وراء كل الأخطاء خطيئة أصلية، تَكمُن خلفها وتمهد لها وتتجلى فيها؛ هي ضعف أو غياب التنظيم. حرمان الجماهير من حق التنظيم، أو عجز الجماهير وطلائعها عن بناء تنظيماتها المستقلة، هو عامل أساسي في تكوين بيئة سياسية اجتماعية أكثر عُرضةً للوقوع في الخطأ، وأقل تهيُّئًا لبلوغ الصواب. ضعف التنظيم هو الخطأ العائل الذي تتغذى عليه باقي الأخطاء، غياب التنظيم القادر القائد سبب جوهريّ في انتكاسة الثورة.
التنظيم القادر ليس شرطًا لاندلاع الثورة الشعبية، لكنّهُ شَرط استمرارها وتحقيق أهدافها. الشعب هو الشرط الحاكم لتفجير الثورة، والتنظيم هو الشرط الحاسم لتمكينها.
انتكست ثورة 25 يناير وأُجهِضت وتجمّدَت عند حدود الانتفاضة، ثم انتكست موجة 30 يونيو وسُرِقَت واستُخدِمَت منطَلَقًا للردة لأسباب عدة، في القلب منها ضعف أو غياب التنظيم القادر القائد.
التنظيم الطارئ.. والتنظيم الثوري
حينَ تحرّكت الجماهير في 25 يناير وغمرت الملايين الميادين، تجلّت قُدرة الشعب الذي شلَّ أجهزة السلطة، وخاضَ ببسالة مُلهمة مواجهة ضارية ضد عنف الشرطة، بلغت أوجها في اليوم الفاصل، 28 يناير، وانتهت بانكسار المؤسسة الأمنية، وحيَّدَ المؤسسة العسكرية التي أدركت أنها لا تستطيع مواجهة طوفان الشعب فالتزمت الحياد، حتى استوثقت أن الشعب هو الكفّة الراجحة الرابحة؛ فانحازت إليه.
جاء كل الشهداء لا من صفوف النخب بل من قلب الشعب
كانت القوى السياسية المُعارضة حاضرة في الميدان بتنظيماتها وأحزابها وقياداتها ورموزها، ومعها شخصيات مستقلة مؤثرة من المثقفين والفنانين، ولكل هؤلاء دور يُذكر ويُشكر. لكنّ الفضل في الحسم يعود للجماهير الحاشدة وطليعتها الشعبية الباسلة، التي خاضَت النِزال البطولي في اليوم الفاصل: 28 يناير، وهي تتصدَّى بصدورها العارية للمصفحات والطلقات، وتبذل أرواحها ثمنًا لانتصار اللحم على الحديد.
قوائم الشهداء تدل على صنّاع النصر؛ فمن بين قُرابة الألف شهيد لا تكاد تعثر على واحد من الكوادر المُنظمة أو القيادات الحزبية أو قادة الرأي أو النشطاء، أغلبيتهم الساحقة ينطبق عليهم وصف "رجل الشارع"، ينتمون إلى الطبقات الشعبية والطبقة الوسطى، وليست لهم سابقة انخراط في عمل سياسي منظم. جاء كل الشهداء لا من صفوف النخب بل من قلب الشعب.
لم تكن ساعات الاشتباك الدامي من بعد الظهر إلى غروب الجمعة 28 يناير لتُسفر عن هزيمة قوات منظّمة مدربة مسلحة على يد جماهير عزلاء لولا درجة من التنظيم، مكَّنت هذه الجماهير من الكر والفر وإدارة موجات الهجوم والانسحاب، والالتفاف والمناورة، وإجلاء الجَرحى والدفع بأفواج متجددة من المهاجمين البواسل، حتى انجلى المشهد بانتصار اللحم على الحديد.
الحد الأدنى من التنظيم والحد الأقصى من المبادرة الفردية وكفاءة الارتجال
هذه الدرجة من التنظيم ليست مُحصّلة تدريب مسبق، لكنها نتاج خبرة اجتماعية متوارثة في الاستجابة الجماعية للتحدي، خصوصًا للمخاطر والكوارث التي تهدد الجماعة أو أحد أفرادها. وفي خبرة الفلاحين المصريين، فإن نشوب حريق في منزل أو سقوط بقرة في بئر الساقية أو اجتياح السيول لتجمع سكني، تمثل نماذج متكررة للمواجهة الجماعية التي تتجلى فيها روح التضامن والتطوع والإقدام والاستعداد للتضحية، وتجمّع الحد الأدنى من التنظيم والحد الأقصى من المبادرة الفردية وكفاءة الارتجال.
وهو سلوك تجلّى بمزيد من التنظيم والاستدامة في إدارة الحشد الهائل في الميدان، وتوفير الإعاشة وخيام المبيت وإسعاف الجرحى وحراسة منافذَ الدخول، انتهاءً بجمع القمامة.
ثم تأتي اللجان الشعبية التي تشكلت في القرى والأحياء والشوارع بديلًا شعبيًا لتوفير الأمن، بعد انهيار جهاز الشرطة. وهي تجربة ثرية ودالة وملهمة تستحق الوقوف مطولًا وتوثيقها ودراستها واستخلاص خبراتها.
إن درس هذه التجربة في السلوك الجمعي للجماهير، وعديد التجارب المشابهة على امتداد تاريخنا، لا يؤكّد فقط أصالة القيم الاجتماعية التي يتمتع بها شعبنا كالمروءة والنجدة وشجاعة مواجهة الخطر، بل، وهو الأهم في موضوعنا، قدرة الشعب على العمل الجماعي والقابلية للتنظيم، بل والمبادرة إليه عند الضرورة.
غير أن هذا كله على أهميته وتأثيره هو نوع من تنظيم المهمة الذي يتشكل لأدائها ويتفكك بانتهائها. هو تنظيم طارئ في مواجهة ظرف طارئ.
ولم يكن شعبنا ليعوزه هذا التنظيم، فلطالما أبدع أشكالًا متنوعة من تنظيمات الطوارئ محليًا ووطنيًا، ما كان يعوز الشعب ولم يزل وسيبقى في حاجة ماسة إليه هو التنظيم الثوري القادر القائد، وهو ما افتقده في ملحمته الباسلة في 25 يناير وأفضى إلى نتيجتها الراهنة: انتصرت الانتفاضة وانتكست الثورة.
العجز عن التمكين
يمتد بناء التنظيم في ثلاثة أبعاد متكاملة؛ أولها الحزب، وهو الحلقة الأساسية، لكنه لا يستطيع أن يكون قادرًا قائدًا في مهمة تاريخية كُبرى مثل الثورة دون اكتمال البناء التنظيمي في البُعدين المكمّلين: البعد الأفقي عبر شبكة من نقابات العمال والفلاحين والمهنيين واتحادات الطلاب وجمعيات المجتمع المدني والعمل التطوعي الخيري في المجتمع المحلي، ثم البعد الثالث، الرأسي، ببناء جبهة وطنية تناضل لتطبيق برنامج يستهدف تمكين الثورة من السلطة.
بدون اكتمال هذا التنظيم ثلاثيّ الأبعاد (الحزب السياسي/الشبكة الاجتماعية/الجبهة الوطنية) لا إمكانية لاستكمال الثورة.
لكن التنظيم في ذاته ليس ضمانةً للنصر، إنما الضمانة هي ارتباطه بالشعب. فالتنظيم مهما كان مُحكمًا منضبطًا لا يستطيع أن يكون قائدًا إلا برضا الجماهير، ولا قادرًا إلا بقوة الجماهير. التنظيم ليس بديلًا عن الشعب، وتكمُن قوّته في ارتباطه بأوسع الجماهير التي تُشكّل تيارًا شعبيًا سائدًا يضُم كتلة تاريخية من القوى الاجتماعية القادرة على التغيير.
التنظيم بدون تيار شعبي يؤيده ويحميه يفقد وظيفته التاريخية، وإذا تخلّى عن التيار الشعبي السائد أو تناقض معه، فإنّه ينتحر سياسيًا ويستجلب لنفسه الهزيمة، وهذا هو درس صعود تنظيم الإخوان المسلمين إلى السلطة وسقوطه منها.
ما أطول الرحلة وما أقل الحصاد
تُعلّمنا خبرة الربيع العربي أن البُعد الحاسم في المسألة التنظيمية هو الجبهة، فلا حزب بمفرده مهما بلغت قدرته، يستطيع قيادة الجماهير نحو استكمال الثورة. ومن هنا يتوجّب تقييم أي حزب بمدى وعيه بضرورة الجبهة وفاعليته في بنائها وتوسيعها وتلاحمها واستمرارها، وتربية وتدريب وتقييم أعضائه على التفكير والسلوك الجبهوي.
بناء الجبهة الوطنية المدنية الديمقراطية هو الواجب التنظيمي الأوّل على الساعين لاستكمال وانتصار الثورة.
كانت 25 يناير درسًا تاريخيًا أكّد قوة الشعب وكشف ضعف التنظيم.
وقد بدا أن قوى الثورة قد وعت الدرس حين تشاركت في إنجازين كبيرين تنظيميًا؛ هما قيام التيار الشعبي المصري في 21 سبتمبر/أيلول 2012، وتشكيل جبهة الإنقاذ الوطني 22 نوفمبر/تشرين الثاني 2012. وقد نهَضا بأداء الدور المحوري في التحضير لموجة 30 يونيو وقيادتها، لكنهما عجَزا عن تمكين الشعب من السلطة بعد 3 يوليو.
لقد كان خطًأ فادحًا أتحمل وِزره مع باقي الشركاء؛ أننا تركنا جبهة الإنقاذ للتفكك، ثم انفرطت نهائيًا مع استقالة ممثلها في السلطة، محمد البرادعي نائب رئيس الجمهورية، دون تشاور مع شركاء الجبهة، في 14 أغسطس/آب 2013.
أما التيار الشعبي الذي حاول الصمود، فقد عانى انحسار التأييد الشعبي وتزايُد التضييق الحكومي بعد النتيجة المحبطة المصطنعة لانتخابات الرئاسة 2014، ثم حاول الحفاظ على مَن تبقّى من كوادره بالتوّحد تنظيميًا مع حزب الكرامة، في إطار حزب تيار الكرامة 2016.
ثلاثة رجال وثلاثة مصائر
ها أنا في العقد السابع من العمر، أُسائل نفسي عمّا أَنجزت في واجب إقامة التنظيم؟ فتملؤني إجاباتي حسرة؛ ما أطول الرحلة وما أقل الحصاد. أتّهم نفسي وأُدينها بالتقصير ، ولولا مخافة الجور لكانت الإدانة أشد وأقسى.
انخرطت في البعد الأول، بناء الحزب، طوال عمري، عبر محاولات تكررّت وتطورّت من الرابطة الناصرية في مدرستي الثانوية، إلى نادي الفكر الناصري بالجامعة، إلى طليعة التنظيم الناصري (ط ت ن)، ووحدة الطليعة الناصرية (وطن) عقب التخرج من الجامعة 1976 في تجربة ثريّة للتنظيم الثوري السري، إلى الحزب الاشتراكي العربي الناصري -تحت التأسيس، فالحزب العربي الديمقراطي الناصري، إلى حزب الكرامة، والتيار الشعبي المصري.
في البعد الثاني، بناء الشبكة الاجتماعية، شاركتُ في منظمات العمل الجماهيري وخُضت انتخاباتها من إدارة الفصل في مدرستي الابتدائية (الصدّيق)، إلى أمين اتحاد طلاب مدرستي الثانوية (الشهيد جلال الدين الدسوقي)، إلى رئيس اتحاد كليتي (الإعلام) وجامعتي (القاهرة)، ونائب رئيس الاتحاد العام لطلاب الجمهورية، ومجلس نقابتي (الصحفيين)، إلى تمثيل دائرتي (البرلس والحامول) في البرلمان لدورتين، إلى المُنافسة على رئاسة الجمهورية مرتين.
وعلى الصعيد القومي شاركتُ منذ السبعينات في رابطة الطلبة العرب الوحدويين الناصريين ثم في المؤتمر القومي العربي إلى الآن.
في البعد الثالث، بناء الجبهة الوطنية، شاركت منذ السبعينات في الحوار والتعاون والمشاركة مع باقي القوى السياسية، مؤمنًا بضرورة الجبهة بين متعددين فكريًا وسياسيًا، وبهذا الاقتناع تأسّست في جامعة القاهرة -بدعم ومشروعية اتحاد الطلاب حين كنت أترأسه- ثلاثة أشكال تنظيمية: نادي الفكر الاشتراكي التقدمي، تعبيرًا عن الماركسيين، والجماعة الإسلامية تعبيرًا عن الإسلاميين، فضلًا عن نادي الفكر الناصري الذي أنتمي إليه.
وصدرت وثيقة نوفمبر التقدمية 1976، وهي من الأدبيّات الباكرة المُعبرة عن هذا التوجه الجبهوي لجيل السبعينات. ولم تشهد مصر عملًا جبهويًا طوال سنوات التمهيد لثورة يناير إلا وكان حزب الكرامة داعيًا أو مشاركًا رئيسًا في تأسيس لجانه وتنظيم فعالياته، من مقاومة التطبيع إلى مناصرة الانتفاضة الفلسطينية، إلى دعم المقاومة في فلسطين ولبنان، إلى رفع الحصار عن ليبيا والعراق، إلى الدفاع عن القطاع العام ومقاومة الخصخصة، إلى الدفاع عن الفلاحين، إلى الدفاع عن الحريات والحقوق السياسية، إلى حق التنظيم النقابي المستقل، وصولًا إلى الدفاع عن مصرية تيران وصنافير.
وكان الكرامة في طليعة تأسيس وفعاليات حركة كفاية، والجمعية الوطنية للتغيير، وجبهة الإنقاذ الوطني وصولًا إلى التحالف الديمقراطي، ثم الحركة المدنية الديمقراطية.
نصف قرن من السعي والجهد والاجتهاد.. وضآلة الحصاد. حتى دقّت ساعة الشعب، وتجلّت قوّته في الميادين فكشفت هشاشة وضعف ما أنفقنا العمر في بنائه من تنظيم. نصف قرن، لم أَعِش خلالها يومًا واحدًا دون التزام تنظيمي سرّي أو علني، أؤدي واجبي وأنفذ تكليفاتي وأسدد اشتراكي وأتحمل مسؤولياتي، وأتشارك مع إخوتي التقدّم والتراجع ومراكمة الخبرة والتعلم والتطور.
لكنّ قلّة الحصاد لم تكافئ جهد السنين الطوال، وهي سنين تزيد كثيرًا عمّا أنفَقَه عباقرة في التنظيم، مثل لينين والبنّا وعبد الناصر، ليتمكنّوا من إنجاز ما عجزنا عنه.
فقد عَمّر لينين 54 عامًا (1870- 1924)، وكان عُمره 47 عامًا حين قادَ حزبه البلشفي ثورة 1917، وأسّس نظامًا استمر قُرابة 70 عامًا، حتى تخلّى خليفته الثامن عن عقيدته الاشتراكية، وتفكك الاتحاد السوفيتي عام 1991.
وعمّر حسن البنّا 43 عامًا (1906 - 1949)، وأسّس تنظيمه الإخوان المسلمين عام 1928، الذي وصل إلى السُلطة بعد 84 عامًا لكن الوقت لم يكفِ لاختبار قُدرته على بناء نظام جديد، إذ سقط من السلطة بعد سنة واحدة، عام 2013.
وعمّر جمال عبد الناصر 52 عامًا (1918 - 1970)، فلمّا بَلَغَ 34 عامًا قادَ مع تنظيمه الضباط الأحرار ثورة 23 يوليو 1952، وأسّس الجمهورية الأولى التي استمرت قرابة 27 عامًا حتى أسقطها خليفته الأول أنور السادات، حين تخلّى عن العدالة الاجتماعية والتنمية المستقلة.
بدأ السادات بالانفتاح الاقتصادي 1974، ثم تأكّد إسقاط الجمهورية بالتخلّي عن مقاومة الاستعمار والصهيونية، والتنازل عن قيادة مصر لنضال أمتها العربية بتوقيع اتفاقية كامب ديفيد 1978، التي كانت نقطة تحوّل فاصلة في تاريخ مصر، لأن توقيع زعماء مصر و"إسرائيل" والولايات المتحدة عليها، لم يكن فقط تدشينًا لمسار السلام المزعوم، بل أهم منه وحماية له، كان إعلانًا عن اتفاقهم الثلاثي على إنهاء عصر الجمهورية الأولى/جمهورية الثورة، وابتداء عصر الجمهورية الثانية/جمهورية الردّة المستمرة حتى الآن.
ثلاثة رجال في ظروف تاريخيّة مختلفة، ينتمون إلى أفكار قد يصل الخلاف بينها حد التناقض، لكنهم تميّزوا كل بطريقته وفي ظروفه بعبقرية تنظيمية مكنّتهم من بناء ثلاثة تنظيمات تمكنت من الوصول للسلطة.
ولأننا فشلنا فيما نجحوا فيه، رغم أننا كرّسنا من السنين ضِعف ما فعلوا، ولأنني كنت في قلب كل المحاولات التنظيمية التي خُضناها طوال نصف قرن، وفي مستوياتها القيادية الأعلى دائمًا، وعلى رأسها أحيانًا، ولم نجنِ بعد كل هذا العَرَقَ المخلص إلا هذا الحصاد الضئيل، فإنني مدين باعتذار عميق عن هذا التقصير الفادح، وإن جاز أنني لم أُقَصِّر في السعي فالمؤكد أنني قصّرت في بلوغ النتيجة.
ولأن إيماني بأن بناء التنظيم حزبًا وشبكةً وجبهةً هو الفريضة الغائبة الواجبة، فسأبقى ما شاء لي الله أؤذن لها وأسارع إلى إقامتها، لكن في صفوف المؤتمين المؤمنين، لا في موقع الإمام الذي طالما قدّمني إليه إخوتي بحب لكنني قصّرت في القيام به.
داعين الله أن يمكننا، راجين سيّدنا الشعب أن يتقبل منّا.
التنظيم القادر القائد ليس نموذجًا ثابتًا يمكن محاكاته أو استنساخه، وليس قواعد محكمة رغم أهميتها تصلح للتطبيق على كل البشر والمجتمعات والظروف. ولا يوجد كتاب/كتالوج لبناء التنظيم الثوري.
إنه عملية إبداعية خلاقة فيها من الفن قدر ما فيها من العلم، وكلّ تنظيم هو حالة متفردة لها بصمتها الخاصة التي تميزها عن سواها، كما يتميز الفرد ببصمته مهما تعددت الملامح الأساسية العامة التي تجمع كل تنظيم كما تجمع كل إنسان فرد.
التنظيم كائن حي يولد ويتطور ويضمر ويموت. وهو مُنتج إنساني يتأثر وجودًا وعدمًا وقوةً ووهنًا، كما تتشكل ملامح شخصيته وبصمته المميزة بعوامل عدة، أهمها المجتمع وحاجاته الأساسية ومطالبه الكبرى وثقافته السائدة، والمرجعية النظرية التي يتبناها التنظيم، ونظامه الداخلي، وموارده المعنوية والمادية، والأهم موارده البشرية.
وبناء التنظيم عمومًا، والحزب خصوصًا، عملية تراكم عسير بطيئ، تتطّلب فيمن يحمل شرَفَها أن يتحلّى بدأب النمل وصبر الجِمال.
وهو علم وفن معًا، هل تأمّلت يومًا لوحة أو جدارية من الفسيفساء أمتعت بصرك ولمست قلبك واستحوذت على عقلك بما فيها من إتقان ودقة وبراعة في جمع ألوف القطع متفاوتة الحجم والشكل واللون، لتؤلّف معًا لوحة أو جدارية واحدة متكاملة متناغمة؟
لكل قطعة من الفسيفساء كبرت أو صغرت دور وقيمة وظيفية وجمالية تختل بدونها الجدارية كلها، وبدون هذه الفسيفساء الجامعة تفقد كل هذه القطع دورها وقيمتها ووظيفتها وجمالها وتبقى مجرد شظايا. التنظيم هو علم وفن الارتقاء من الشظايا المتناثرة إلى اللوحة المبهرة.
التنظيم ابن التنظير
كل حديث عن التنظيم يستدعي بالضرورة الحديث عن التنظير لأن الارتباط وثيق بينهما، فأوّل مقوّمات بناء التنظيم السياسي وتمييز هويته هو الفكر الذي يعتنقه أو العقيدة السياسية أو النظرية التي يهتدي بها في تكوينه وحركته، وتضمن الوحدة الفكرية بين أعضائه، وتمثل المرجعية لبرنامجه السياسي وخطته الحركية، ومعايير فرزه لعضويته وحلفائه وخصومه.
أهمية التنظير للتنظيم أنه الاجتهاد الضروري لصياغة وتطوير وتجديد رؤية نظرية تتضمن نَسَقًا مُتَسِقًا من الأفكار القادرة على فهم الواقع كما هو، فتشخّص المشكلات الجوهرية، والقادرة على استشراف المستقبل كما ينبغي ويمكن أن يكون، فتحدد الحلول الجوهرية أي المقاصد الكبرى أو الأهداف الغائيّة.
الدرس الذي أريد لفت الانتباه إليه هو أولوية التنظيم لأنه العامل الحاسم في مسار ومصير الثورة
فإذا شاءت النظرية أن تُسمَّى بالثورية فعليها أن تكون قادرة على رسم وإضاءة الطريق أو الطرق الشاقة بين الكائن وما ينبغي ويمكن أن يكون، وتحديد القوى القادرة على السير في هذا الطريق وكيفية تعبئتها وحشدها، والأساليب والوسائل اللازمة لتمكينها، على أن يتسّق شرف الوسيلة مع شرف الغاية.
لكن عديد النظريات الثورية يمكن أن تبقى مجرد زاد فكري ملهم أو زينة ثقافية أو عتاد لمناظرات نخبوية ما لم تجد الكفاءات التنظيمية التي تمنحها الحضور والفاعلية، وتُخرجها من رفوف الكتب إلى خضم الحياة.
التنظير على أهميته ينتج نَصًا، والنصّ بدون إنسان يعتنقه يبقى ذخيرة لا تجد سلاحًا يطلقها. وكم من تنظير جادٍ عميق نافع لم يحدث تأثيرًا ولم ينجز تغييرًا لأنه لم يجد التنظيم القادر. وكم من نزعات مسطحة مراوغة، بل وضارة، اكتسبت قوة ونفوذًا لأنها وجدت من يتبناها ويحشد لها وينظم مشجعيها، خاصة مع صعود المد الشعبوي.
ورغم تعسف الفصل بين التنظير والتنظيم، مع دقة التمييز بينهما، فإن الدرس الذي أريد لفت الانتباه إليه هو أولوية التنظيم، لأنه العامل الحاسم في مسار ومصير الثورة. ويترتّب على هذه الحقيقة نتيجة تستحق اهتمامًا أعمق، وهي أولوية المُنَظِّم على المُنَظِّر.
أولوية بناء التنظيم
الثقافة السائدة في المجتمع والنخب، بما فيها القيادات والعضوية في شتّى التنظيمات، تمنح الأولوية والتقدير والمكانة للمشتغلين بالتنظير، على تفاوت أهميتهم من المفكّر المنظِّر إلى مؤلف الكتاب إلى كاتب البحث إلى مُحاضر الندوة إلى خطيب المهرجان إلى ضيف المناظرة إلى كاتب المقال إلى ناشر البوست، وسواهم من مُنتجي النصوص.
بينما المُشتغلون بالتنظيم قابعون في الظل، متوارون شبه مجهولين، والأدهى والأمّر أنهم لا يَلقُون ما يستحقون من تقدير بأسمائهم أو بصفاتهم. ومن المؤسف أن يتناقص التقدير مع تعاظُم الدور وصعوبة التكليف وأولوية المهمة، فهذا والله خلّل جلّل، وإني لأعتذر عنه لأنني كنت ابن هذه الثقافة السائدة وأحد منتجيها وممارسيها.
آن الأوان لأن نعطي مهمة بناء التنظيم الأولوية، أن نعطي للمُنظِّم أولوية على المُنظِّر وأن نستيقن أن التنظير مهما كان تميّزه وشموله لا يبني قوة فاعلة إلا بكفاءة المُنظّم.
ولو كان الأمر كذلك لتكفّلت أفكار الدكتور عصمت سيف الدولة ببناء أقوى تنظيم قومي يقود الثورة ويقيم الدولة العربية من المحيط إلى الخليج، فالرجل هو أعمق وأبدع وأدق مفكر قومي عربي، وإنتاجه الفكري الثري المُحكم، الآثر لمناصريه المُفحم لمنافحيه، يضعه عن جدارة في مقدمة مفكري الأمة وسِفره الكبير نظرية الثورة العربية يمنحه مكانة المنظّر الأمين للناصرية، كما يضعه إبداعه الفلسفي لجدل الإنسان في مصاف الفلاسفة العظام هيجل وماركس.
لكن عبقري التنظير الذي أتم إنجازه الفكري على خير وجه لم يجد عباقرة في التنظيم ينجزون تحققه الحركي على أي وجه.
النجاح في بناء التنظيم القادر القائد الذي فشلتُ فيه يتطلب تفكيرًا جديدًا وخيالًا جديدًا وجيلًا جديدًا.