في 30 يونيو عادت الملايين إلى الميادين.
وفي هذه المرة كانت القيادة مُتفقًا عليها ومعلنة: جبهة الإنقاذ الوطني. وكانت خريطة الطريق للمرحلة الانتقالية جاهزة ومحددة. لهذا اختلف مشهد عزل مرسي عن مشهد خلع مبارك.
في مشهد الخلع اقتصرت الصورة على رجلٍ وحيدٍ هو اللواء عمر سليمان مدير المخابرات، يُعلن نقل السلطة إلى المجلس العسكري. بينما اتسعت الصورة في مشهد العزل لتضم قيادات شعبية وحزبية ودينية وقضائية، مع قادة الجيش ووزير الدفاع الفريق عبد الفتاح السيسي، يتلو نقاط خريطة الطريق التي صاغتها قوى الثورة.
أوحى المشهد أن الثورة تعلّمت درس الخطأ الأول وتمكنت من تصحيحه؛ فبدلًا من المجلس العسكري حلّت سلطة انتقالية مدنية، على قمّتها رئيس المحكمة الدستورية رئيسًا للجمهورية، وحكومة مدنية من الكفاءات الوطنية.
لكن هذه الصورة الزاهية سرعان ما فقدت بريقها وغيّمها دخان الأحداث. وتحت الدخان نفسه بدأ الانتقال التدريجي من مسار الثورة إلى مسار الردة.
ورغم انتباهنا ولو جزئيًا لبوادر الردة، فقد عجزنا عن مواجهتها، ولم نحسن التنبيه إلى مخاطرها والدعوة للتصدي لها. ولعل أهم هذه الخطوات خطاب ومظاهرات التفويض، وطريقة فض اعتصام رابعة، وإصدار قوانين التظاهر، وتمديد فترات الحبس الاحتياطي، وتقييد حق الطعن على تعاقدات الحكومة، فضلًا عن عودة وجوه من النظام القديم ورموز من الحزب الوطني، بعد انزواء، إلى مساحات سياسية وإعلامية متزايدة.
فرائس الخوف
في محاولة فهم وتقييم خطوات ومآلات ما بعد 3 يوليو عمومًا، ويوم التفويض خصوصًا، يتضح التأثير الهائل لأحد العوامل الرئيسية التي شكّلت هذه المرحلة وفرضت مسارها: الخوف.
حين تظاهر شباب الثورة ضد الإعلان الدستوري واعتصموا حول قصر الاتحادية، أقدمت جماعة الإخوان على استخدام العنف لفض الاعتصام وهدم الخيام، والاعتداء على معارضيهم السلميين بالشوم والسكاكين وطلقات الخرطوش، وإراقة دماء الأبرياء ومنهم الشهيد الحسيني أبو ضيف.
وهو أسلوب فاشي مخيف، سبق للجماعة أن مارسته بالاعتداء على المتظاهرين وتحطيم منصة التيار الشعبي في ميدان التحرير يوم جمعة كشف الحساب في 12 أكتوبر/تشرين الأول 2012.
ما جرى في الاتحادية وفي جمعة كشف الحساب كان نذير شر مستطير، أثار المخاوف المشروعة من العنف وإراقة الدماء واقتتال الشركاء الذين صاروا فرقاءً ألدَّاءً. وكان التخوف أوسع وأعمق ﻷن القمع لم يحدث بقرار الدولة، التي اتفقت كل الدساتير في كل الدنيا على احتكارها العنف المقيد بالقانون، بديلًا عن العنف الطليق الذي كبَّد البشرية خسائرَ مروعةً على يد أمراء الحرب وقادة الميليشيات وزعماء العصابات. جاء العنف هذه المرة بقرار من جماعة سياسية، وعلى يد مجموعات عنف تابعة لها.
القضاء على الإرهاب كان دعوة حق يراد بها تغيير الحقائق
ومما يثير التعجب مع التخوف، أن ذلك كله جرى تحت سمع وبصر أول رئيس مدني منتخب، وعلى أبواب قصره. مما استحضر مخزونًا مخيفًا في الذاكرة الوطنية للتنظيم السري للإخوان، واستعراض كتيبتهم السوداء في حرم جامعة اﻷزهر، فضلًا عن مآسي سنوات من عمليات منظمات الإسلام الجهادي، التي صار بعض أبرز قادتها حلفاءً للإخوان الآن.
مع اعتصامَي رابعة والنهضة تجمّعت المخاوف المتطايرة، وباتت خوفًا مخيمًا داهمًا. لم يُقصِّر قادة الاعتصام في تصنيع الخوف وبث رسائله من فوق منصتهم الزاجرة "سيسيل الدم بحورًا ما لم نستعد الشرعية"، "بمجرد عودة مرسي سيتوقف الإرهاب في سيناء".
ولم تُقصِّر وسائل الإعلام، خصوصًا المعادية لمرسي والجماعة، في ترويج البضاعة التي تصنعها من رسائل التخويف وتكرارها وتضخيمها والنذير بأن مصر على شفا حرب أهلية. وتبارى المعتصمون وخصومهم في إطلاق فئران الخوف المشتعلة لتحرق الحقول.
وإذ بمصر التي أسقطت لتوّها هيمنة الجماعة تقع فريسة هيمنة الخوف.
دعوة حق يراد بها الردة على الثورة
في هذه اللحظة الخائفة سمعت مصر نداء الفريق السيسي: مصر في خطر، أرجو من الشعب النزول إلى الشارع ليفوضني في محاربة الإرهاب. واستجابت مصر التي تلتمس الأمان، فكان يوم التفويض 26 يوليو/تموز 2013.
لم تكن سلطة 3 يوليو، بما فيها الجيش والشرطة ووزيرا الدفاع والداخلية، بحاجة إلى تفويض شعبي لمقاومة الإرهاب، فهذا واجبهم الوطني والدستوري والأخلاقي.
ولم يكن القضاء على الإرهاب هدفًا مختلفًا عليه. قد ينشأ الخلاف حول استراتيجية وأساليب مواجهة الإرهاب ومدى نجاعتها وكفاءتها وقدرتها على تحقيق الهدف. أما الهدف نفسه، فهو محل اتفاق في مصر وفي كل المجتمعات، في ذلك الوقت وفي كل الأوقات.
لم أكُن مع التفويض ولم أدعُ إليه ولم أشارك فيه وأخطأت لأني لم أُعلن موقفًا ضده
لكن القضاء على الإرهاب كان دعوة حق يراد بها تغيير حقائق قائمة وفرض حقائق جديدة، وهذا ما تحقق بالفعل على ثلاثة مستويات:
الأول: تعظيم دور المكوِّن العسكري في السلطة الانتقالية على حساب المكوِّن المدني. وهذا يُفسِّر مصدر الدعوة ليوم التفويض؛ لم يوجهها رئيس الجمهورية أو رئيس الوزراء بل وزير الدفاع. وأن التفويض الشعبي موجه للمؤسسة العسكرية وقيادتها بالدرجة الأولى، مما أعطى الجيش الكلمة العليا في القرار ووضع رئيس الجمهورية والحكومة وباقي المؤسسات في الدرجة الثانية.
الثاني: نقل مركز قيادة الحراك الشعبي من القيادات المدنية التي حازت هذا الدور عبر نضال طويل، كانت ذروته ثورة 25 يناير وموجة 30 يونيو، إلى رأس المؤسسة العسكرية.
الثالث: تدشين القضاء على الإرهاب كهدف رئيس له الأولوية على حساب أهداف الثورة المستقرة والسابقة عليه. كان الشعب صاغ أهداف ثورته في هتافه الشهير "عيش.. حرية.. عدالة اجتماعية". فلما ارتقى الشهداء وتكاثر الجرحي أضاف هدفًا رابعًا؛ "العدالة الانتقالية".
وفي موجة 30 يونيو، ردًا على هيمنة الجماعة، أضاف خامسًا؛ "الدولة المدنية". وعندما اختارت الجماعة أن تعاند إرادة الشعب وتهدد باستخدام العنف، دشّنت الجماهير يوم التفويض هدفًا سادسًا؛ "القضاء على الإرهاب".
وبما أن الإرهاب هو الخطر الماثل الداهم فإن له الأولوية، ثم مع تداعي الأحداث صارت هذه الأولوية ذريعة لتأجيل الأهداف الأصلية، ثم إغفالها وتجاهلها، ثم فيما بعد التنكر لها والردة عليها.
كان يوم التفويض -بلغة الشطرنج- نقلة واحدة بارعة غيّرت معالم الرقعة وأعطت المكوِّن العسكري تفوقًا استراتيجيًا على المكوِّن المدني في السلطة، وعلى القيادات الشعبية في الشارع.
في هذا اليوم، 26 يوليو 2013، تم تدشين المسار الذي سيتضح فيما بعد أنه مسار الردة على الثورة.
لم أكُن مع التفويض، ولم أدعُ إليه، ولم أشارك فيه.
ولم يكن خطأي فيما فعلت وإنما فيما لم أفعل؛ أخطأت لأني لم أُعلن موقفًا ضده، ولم أناشد من يثقون فيَّ أن يمتنعوا عن المشاركة فيه. امتنعتُ وحيدًا، ولعلها المرة الأولى منذ شاركت في انتفاضة يناير 1977، أن تشهد مصر مظاهرة كبرى لا أكون فيها داعيًا أو مشاركًا.
الواقعة
الخطوة الثانية في مسار الردة وتهميش المكوِّن المدني في السلطة، كان طريقة فض اعتصام جماعة الإخوان وحلفائها في ميداني رابعة والنهضة.
كان الرأي الغالب في جبهة الإنقاذ وقوى الثورة ضرورة الفض السلمي للاعتصامين. ولم يكن مجرد رأي نرفعه للسلطة، بل جزء رئيسي من قرارها، بحكم وجود الدكتور محمد البرادعي في موقع نائب رئيس الجمهورية، والدكتور حازم الببلاوي في رئاسة الحكومة.
وكنت من المتشددين في أن ضمان السلمية وحقن الدماء هو شرط جوهري للموافقة على قرار الفض، كما كان معيارًا رئيسًا للحكم على كفاءة واحترافية قوات الأمن التي ستنفذ القرار. وقد بلغ الحرص على توافر هذا الشرط، أن عرضت وآخرون حزمة من الاقتراحات العملية التي حسبنا أنها كفيلة بضمان سلمية الفض، على رئيس الوزراء في اجتماع مطول لمناقشة الأمر. مثل السماح بالخروج الآمن ومنع الدخول.
وقد أوضحت الرأي نفسه لمبعوث الاتحاد الأوروبي برناردينو ليون، الذي التقاني مرارًا ضمن اتصالاته المكوكية للوصول إلى اتفاق ينهي الأزمة سلميًا. وهو ما كان ممكنًا، كما ذكَر البرادعي الذي كان أقرب للتفاصيل.
لكن الأزمة استعصت على الحل، وخيّم الخوف، ووقعت الواقعة.
سقط المئات في ساعات.
لم يمر في تاريخ مصر يوم سقط فيه كل هذا العدد من المصريين قتلى برصاص مصري.
كان 14 أغسطس/آب 2013 يومًا أسود، تناثر فيه الدم المصري ولطخ وجه مصر، وحفر بؤرة للحزن في الذاكرة الجمعية لم تزل تؤرق الضمير الوطني.
الفض الدامي للاعتصام أخرج الجماعة مهزومة مكلومة، لكن الهزيمة الأخلاقية لحقت بالجميع: القتلى والقتلة والمتفرجين.
أين ذهبت البراجماتية؟
كانت الخسارة الكبرى من نصيب جماعة الإخوان، خسارة مُركّبة من سلسلة خسائر متراتبة.
خسروا ثقة شركاء الثورة عندما انفصلوا عنهم وآثروا المغالبة والهيمنة. وخسروا الرهان على كفاءتهم في إدارة الدولة بالعجز حتى عن توفير مقومات الحياة، بما فيها البنزين والكهرباء. صحيح أن الدولة العميقة سعت لإفشال الرئيس مرسي كما قال، وكان على حق، لكن عجزه عن إصلاح ما أفسدوا دليل على تواضع كفاءته وكفاءة جماعته.
وخسروا الرهان على ديمقراطيتهم بتبني مشروع الجماعة على حساب مشروع المجتمع، وتفضيل الأهل والعشيرة على الجماهير والمواطنين.
وخسروا الحكم حين استعلوا على إرادة الملايين المطالبين بانتخابات رئاسية مبكرة.
وخسروا أخلاقيًا حين تصدّوا للشعب بعدما أسقطهم بمنطق "نحكمكم أو نقتلكم".
وخسروا العمود الفقري لتنظيمهم حين أصرّوا على مواصلة الاعتصام والتهديد رغم تكرار التحذير، ودخلوا معركة ﻻ عادلة ضد الشعب وﻻ متكافئة ضد الجيش، فرموا بأنفسهم إلى تهلكة لا يخطئها بصير، وتكبدوا مأساة محزنة شتتت جمعهم بين شهيد وسجين وطريد.
لماذا تركت الجماعة نفسها لهذا المصير؟ هل كان قدرًا مقدَّرًا أم سنحت لهم فرصة وجاءهم نذير؟
خرجت الجماعة مهزومة لكن الهزيمة الأخلاقية لحقت بالجميع: القتلى والقَتَلَة والمتفرجين
الإخوان جماعة ذات باع طويل في الممارسة السياسية، ورغم مرجعيتها الدينية فإن مواقفها لا تحكمها القيم بقدر ما تحركها المصالح، وتتميز بذهنية عملية نفعية ذرائعية/براجماتية، اكتسبتها من فيض التجارب والمكاسب والخسائر والمحن والفرص والمخاطر.
ويفسر هذا قدرة الجماعة على البقاء رغم العناء والعداء، وقدرتها على التعاون أو التفاهم مع نظم حكم متعددة ومتناقضة، من النظام الملكي إلى قائد ثورة يوليو جمال عبد الناصر، وحتى محاولة اغتياله، إلى السادات الذي استدعاهم ليواجه بهم الصعود الناصري واليساري، إلى مبارك الذي عادوا في ظله للبرلمان.
ويفسِّر هذا أيضًا رفضهم المشاركة في تأسيس حركة كفاية، وتصريح المرشد العام "مبارك أب لكل المصريين، ومن حق جمال مبارك الترشح للرئاسة" في الوقت الذي كان العنوان الرئيسي لصحيفة الكرامة "نقسم بالله العظيم لن يحكمنا جمال مبارك". ويفسِّر لماذا كان الإخوان آخر من دخل الميدان في ثورة يناير وأول من خرج منه، رغم حُسن بلائهم وعظيم صمودهم فيه، ولماذا بادروا إلى الحوار مع عمر سليمان قبل الاتفاق مع شركاء الثورة والميدان.
فكيف تعطلت هذه العقلية البراجماتية؟ ولماذا لم تهتد كعادتها المجربة إلى حلٍ يوقف مسلسل الخسائر الذي لحق بها؟
خطاب لم يحدث
كان بيدهم ألّا يُصدِروا الإعلان الدستوري، فلولاه ما ابتدأ مسلسل خسائرهم.
ومع صعود تأثير جبهة الإنقاذ، وانتشار مطلب الانتخابات الرئاسية المبكرة، وملايين الاستمارات التي جمعتها تمرُّد، واقتراب نزول الشعب إلى الميدان في 30 يونيو؛ كان مفهومًا ومعقولًا أن يرفض مرسي، وأن يتمسك بشرعيته حتى آخر لحظة وحتى حافة الهاوية، وأن يراهن على فشل الحشد الجماهيري وأنه لن يتجاوز بضعة آلاف كما قال، وعلى ولاء الجيش له ودعمه من "وزير دفاع بنكهة الثورة" كما قال حزب الحرية والعدالة.
لكنه خسر الرهانين بالحضور المليوني للجماهير، وبيان الجيش عن مهلة الـ48 ساعة الذي لا يخطئ عاقل تفسيره، فلماذا استمر على حافة الهاوية؟
القائد الكفء لا يجيد فقط التقدم إذا توافرت شروطه، بل يحسن التوقف أو التراجع إذا وجبت ضروراته. وقد كانت بيد الدكتور مرسي فرصة لتراجع مشرِّف ببيان بالغ الاقتضاب عظيم الأثر:
"يا شعب مصر العظيم،
لقد جئت إلى الحكم بتوفيق الله وبإرادتكم الحرة، ولا أقبل الاستمرار فيه بدون إرادتكم ورضاكم. ولقد شهدت حشودكم اليوم ووصلتني رسالتكم؛ وإنني لأكرم من أن أعرض وطننا للخطر أو شعبنا للانقسام والاقتتال. فوالله الذي لا إله إلا هو، إن قطرة دم تسيل من أي مصري لهي أغلى عندي من كرسي الحكم.
ولهذا اتخذت قراري بالاستجابة لإرادتكم، وكلفت الهيئة الوطنية للانتخابات بالدعوة لانتخابات مبكرة لرئاسة الجمهورية.
عاشت مصر عزيزة كريمة.
عاش شعب مصر العظيم".
لو كان العقل البراجماتي للجماعة قد هدى مرسي لإذاعة مثل هذا البيان، لأفلت من الهاوية التي وقف على حافتها، ولأنقذ نفسه وجماعته والوطن، واكتسب احترامًا وتعاطفًا يعوِّضان بعضًا أو كثيرًا مما خسرته جماعته.
وكانت بيد المرشد فرصة أن يقرر فض الاعتصام، عملًا بقاعدة أن درء المفاسد أولى من جلب المنافع؛ فيحقن دم إخوانه ويحفظ بنيان جماعته، ويبقيها رقمًا صعبًا في الحياة السياسية والاجتماعية، حتى مع تنازلها عن الرئاسة، تحصد من المقاعد في البرلمان وربما في انتخابات الرئاسة التالية ما يحصنها ضد أي تهميش أو إقصاء أو إلغاء.
في كل هذه الفرص الضائعة لا يتحمل أعضاء الجماعة ولا جمهورها ولا حلفاؤها أي مسؤولية عن الهزيمة، بل يتحملها مكتب الإرشاد؛ مكتب الإرشاد وحده.
مآرب أخرى
لكن إهدار الفرص لم يكن حكرًا على جماعة الإخوان؛ فعلى الجانب المقابل تتحمل سلطة 3 يوليو كامل المسؤولية عن إهدار ثلاث فرص لتفادي هذا اليوم الأسود في تاريخ مصر.
الفرصة الأولى هي مد أجل التفاوض كي يصل الوسطاء، خاصة الاتحاد الأوروبي، إلى حل وسط يتقبله طرفا الأزمة.
الثانية، الشروع في فرض حصار محكم يضمن الخروج الآمن من الاعتصام ويمنع الدخول، مع حظر متصاعد لمقومات الحياة اليومية من ماء وغذاء عدا الأدوية، وقطع كافة المرافق، مما يجبر نسبة متزايدة على مغادرة الاعتصام وييسر الفض السلمي. وكنت مع كثير من القوى المدنية نفضل هذه الطريقة، وكانت تتضافر مع، وتعزز، فرص نجاح التفاوض، لكن السلطة لم تجرب هذا البديل.
الفرصة الثالثة كانت التأكد من قدرة قوات الأمن على تطبيق شرط حقن الدماء أثناء الفض، والتأكد من كفاءتها وجاهزيتها، والتزامها بقواعد الاشتباك. لكن السلطة أخلّت بواجبها في ضمان هذا الشرط الجوهري.
وإذا كانت سلطة 3 يوليو مجتمعة تتحمل المسؤولية عن إهدار الفرصتين الأوليين، فإن إهدار الفرصة الثالثة يقع على عاتق المكوِّن الأمني في السلطة، وعلى رأسه وزيرا الدفاع والداخلية، والقادة الميدانيون وقوات التنفيذ.
هل يصح تفسير ضياع كل هذه الفرص بسوء تقدير صانعي القرار على الطرفين وتواضع كفاءتهم؟ هذا هو المرجح.
سُئلت وقتها: هل توافق على وصف ما جرى في رابعة بالمجزرة؟ فأجبت: لا. وكلما تذكرت هذه الإجابة خجلت
لكن ثمة تفسيرًا آخر، لا يؤكده منصف ولا يستبعده حصيف، وهو أن صانعي القرار على الطرفين كانت لهم مآرب أخرى لا سبيل لنيلها إلا على جثث الضحايا التي تكوَّمت في ميدان رابعة.
كان مأرب مكتب الإرشاد في جماعة الإخوان هو تعميق المظلومية.
وكان مأرب القيادة الأمنية في سلطة 3 يوليو هو نشر الخوف.
المظلومية هي تعويض المهزوم.
وهي وسيلته لضمان تماسك الجماعة حول مظلوميتها، وذريعته للتستر على أخطاء القيادة التي أدت للهزيمة؛ فليس من المروءة أن يتحاسب الضحايا، وسبيله لاستدرار العطف من الشعب والمجتمع الدولي، ومحفزه لطلب الثأر من قاتله، وحافزه لإعادة بناء الجماعة بعد أن هدمتها الهزيمة، وحجته ﻹدانة المنتصر.
والخوف هو تجارة المستبد.
هو الدافع للجوء الشعب إلى حامل السلاح لا لصاحب الرأي. والمسوغ لتحكم القيادات العسكرية الأمنية في السلطة والقرار لا القيادة المدنية الديمقراطية، والمبرر لتوجيه الموارد لتعزيز الأجهزة الأمنية على حساب التنمية، والذريعة للتضحية بالحقوق الديمقراطية لضمان الأمن والأمان.
وِزر الدماء
من يتحمل وزر الدماء التي أُهدرت في رابعة؟
يتحملها طرفان: من أصدر قرار الفض ونفذه دون ضمان لحقن الدماء، ومن أخرجهم للقتل واستبقاهم حتى المقتلة، من أوقفهم على حافة الهاوية وضن عليهم بخطوة للخلف تنجيهم من السقوط فيها.
تتحملها القيادة الأمنية في سلطة 3 يوليو ومكتب الإرشاد في جماعة الإخوان. يتحملها الطرفان المستفيدان؛ من ظفر بالمظلومية ومن ظفر بالخوف.
أما شهود المأساة من عموم المصريين، بما فيهم خصوم الإخوان سياسيًا وأنا بينهم، فأبرياء من وزر الدم مهما أَلصق بهم تجار المظلومية من تهم ظالمة معممة.
لكن البراءة من الدم لا تعفيهم من المسؤولية بقدر إنكارهم للدم، أو تقاعسهم عن الاعتراف به، أو خفوت صوتهم في استنكار المأساة. وهنا أتحمل نصيبي من الخطأ؛ لأنني مِن الذين استنكروا بصوت خافت لا يليق بهول المصاب، وكأنني كنت أقول رأيي وفي فمي ماء.
قلت وقتها في مقابلة تليفزيونية أن كل الدم المصري حرام.
فلما سُئلت "هل توافق على وصف ما جرى في رابعة بالمجزرة؟".
أجبت: لا.
كلما تذكرت هذه الإجابة خجلت منها. لقد أخطأت، بل هي مجزرة. وهي الأوسع والأوجع. يؤسفني أنني شهدتها، وليس بيدي قدرة على منعها، وأعتذر ﻷنني استنكرتها بصوتٍ خافت، وكان الصواب أن أدينها بأعلى صوت من أول يوم.
وأُلقي السلام على الدم المصري الحرام الذي سال فيها، داعيًا الله أن يتقبلهم في مقام الشهداء ككل شهداء مصر منذ 25 يناير وإلى الآن، مدنيين وعسكريين، مهما تعددت معتقداتهم أو أفكارهم أو أحزابهم، ومهما تعدد قاتلوهم. داعيًا الله أن يسبغ السكينة، وجميل الصبر وكريم العوض، على مصر وعلى ذويهم ومحبيهم، وأن يمنح المصريين من الحكمة والشجاعة والإنصاف ما يعينهم على الاعتراف بأخطائهم والتعافي مما خلفته من انقسام وظلم وكراهية.
لم يدرك عقلي أبعاد المأساة عند وقوعها كما أدركها الآن، لكن قلبي كان يرى، وكنت بعيدًا ووحيدًا أعاني انحسار الحلم وتغوّل الكابوس، تتردد في جنباتي الموجوعة أصداء رؤيا صاحبي علي قنديل:
هنا الأرضُ صومعةٌ تتقلبُ في كفِ وحشِ البراري،
وترقصُ للحُلمِ -فارغةً- والنهايةِ، تنداحُ في موجةِ الجزرِ،
والبحرُ خوفٌ
وتفاحةٌ من عصيرِ الخديعة(*)
تقنين القمع
وكان من بوادر الردة إصدار بعض التشريعات التي تناقض قيم الثورة وتعوق مسارها وترهق قواها.
صحيح أننا، قوى الثورة، لم نخطئ بابتلاعها أو الدفاع عنها، بل وقفنا ضدها وقاومناها، لكنها مرّت رغم أنوفنا وأصبحت جزءًا من الحقائق الجديدة التي فُرضت علينا.
كانت سلطة التشريع في غياب البرلمان من صلاحيات رئيس الجمهورية المؤقت المستشار عدلي منصور. وبموجبها أصدر القرار بقانون الذي نزع من يد الشعب وقوى الثورة أقوى أساليب التعبير عن الرأي والتأثير على السلطة، وهو قانون التظاهر، الذي وصفته قوى الثورة في حملتها الطويلة ضده بقانون منع التظاهر.
كان هذا القانون أحدَ فكّي كماشةٍ فكُّها الآخر القرار بقانون بتمديد فترات الحبس الاحتياطي، الذي تحوّل بالممارسة إلى عقوبة بدون حكم قضائي وبلا تهمة حقيقية. وكان السبب المعلن لإصدار القانونين هو السبب نفسه الذي استندت إليه سلطة 3 يوليو في تمريرها لكل بوادر الردة: الخوف؛ الخوف من العنف والإرهاب، الخوف من المظاهرات المسلحة، الخوف على أمن ومصالح الشعب، الخوف على تماسك مؤسسات الدولة.
صحيح أن الخوف كان سائدًا، وسيّدًا، لكن هذه الكماشة لم تتوجه لتكسير دعاة العنف والإرهاب وحدهم، وقد كان في الترسانة التشريعية من موادَ لمواجهة الإرهاب ما يكفي لصدهم، وإنما اتجهت لكسر الثورة السلمية والإطباق على أعناق شبابها وجماهيرها ورموزها.
من المضحكات المبكيات، أن السلطة التي استلمت الحكم نتيجة الثورة -وهي المظاهرة الكبرى- تقرر منع التظاهر. أو ربما لهذا السبب.
وأن الذين قادوا ثورة يناير ومظاهرات موجة يونيو لإسقاط حكم الإخوان، وجدوا أنفسهم يجاورونهم في عنابر السجون.
ثم جاء القرار بقانون الثالث، فجُرِّد المصريون من حق التقاضي للطعن على التعاقدات التي تكون الدولة طرفًا فيها. وحُرِم الشعب من إحدى أدوات مقاومة الفساد ونهب المال العام. وكان إشارة كاشفة لعمق الاعتماد المتبادل بين الفساد والاستبداد.
لم تكن سياسات الردة هي الوجه السائد ولا الخطاب المعلن، بل مجرد بوادر تتشكل وتتسلل تحت غطاء كثيف من خطاب التمسك بالثورة والولاء لها، وتنمو كالعشب الضار في حقل من الوعود المعبرة عن أهداف الثورة ومصالح الشعب، وتتخفى بين قرارات صحيحة أيّدها الشعب وقوى الثورة، لعل أهمها تحديد الحد الأدنى والأقصى للأجور الذي كان مطلبًا أصيلًا من قبل ثورة 25 يناير ولم يتحقق إلا في ظل سلطة 3 يوليو وبفضل إصرار الفريق السيسي وزير الدفاع في اجتماع مجلس الوزراء على إصداره.
وكان هذا التداخل بين الصواب والخطأ، بين الثورة الظاهرة والردة المستترة، من بين أسباب التباس الفهم وتأخر انكشاف، أو اكتشاف، مسار الردة، أو الانتباه لترابط بوادره، ومن ثم افتقاد قرار واضح بمواجهتها.
وكانت جبهة الإنقاذ تتجه لتفكك غير معلن بانصراف أطرافها كلٍ إلى ما يراه، وانصراف الجماهير عنها في غياب موقفٍ موحد لها.
فتمادت الردة ونحن عاجزون عن المواجهة، وكنت بين العاجزين.