قبل أربع سنوات، كتبت في المنصة بمناسبة ذكرى ثورة يناير سلسلةً من المقالات عن تناول السينما للثورة. تحدثت فيها عن اختصار الثورة في أغلب هذه الأفلام؛ زمنيًا في فترة الثمانية عشر يومًا التي انتهت بخلع مبارك، ومكانيًا في ميدان التحرير. بالإضافة لـ"نخبنة" الحراك المجتمعي الثوري.
ربما يتصور البعض أن أهل السينما، في تناولهم للثورة، سواء روائيًا أو تسجيليًا، وقعوا في فخ مؤامرة ما، إن لم يكونوا جزءًا منها. مؤامرة لرسم صورة نخبوية واختزالية، وفي بعض الأحيان مزيفة أو معادية لهذه الثورة. لكن في تقديري لا وجود لأي مؤامرة. وأعتقد أن الاقتراب الفني من ثورة يناير، وكيفية اختصارها ونخبنتها، حدث في سياق عملية أكثر تعقيدًا لتشكيل مرويات مهيمنة، تشبه كثيرًا ما حدث مع مسارات تاريخية سابقة، وكيف تعاملت الفنون، وبالذات الجماهيرية مثل السينما، معها.
تستحق هذه الصورة المختزلة لثورة يناير العودة إليها، بما هو أوسع من السينما. أو للدقة، العودة لأحد جذورها، وكيف نشأت وتكرست تدريجيًا في المخيلة الجماعية، عبر الصحافة، كوسيط أساسي في تشكيلها. فالمرويات/السرديات المتعلقة بالثورة، لم تصنعها السينما أو الفنون الأخرى، بل اكتفت غالبًا بنقلها.
يحاول هذا الملف، عبر تتبع وقراءة مرويات جريدة الشروق للثمانية عشر يومًا الأولى من الثورة، وكيف تطورت، وتغيرت، وتناقضت كذلك، الاقتراب ولو قليلًا من بدايات تشكل السرديةِ المهيمنةِ للحظةٍ من أهم لحظات تاريخنا الحديث، لنلاحظ معًا كيف تتشكل السردية من عناصر صغيرة تتراكم يوميًا، تلتقطها لاحقًا الفضائيات، الأكثر انتشارًا بما لا يقارن بالصحافة المكتوبة، فتعتمدها كسردية أساسية عن الثورة، وتُسوِّقها في كل البيوت المصرية، مع إضافة التعديلات المطلوبة عليها تدريجيًا، قبل أن تتعاطى معها السينما والفنون الأخرى في أعمال فنية.
لا أغفل هنا هدفًا آخر مزدوجًا لهذا الملف، في الذكرى الرابعة عشرة للثورة. جانبه الأول إنعاش ذاكرتنا، نحن من عشنا يناير/كانون الثاني وفبراير/شباط 2011 ببعض أحداثهما، وبالترتيب. ربما يساعد ذلك على أن يخرج كل منا باستنتاجاته، ورؤيته الخاصة في فهم ما حدث.
أما الجانب الآخر، فهو أن هذا الملف قد يكون مفيدًا لمن لم يعِشوا ثورة يناير بأخبارها وتفاصيلها اليومية وهم في سن النضج، فلم يعرفوا عنها سوى مرويات مشوهة، أو مجتزئة. وربما يثير الملف شهية بعضهم لمعرفة المزيد عن هذا الحدث الضخم، وعن أيام الأحلام الكبرى تلك.
كان أحد الشعارات الجامعة لجماهير ثورة يناير في شوارع وحارات وميادين المدن والقرى، وعلى مدار سنتين ونصف، هو "عيش.. حرية.. عدالة اجتماعية". وإذا عُدنا لأطروحات إدوارد سعيد في كتابه الثقافة والإمبريالية، سنتذكر ما يطرحه عن الرواية كساحة صراع بين الشعب ومستعمريه، حول الحرية، والأرض، ومن له الأحقية فيهما. ومن له القدرة على صياغة السرديات، وتمكينها من الهيمنة.
في حالتنا، ودون أن نتحدث عن استعمار، سيظل الصراع حول المرويات والسرديات مستمرًا، بين الشعب الذي لا يزال يطمح في الخبز والحرية والعدالة الاجتماعية، ومن يمنعون عنه كل ذلك.
من هنا تنبع أهمية تذكّر ثورة يناير ومروياتها.