تصميم أحمد بلال- المنصة
صناديق انتخابية

إعادة إنتاج برلمان مبارك الأخير

منشور الاثنين 17 تشرين الثاني/نوفمبر 2025

أسوأ ما جرى في انتخابات مجلس النواب، التي ستُعلن نتائج مرحلتها الأولى بعد ساعات ليس فقط إقرار نظام انتخابي يهدر أصوات الناخبين، ولا فلترة المرشحين واستبعاد قوائم كاملة، ولا حتى عزوف الناخبين الذين يُفترض أن يعبر هذا الاستحقاق عن إرادتهم، بل عودة مشهد تزاوج السلطة بالمال بشكل صارخ، ما يعيد إلى الأذهان أجواء ما قبل ثورة 25 يناير.

في معظم البلدان التي تطبق الديمقراطية الديكورية، تُهندِس دوائر السلطة المشهد البرلماني بما يضمن أغلبية مريحة تُوالي الحكومة وتدافع عنها وتبرر سياساتها وقراراتها، مع وجود أقلية معارضة تنتقد وتهاجم ضمن هامش متاح، لا يتجاوز الخطوط الحمراء المرسومة سلفًا.

يحقق هذا النوع من الهندسة قدرًا من التوازن السياسي الشكلي، فيتيح للسلطة إقناع شعبها الحانق بأن هناك أملًا في تغيير الأوضاع الاقتصادية الخانقة عبر المسارات السياسية. وهو ما يصنع استقرارًا هشًا يطيل عمر الأنظمة، فكلما ظلت هناك أصوات مخالفة تنتقد وتحذر تحت سقف البرلمان وفي منصات الإعلام، بقي الأمل في الإصلاح قائمًا باعتباره بديلًا أكثر أمنًا من آليات التغيير الخشن التي لا تؤمَن عواقبها.

أيقن المصريون أنه لا سبيل للخروج من متاهة الفقر والتخلف والمرض والفساد إلا بإسقاط النظام

في مصر، مثل بقية دول العالم الثالث التي تُحكِم فيها دوائر السلطة قبضتها على المشهدين السياسي والإعلامي، لا وزن لرأي المواطن المغلوب على أمره في اختيار ممثليه، لأن هناك جهات أكثر خبرة وقدرة على الاختيار ترسم الملعب فتدفع بذراعها البرلمانية لتمرير قوانين انتخابية على مقاس الموالين، ثم توكل إلى هؤلاء الموالين عقد اتفاقات وتكوين تحالفات لتدجين المخالفين. وتعهد إلى منصاتها الإعلامية تسويق تلك القوانين وتصوير ما جرى من اتفاقات وتحالفات باعتباره "فتحًا عظيمًا"، وكأن الأمة قد اجتمعت على كلمة سواء.

في النهاية تُنقل على الهواء مشاهد "العرس الانتخابي" بكل فقراته؛ بدءًا من حَمَلة الأعلام الذين يصطفون أمام الكاميرات وهم يصدحون "تسلم الأيادي"، مرورًا بالعروسين اللذين جذبتهما لجنة الاقتراع من ليلة العمر، وصولًا إلى مريض القلب الذي فضَّل أداء "واجبه الوطني" على دخول غرفة العمليات.

لم تُقنع هذه العروض المواطن المصري الذي غاب عن معظم اللجان، باستثناء بعض المناطق الريفية والشعبية التي يحكمها منطق التصويت القبَلي. كما لم تُقنع أيضًا وسائل الإعلام العربية والدولية، التي خصصت تغطيات واسعة للانتخابات العراقية لما تتسم به من تنافس وجدية غابا عن الانتخابات المصرية، حيث تُنافس قائمة واحدة نفسها على نصف مقاعد البرلمان، بينما تراجع عدد المرشحين على النصف الآخر في المقاعد الفردية بما يقترب من 35% مقارنة باستحقاق 2020. وهو ما يعني أن هندسة المشهد فشلت في إقناع المرشحين والناخبين والإعلام، بعدما أدرك الجميع أن النتائج محسومة، وأن الأمر كله ليس أكثر من تحصيل حاصل.

ورغم حرص مهندسي المشهد على أن تظل مكونات "الطبخة تحت الماجور"، فضحت السوشيال ميديا ما أُريد كتمانه؛ من استمارات الترشح التي كشفت ضم عدد من أشقاء وشقيقات وزوجات مسؤولين للقائمة المختارة، إلى زحف رجالِ أعمالٍ لم تكن لهم يومًا صلة بالسياسة ولا بالعمل العام لكنهم أدركوا أن الحصانة هي الطريق الآمنة لحماية مصالحهم، وليس انتهاءً بتسلل نفر من مساعدي ومستشاري رجال أعمال نظام مبارك، الذين يخططون منذ سنوات للعودة كمراكز قوى، لكن عبر واجهات أقل استفزازًا للرأي العام الذي لم ينسَ بعد مشهد احتكارهم السلطة والثروة في سنوات النظام الأخيرة.

جمال مبارك

طردت ثورة 25 يناير محتكري السلطة والمال من الباب، وحاصرتهم وأدانتهم وسجنت بعضهم بتهم الفساد والتربح والاحتكار، فإذا بهم يطلون اليوم من الشباك؛ إما عبر أحزاب وتحالفات الوطن قبيل انتخابات 2015، أو لاحقًا عبر رجال أعيد تدويرهم وتلميعهم وتقديمهم باعتبارهم رجال خير.

مع بداية الألفية الجديدة، ومع صعود جمال مبارك ورجاله إلى سطح الحياة السياسية، تحولت حالة التململ من ممارسات النظام الأسبق إلى حركة غضب عارم في الشوارع، فتوالت الإضرابات والاعتصامات لأسباب اجتماعية واقتصادية وسياسية، وتعددت الحركات والائتلافات التي تدعو إلى التغيير وترفض التوريث.

تحدى رجال "مبارك الابن" الناس، وبدلًا من أن يبحث النظام عن حلول، ولو عبر تنفيس الغضب الشعبي، سلم زمام الأمور للشلة التي احتكرت السلطة والثروة والنفوذ، وأقصت المخالفين والمؤيدين على حد سواء.

كان تزوير انتخابات مجلس الشعب في 2010 هو القشة التي قصمت ظهر نظام مبارك، فلجنة سياسات الحزب الوطني قررت حينها تحويل البرلمان إلى غرفة تشريع تابعة لها، فحصد أتباعها 420 مقعدًا من أصل 508، ونال مستقلون موالون للحزب 66 مقعدًا، فيما لم تَنْل المعارضة سوى 14 مقعدًا.

لم يكن الرئيس الراحل يدرك أن البرلمان الذي هندسه رجال ابنه وبعض أجهزة الدولة سيكون المحطة الأخيرة في مسار نظامه؛ إذ فقد الناس الأمل في الإصلاح ومواجهة الفساد عبر المسار السياسي، فمضوا في طريق الثورة غير مبالين بالعواقب.

أيقن المصريون، بعد عقود من تزوير الإرادة واحتكار السلطة، أنه لا سبيل للخروج من متاهة الفقر والتخلف والمرض والفساد إلا بإسقاط النظام الذي كتب على الدولة الفشل، وبناء نظام جديد يحترم إرادة الناس، ويضمن بناء مؤسسات تنفيذية وتشريعية مستقلة تعبر عنهم، وتخضع للمساءلة والمحاسبة دون ضيق أو تأفف.

"بعد أن سيطر الحزب الوطني على السلطة التشريعية في غياب شبه كامل لأي معارضة، لم يعد أمام الشعب إلا اللجوء إلى العمل السري أو مناشدة الجيش للتدخل أو النزول إلى الشارع وهو ما حدث بالفعل وأصبح ميدان التحرير بديلًا عن البرلمان"، هكذا بررت لجنة تقصي الحقائق حول أحداث ثورة يناير ما جرى من انفجار شعبي في وجه نظام مبارك. 

وأكد تقرير اللجنة المُشكَّلة برئاسة المستشار عادل قورة، رئيس محكمة النقض الأسبق، أن الطريقة التي أديرت بها انتخابات برلمان 2010 أدت إلى أن يتولى المؤسسة التشريعية أشخاص مطعونٌ في عضويتهم دون أن يكون هناك أمل في تصحيح هذه الأوضاع.

ودعت اللجنة في تقريرها الصادر في أبريل/نيسان 2011 إلى تدارك خطايا النظام السابق التي مهدت لثورة يناير، وشددت على ضرورة بناء دولة مدنية ديمقراطية حديثة قائمة على العدل والمساواة والحرية، ورفع يد الأمن عن مؤسسات الدولة، ومراجعة القوانين المكبلة للحريات، واحترام إرادة الجماهير، وضمان إجراء انتخابات نزيهة وتنافسية تحقق تداولًا حقيقيًا للسلطة وبناء مؤسسات حكم قوية.

في ظل الأزمات التي تحيط بها من كل جانب، لا تحتمل مصر أي هزات جديدة، لكن لتتمكن البلاد من تفادي أي هزة، يجب ألَّا نرتكب الأخطاء السابقة نفسها، وننتظر نتيجة مختلفة.

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.