم المعلَن على دعم المشير، يقابله تشتت في موقف قوى الثورة التي كان بعضها قد أعلن تأييده للسيسي، بما في ذلك بعضٌ من التيار الناصري الذي أنتمي إليه، والذي كان موحدًا في تأييدي 2012، بينما قطاع معتبر منه، بما فيه شركاء فكر وأصدقاء عمر، غيّروا موقفهم وربما موقعهم. وجبهة اﻹنقاذ، وأنا أحد أعمدتها، لا تؤيدني. وبعض فصائل اليسار تُدين ترشحي.
- وليس لنا في أحزاب الحركة الوطنية من حليف سوى حزب التحالف الشعبي الاشتراكي بقيادة الأستاذ مدحت الزاهد وحزب الدستور بقيادة الأستاذة هالة شكر الله بينما ترك الحزب المصري الديمقراطي لأعضائه حرية الاختيار بين المرشحين.
- أنّ كبار المثقفين والفنانين الذين أعطوا لحملتنا زخمًا في 2012، ليسوا مستعدّين لاتخاذ نفس الموقف الآن. كان الوحيد من نجوم الصف اﻷول الذي جرؤ على إعلان تأييدي هو الراحل الشجاع فاروق الفيشاوي. وكان خالد يوسف مستعدًا لاتخاذ نفس الموقف، لكنه حين استشارني، وآخرين من قيادات حملتي، فيما عرضه عليه المشير السيسي من أن يكون من قيادات حملته، كان رأيي الشخصي أن يقبَل، لأن وجوده معي لن يغيّر من النتيجة المتوقعة، بينما وجوده مع المشير قد يُرشِّدَ اختياراته في ظل تزاحم الفلول حوله.
ليس بهدف الفوز
على الجانب المقابل، كان وجوب ترشّحي يلقى تأييدًا وحماسًا من الشباب الذين أُحبهم وأثق فيهم وأراهن عليهم. اختلفوا مع رأيي بمنطق محكم وأسباب عدة من أهمها:
- لا يصّح بعد ثورة شعبية، وموجة تصحيح لها، أن تَعجَز الثورة عن التقدّم لانتخابات الرئاسة بمرشح شعبي مدني من بين صفوفها. وإذا كان تعدد المرشحين في 2012 خطأ فادحًا فإن غياب المرشحين في 2014 خطأ أفدح.
- الانسحاب من المنافسة ينتهي إلى إخلاء الساحة لمرشح وحيد، لم يُختبر صِدق إيمانه بالثورة ولا مدى إخلاصه لأهدافها ولا جدية تبنيه لبرنامج يعبّر عنها. ولا ضمان بعد وصوله لرأس السلطة لماهية انحيازاته وسياساته.
- وﻷن المرشّح الوحيد قادم من صفوف المؤسسة العسكرية دون سابقة نضال شعبي أو عمل مدني، فإن الانسحاب من منافسته يطعن في إخلاصنا لمطلب الدولة المدنية الديمقراطية الحديثة، ويناقض الشعار الذي رفعته موجة 30 يونيو: دولة مدنية لا عسكرية ولا دينية.
- ولأن تزكية مرشح من الجيش هو أكبر خدمة لدعاية جماعة الإخوان التي تنزع من موجة 30 يونيو جوهرها الشعبي، وتتعامى عن الملايين الذين احتشدوا في الميادين لتزعم أنها انقلاب عسكري.
- ولأن ثورة لا تصل إلى السلطة هي ثورة مجهضة، والطريق إلى السلطة اﻵن هو الانتخابات؛ فإذا تقاعست قوى الثورة عن خوضها فإنها تتخلى عن واجبها وتستقيل من دورها، وكأنها تقبل بإجهاض الثورة وإحباط جماهيرها.
- وإذا كان الترشح واجبًا على قوى الثورة فهو أيضًا حق للشعب حتى يجد أمامه بدائل يختار من بينها. فإذا حرمناه من فرصة الاختيار فإن لومه سيقع علينا، وسوف يكون لوم الشعب أشدّ إذا اشتكى في المستقبل تحت حكم المرشح الوحيد.
- ومع الاتفاق على تقدير الموقف الذي يخلُص إلى أن أغلبية اﻷصوات لن تكون معنا، فإننا مع الترشّح ليس بهدف الفوز وإنما بلورة قوى الثورة ونشر برنامجها وحشد جماهيرها لتكوين معارضة وطنية قوية ومؤثرة ﻻ غنى عنها لنجاح النظام السياسي.
- أنت قلتُ، ونحن نوافقك، أنك لن تقبل أيّ موقع في السلطة بالتعيين، وأننا لن نكون شركاء في السلطة لكننا شركاء فى النظام، وأن مصر بحاجة إلى سُلطة ناجحة ومعارضة ناجحة، والمعارضة تبني قوّتها بالاشتباك لا بالانزواء. وأصدَق تعبير عن كل هذا هو أن ننافس لا أن ننسحب من المواجهة.
- ونحن نرى البعض ممن كانوا معنا في صفوف الثورة وطليعتها يصطفّون مع المشير ويباركون ترشحه ويعلنون تأييده ويطلبون منا الانسحاب لصالحه. ولو قَبلنا فإن التفسير المنطقي هو أننا نُخلي له الطريق إلى السلطة، أو نسعى مثلهم لنلتحق بسلطته. والمعارضة الجادة لا تتماهى مع السلطة وﻻ تلتحق بها بل تتمايز عنها وتلاحقها. وأوضح إعلان عن هذا التمايز هو الترشّح في مواجهتها.
- نحن نرى التماثل بين موقف الجماعة التي قالت "لا مغالبة" وتعهدت بعدم الترشّح ثم أخلَفَت وترشّحَت، وموقف المشير الذي قال "لا نسعى للحكم" ثم أخلَفَ وترشّح؛ وفي الموقفين كان الهدف واحدًا وهو قطع الطريق على الثورة قبل أن تصل إلى السلطة. في المرّة اﻷولى واجهنا ونافسنا؛ لم نحقق الفوز لكننا خضنا معركة مشرّفة نفخر بها، وهو نفس ما نريده اﻵن في الثانية.
- أما عن احترامك للرأي العام وحرصك على عدم مخاصمة المزاج الشعبي السائد فإننا نتفهمه ونحترمه، لكننا لا نوافقك الرأي في عدم ترشّحك. وﻻ نرى أن ترشّحك يُفسد الفرح على الشّعب فهو يعرف مثلنا منذ سنوات عزمك على الترشّح، وأنت لا تفاجئه بترشحك بل بانسحابك.
- وكان رأينا أنه لو تعدد المرشحون باسم الثورة فإن القرار الصواب هو الاتفاق عليك؛ واﻵن ونحن لا نجد مرشحًا باسم الثورة فإن الصواب هو أن تنهض بأداء هذا الواجب، ولو تخلّيت عنه فلا يوجد من يستطيع مثلك القيام به، وهو خذلان لا نستحقه ولا يليق بك.
توقعات كبرى
أثناء الحوار المجهد بين الرأيين، وبالتوازي معه، كان بعض الأصدقاء الناصريين المؤيّدين لترشح المشير السيسي يعتقدون أنه سيتبنى برنامجًا معبرًا عن الثورة، وقد شاركتهم هذا الظن الحسن، وحاولت إقناع الشباب به مستشهدًا بموقفه الحاسم لإصدار قرار الحد الأدنى للأجور، وكنتُ شاهدًا على دوره وكان صديق العمر أخي كمال أبو عيطة وزير القوى العاملة وقتها شاهدًا على موقفه الحاسم في جلسة مجلس الوزراء الذي اتخذ القرار، لكن الشباب لم يشاركوني حسن ظني.
المشير لم يوّقع على البرنامج المقترح منهم ولا على أي برنامج لا وقتها ولا بعدها
تبنّى هؤلاء اﻷصدقاء مبادرة لصياغة برنامج يلتزم بمبادئ الثورة ومطالبها، وقرروا أن يطلبوا من كل مرشّح محتمل للرئاسة التوقيع عليه حتى يكون تأييدهم له على أساس التزامه بها، ولكي يتفقوا على مرشح واحد من بين الموقعين عليه.
ولم يكن وفدهم الذي حضَر ليحصل على توقيعي يُخفي تفضيله المشير، وثقته أنه سيوقِّع على هذا البرنامج، وعندها يُمكن في حالة انسحابي أن أكون مطمئنًا لالتزام الرجل ببرنامج الثورة. وأفصَحت لصديقي الذي تسلّم توقيعي عن تمنياتي من كل قلبي أن ينجح مسعاهم.
لكن المشير لم يوّقع على البرنامج المقترح منهم، ولا على أي برنامج لا وقتها ولا بعدها. مما دفع بمزيدٍ من الرياح في شراع المتحمسين لوجوب ترشيحي.
وامتزجت حججهم العقلانية بانفعالات صادقة هزّت مشاعري لا أنسى منها تحذير "محمود" الغاضب؛ "إذا لم تترشح فإنك تتركنا لأحد مصيرين، إما الغَرَق في قوارب الهجرة غير الشرعية، وإما التطرّف الذي سيفضي بنا إلى القتل". ولا أنسى رجاء "منّة" المرهف؛ "لا تخذلنا"، وهي تُذكِّرني بكلماتٍ من أغنية "الشارع لنا"، "كان وَعد مِنّك.. كان حلم منّا".
ثم أطبَقَت عليّ هذه المشاعر في اجتماع حاشد في مركز إعداد القادة بالعجوزة، أصرّ فيه الشباب، ومعهم والد الشهيد جيكا وأم الشهيد محمد الجندي وجرحى الثورة ممن ضحوا بأعينهم، فلَم أملُك -محبةً لهم واحترامًا- إلا التخلي عن موقفي الرافض وإعلان استعدادي للترشح إذا اتخذ باقي شركائي هذا القرار.
وانعقد اجتماع مجلس أمناء التيار الشعبي ليقرر.
حُسِمَ الأمر
كان مُتاحًا أن أتفادى الوقوع في هذا الخطأ بأن أُعلن قاطعًا في بداية الاجتماع رفضي الترشح، وأطلُب إعفائي من أداء هذه المهمة لعدم استعدادي لها، وهو تقليد متبع في كل جماعة تنظيمية وغالبًا ما يلقى تفهمًا وقبولًا، خاصة في مهمة الترشح لانتخابات عامة لما تتطلبه بالضرورة من اقتناع المرشح وحماسه الشخصي كي ينقل اقتناعه وحماسه للناخبين.
ولو فعلت لكان أدق تعبير عن اتساقي مع صوتي الداخلي والرأي العام والمزاج الشعبي وطمأنينة قلبي. لكنني لم أفعل؛ ﻷن هذا كان أقسى خذلان لشباب لم يخذلني أبدًا، بل خاض معاركنا بشجاعة وإخلاص، ودَفَع ولم يَزَل للآن، ثمنها غاليًا. وأعطى ما يستطيع بمحبة ونبل، ويستحق أن أعطيه ما أستطيع من محبة ونبل.
كان الاختيار صعبًا بين طاعتي لسيدنا الشعب وانتصاري لأمل الشباب، لهذا لم أحسم برأيي ولم أصادر على رأيهم وتركت القرار للاجتماع.
بأغلبية الحضور، وبما يُقارب اﻹجماع، قرر الاجتماع ترشيحي لانتخابات الرئاسة.
لم يكن هناك دور للأجهزة الأمنية
وقد يفيد هنا أن أشهد، لمن يريد التثّبت، أن السلطة أو أجهزتها لم يكونوا طرفًا على أي نحو في هذا القرار. وأن ما روّجه البعض من أن ترشحي كان صفقة مع السلطة هو محض اختلاق كاذب، يريح هوى مروجيه ويطمس الحقيقة. والحقيقة أنني، وأيًّا من قادة حملتي، لم نتلقَّ بأيّ طريقة مباشرة أو غير مباشرة أيّ رسالة صريحة أو ضمنية تعبّر عن تشجيع السلطة أو اعتراضها على ترشحي.
أما مشاوراتي العديدة حول القرار، فلم يكن أيٌّ من رجال السلطة طرفًا فيها. وكان بين مَن شاورتهم، ممن أحترمهم وأثق في تقديرهم، شخصيات نافذة ومؤثرة، لها من الخبرة والمصادر ما يُمكّنها من توقّع رأي السلطة، بينهم الأستاذ محمد حسنين هيكل والدكتور خير الدين حسيب والدكتور حسام عيسى، وفي ثلاثة لقاءات منفصلة معهم لم أسمع نصيحة بالترشح أو عدم الترشح، بل تأكيد على صعوبة المعركة واحترام لقراري أيًّا كان. ومع محبتهم لي وحرصهم عليّ لم يعد أيّ منهم بتأييدي على أيّ نحو، حال قررت الترشح.
كما روّج البعض أن ترشحي كان هدفه إسباغ الشرعية على الانتخابات. ولم يكن هذا هدفًا على أي نحو من الناحية الدستورية، لأن تزكية مرشح وحيد هو إجراء مكتمل الشرعية بنص الدستور. ولا كان هدفًا من الناحية السياسية، مع أنه قد يَصّح كنتيجة، لأن المؤيدين لترشحي والمعترضين عليه كانوا يعتبرون أنفسهم جزءًا من النظام، وإن لم يكونوا جزءًا من السلطة، ولا حاجة لهم لإثبات أو نفي شرعيته.
إفساد اللعبة
خاض أعضاء حملتي حربًا صعبة قاسية بروح نضالية عالية. وتعرّضوا منذ مرحلة جمع التوكيلات للتضييق والحصار والاعتداء في مقار الشهر العقاري. ولعلهم طوال هذه المعركة الشرسة لم يعبروا بلحظة واحدة للفرح الجماعي باستثناء يوم التقدم إلى لجنة الانتخابات وهم يصطفون حاملين آلاف التوكيلات التي جمعوها بشق الأنفس.
قررت السلطة التي عَجَزَت عن تحقيق نتيجة تُرضي غرورها في الوقت الأصلي استخدام أساليب فاسدة في الوقت اﻹضافي
لقد تحملوا بنبل وبسالة جفاء الرأي العام، وانحياز أجهزة الدولة ووسائل الإعلام. تعرّض بعضهم من المندوبين في اللجان للاعتداء والطرد في يومي الانتخابات، لكنهم واجهوا كل هذا بشجاعة وصلابة، متشبثين باﻷمل وهم يشهدون نسبة اﻹقبال واتجاهات التصويت على مدى اليومين كفيلة بتحقيق ما أرادوه من نتيجة مشرفة.
حتى داهَمَنا القرار المفاجئ المتحيز بمد الانتخابات ليوم ثالث، ولم يكن له تفسير مقبول أو معقول غير أن أجهزة السلطة التي عَجَزَت عن تحقيق النتيجة التي تُرضي غرورها في الوقت الأصلي خلال اليومين المقررين، سوف تستخدم كل الأساليب الفاسدة في الوقت اﻹضافي الذي اخترعوه بلا سابقة ولا سند دستوري.
إعلان انسحابي من الانتخابات كان الردّ المنطقي والمطلَب شبه الجماعي لأعضاء حملتي وأنصاري، ومحتوى آلاف الرسائل التي انهالت عليّ ممن أعرف ولا أعرف من أنصار ومتابعين وربما من خصوم.
اكتظت الحجرة الواسعة لقيادة الحملة الانتخابية بحشد محتقن بالمرارة والغضب والشعور بالظلم والإهانة، وتعجّل الرد على مؤامرة مكشوفة تستهدف حرماني حتى من الخسارة المشرفة، ووصمةً بهزيمة نكراء ظالمة.
كانت مشاعري مثل الجميع أو أقسى، لكن قلبي كان يستشرف ما بعد إعلان انسحابي، فيرى شبابًا نبيلًا مغدورًا يتجمع غاضبًا في الميدان، وشُرطة غاشمة تحاصره، ثم يلتحمان، ويسيل دم.
وكانت هذه الصورة الدامية كفيلة بأن أحسم قراري: لن أنسحب.
وفي هذه المرة لم أطلُب التصويت، ولم أكُن مستعدًا لإجرائه أو قبول نتيجته، ولا كنتُ مستعدًا لتكرار تجاهل صوتي الداخلي أو التضحية باطمئنان قلبي. وأعلنت الحملة قرارها: لن ينسحب مرشحنا؛ لكننا نسحب كل مندوبينا من كل اللجان.. ولن نشارك في اليوم الثالث.
يا للمعركة الخاسرة..
بدأتُها بخسارة عموم الناس حين وافقت على الترشّح، وختمتها بخسارة الكوادر الشابة حين رفضت الانسحاب. لعلها خُسارتي الأفدح.. لكن عزائي أنها ربما كانت الأنبل.
مرارة النتيجة
كان إعلان النتيجة الرسمية لحظة مريرة.
غمرتني مرارة مُوجعة جرّاء الاجتراء على الحقيقة، وإلصاق هزيمة مُهينة بنا بإعلان أرقام مصطنعة؛ فمن بين مرشحين اثنين كان ترتيبي الثالث بعد اﻷصوات الباطلة بـ740 ألفًا و304 أصوات (3.06%)!
وكما أَعلنتُ في المؤتمر الصحفي عَقِبَ إعلان نتيجة الانتخابات، فإنني لم أقبل الأرقام المعلنة للتصويت والفرز، فحتّى اللجان التي وقّع مندوبونا على محاضر افتتاحها وأدلوا بأصواتهم، أعلنت نتائجها بحصولي على صفر من اﻷصوات! حرمونا حتى من أصوات مندوبينا!
سلطة الأوامر لا يكفيها الفوز على معارضيها ولا يرضيها إلا تقزيمهم
لكن يقيني أيضًا أن الأرقام الحقيقية لو كانت أُعلِنَت لما تغيرت النتيجة النهائية. لو أن الانتخابات جرت في مناخ من حيدة أجهزة الدولة ووسائل الإعلام، وبدون إقحام يوم ثالث باطل، وبدون اصطناع أرقام الحضور والتصويت، وبكل المُستطاع تطبيقه من معايير النزاهة؛ لكانت النتيجة هي نفسها.
فلماذا فضّلت السلطة أن تستخدم أساليبَ مطعونًا فيها لتحقيق ما كان يمكن تحقيقه بالنزاهة؟ محاولة اﻹجابة أفضَت إلى احتمالاتٍ تعمِّق المرارة ومخاوفَ تُنذِر بالخطر؛ منها أن قوس نزاهة الانتخابات الذي انفتح بعد ثورة يناير قد أُغلق، وأن السلطة لا يكفيها الفوز على معارضيها ولا يرضيها إلا تقزيمهم وتهميشهم وتسفيههم، وصولًا إلى إلغائهم. وأن إدارة الدولة لن تحكمها آليات التفاعل وقواعد الحوار والعقلية الديمقراطية، بل سُلطة اﻷوامر وقاعدة الطاعة وعقلية الهيمنة.
وهي احتمالات تحققت ومخاوف تأكدت عبر السنوات التالية.
السنوات العجاف
كل هذه المرارة لم تكن لتطغى على شعوري العميق بالإكبار والاعتزاز والاحترام لشجاعة ووعي وصلابة الذين خاضوا هذه المجابهة القاسية، وأعطوني أصواتهم وقادوا الحملة في مواجهة باسلة ضد أجهزة الدولة ورجال الحزب الوطني وتحيّز اﻹعلام وسيادة الخوف. وفي مقدمتهم مدير الحملة ابني وأخي حسام مؤنس، والمتحدث الرسمي أخي السفير المقاتل معصوم مرزوق.
إن اعتزازي بمن منحوني ثقتهم في هذه الانتخابات، ومنهم قرابة الثلاثة أرباع المليون صوت المعلنة رسميًا، لا يقل، إن لم يزد، عن اعتزازي بالملايين الخمسة في الانتخابات السابقة. فقد تعرضوا للحد الأقصى والأقسى من درجات الفرز وأثبتوا صلابة ونقاء معدنهم. وبتعبير أخي جمال العاصي فكل منهم جذر أصيل ثابت في أرض الثورة وشجرة طيبة عالية في سماء الوطن.
كان يمكن لهؤلاء البواسل، أو حتى لمائة ألف منهم، أن يُحقّقوا الهدف الذى أرادوه من ترشحي لو أنهم نجحوا في تنظيم أنفسهم عقب الانتخابات، لكن جُرحهم من مهانة النتيجة الرسمية كان بالغًا وشعورهم بالمرارة طاغيًا، ثم لاحَقَهم الظلم والمنع والقمع.
ورغم اﻹخلاص والجسارة، وفخر أكثرهم المعلن بأنهم من النسور والـ3%، لكنهم لم يُمكّنوا من إنجاز الهدف: تنظيم قوى الثورة. فلم يبق من نتيجة للانتخابات ما هو أكبر من الخسارة والمرارة.
بعد الطوفان
في بيت أخي حامد جبر، في حديقته الطيبة على مشارف القاهرة، قضيت أيامًا ألتمس راحة بعد تعب.
ومن هناك -بترتيب من صديقي خالد يوسف- أجريت اتصالًا هاتفيًا بالرئيس المنتخب وهنأته بالفوز، وأعربت عن صادق تمنياتي بالتوفيق، وأوضحت نيّتي أن أُعينَهُ على تحمّل مسؤوليته من موقع المعارضة التي تكون ضوءًا كاشفًا يُجنّب الوطن عثرات الطريق، وصوتًا نزيهًا يؤيد الصواب ويعارض الخطأ.
وهناك، تلقيت اتصالًا من رئاسة الجمهورية يدعوني لحضور حفل تنصيب الرئيس، فشكرتُ الدعوة وأوضحت أن ظروفي لا تُمكّنني من تلبيتها. وفي اتصال تالٍ، نَقَل لي السيد كبير الأمناء حرص الرئيسين المستشار عدلي منصور والمشير عبد الفتاح السيسي على حضوري، وأوضح أهمية تلبيتي، وأن مقعدي في الصف اﻷول لا يليق أن يكون شاغرًا.
كنت أتفهم أن اعتذاري يُباعد المسافة بيني وبين مؤسسة الرئاسة، وكان بودّي أن يكون الجميع فرحين راضين، لكنّ مَن منحوني أصواتهم وأهانتهم النتيجة كان يغمرهم حزن لا يليقُ معه أن أشارك في مثل هذا الفرح. وكان جُرح شباب حملتي مفتوحًا، ﻻ أستطيع أن أطببه ولا يصح أن أرشّ عليه الملح بحضوري؛ فاعتذرت.
ورغم صفو النيّة التي اجتهدت أن أُصدقها بالعمل قدر طاقتي، فإن المسافة تباعدت بتباعد السياسات عن مصالح الناس وأهداف ثورتهم، حتى صارت فُراقًا مع التفريط في جزيرتي تيران وصنافير.
سبع سنواتٍ عجاف شهدت المزيد من حصار الحلم وتغوّل الكابوس، والمزيد من استبسال اﻷمل.
في انتظار أن يجيء عام فيه يُغاث الناس وفيه يُنصرون.