مصيدة الاستثناء.. هيثم الحريري ليس وحده
كيف يحوّل التفسير التعسفي سُلطة الاستثناء من التجنيد إلى وصمة وقيد؟ وهل من حلول لإنقاذ حقوق المواطنين؟
مِنْ بعد التضامن الواجب مع النائب الأسبق هيثم الحريري ضد التعسف القانوني واستبعاده من الانتخابات البرلمانية، ومِنْ بعد الإشادة بفريقه القانوني والمرافعة القيّمة لمحاميه مالك عدلي أمام محكمتي القضاء الإداري والإدارية العليا، سيمضي الاستحقاق إلى ذمة التاريخ، وستبقى ظاهرة الاستثناء من أداء الخدمة العسكرية تثير تساؤلات ومخاطر، بعد استخدام هذا الإجراء التقديري وصمةً أو قيدًا للانتقاص من الحقوق السياسية، كما حدث مع كثير من المرشحين للبرلمان منذ عام 2020.
تتطلب هذه الظاهرة حلًا عاجلًا، وعاقلًا، لحَوْكَمة هذا الملف ومنع التعسف ضد المواطنين لأسباب لا دخل لهم بها، بناءً على اشتراط "أداء الخدمة العسكرية أو الإعفاء منها" الوارد في قوانين الانتخابات.
وطالما لم يصل الأمر إلى المحكمة الدستورية العليا من خلال المحاكم، فإنني إزاء اختلاف التفسيرات أدعو الحكومة ورئيس مجلس النواب إلى مخاطبة وزير العدل لتقديم طلب تفسير إلى المحكمة الدستورية العليا (وفقًا للمادة 33 من قانونها) لإزالة الغموض حول آثار الاستثناء من التجنيد، والانفتاح لاحقًا على إدخال تعديلات تشريعية لحسم الأمر في مساره الدستوري السليم. أيْ تمتع المُستثنى بكامل حقوقه السياسية والوظيفية إذا لم تصدر ضده أحكامٌ جنائيةٌ تمنعه من الترشح أو الانتخاب أو التعيين في الوظائف والمناصب العامة.
الظاهرة تستحق. ولا تقتصر على الحريري وباقي مرشحي البرلمان الذين استُثنوا في عقود سابقة من أداء الخدمة، بل تمتد إلى عدد كبير يستحيل تحديده حصلوا على الاستثناء عند تقدمهم للتجنيد، نتيجة أنشطتهم أو الانتماءات السياسية لأفراد في عائلاتهم خلال عهود سابقة، وكذلك عقب صدور أحكام من القضاء الجنائي أو القضاء العسكري ضد أقاربهم، في قضايا سياسية أو جنائية.
أعرف العشرات من هؤلاء. ولم يقف الاستثناء حائلًا دون تمتع بعضهم بحقوقه كاملة في بعض الفترات. والحريري نموذج واضح. فقد فاز بعضوية مجلس النواب 2015 ثم قبِلت الهيئة الوطنية للانتخابات أوراقه وخاض المنافسة في انتخابات 2020 لكنه خسر. وحظي كثير من المستثنين بفرص للترشح والتعيين وفق قوانين تشترط "أداء الخدمة العسكرية أو الإعفاء منها" بعدما ثبت خلو حالاتهم من أي موانع.
وهذا بالضبط يؤكد أننا أمام منظومة تشريعية/إدارية أشبه بالمصيدة. يمكن التغاضي عن استغلالها طويلًا، ثم تُستخدم من خلال التفسير المتعسف والتضييق على الحقوق الأصيلة، فلا يملك الضحايا النجاة منها.
سلطة تقديرية وتحديثات مجهولة
منح قانون الخدمة العسكرية والوطنية القائم منذ إصداره عام 1980 سلطةً تقديريةً لوزير الدفاع لاستثناء بعض الفئات من التجنيد، بقواعد وشروط يحددها "طبقًا لمقتضيات المصلحة العامة أو أمن الدولة". وفي العام التالي أصدر الوزير آنذاك المشير عبد الحليم أبو غزالة قرارًا بـ"جواز استثناء" ثلاث فئات هم "من صدرت ضدهم أحكام نهائية بالإدانة في الجنايات المضرة بالدولة من الخارج والجنايات والجنح المضرة من الداخل"، و"الأشقياء معتادي الإجرام الصادر ضدهم أحكام في قضايا السرقة والتزييف والتزوير وبعض جرائم المخدرات"، و"الأفراد الثابت في حقهم إفساد الأخلاق العامة وحسن الآداب من القوادين والشواذ جنسيًا ممن صدرت ضدهم أحكام قضائية"، أخذًا في الاعتبار أن قانون العقوبات المصري لا يُجرِّم المثلية الجنسية.
بعض أسباب الاستثناء من أداء الخدمة العسكرية بعد التعديلات المتتالية باتت من الماضي
وهناك ثلاث ملحوظات على هذا القرار المحوري؛ الأولى أنه اشترط في كل فئة صدور أحكام قضائية بشكل عام أو أحكام نهائية، الثانية أنه نص على تشكيل لجنة لفحص الحالات لعمل تقرير عن كل منها على حدة على ضوء البيانات التي ترد من الجهات المختلفة وما تتضمنه صحيفة السوابق لتقديم "اقتراحات الاستثناء"، والثالثة أن الاستثناء ليس نتيجةً حتميةً بل من الجائز بعد الفحص الإلزام بالتجنيد.
في عام 1986 أضيفت فئةٌ جديدةٌ لمن يجوز استثناؤهم؛ المصريون المقيمون في دولة أجنبية الذين اكتسبوا جنسيتها مع الاحتفاظ بالجنسية المصرية، مع زوال الاستثناء في حالة فقد الجنسية الأجنبية، وفي عام 1993 توسع القرار في الفئة الثالثة ممن يجوز استثناؤهم لتشمل المدانين نهائيًا بالاغتصاب وهتك العرض والتحريض على الغش وإفساد الأخلاق. وأضيفت فئةٌ خامسةٌ؛ المدانون نهائيًا في جرائم القتل والحريق العمد والنصب وخيانة الأمانة والقمار والتخريب والإتلاف العمدي.
وفي عام 1994 توسع القرار في الفئة الثانية لتشمل الأشقياء المدانين في جميع القضايا، بخاصة السرقة والاغتصاب، كما أضيفت فئةٌ جديدةٌ هي "الأفراد الذين ثبت اعتقالهم سياسيًا أو جنائيًا لأسباب تتعلق بالمصلحة العامة بالدولة". وفي عام 2004 أضيفت فئة أخرى؛ الأجانب الذين اكتسبوا الجنسية المصرية قبل سن التجنيد حتى وإن زالت عنهم جنسيتهم الأجنبية.(1)
لم تنشر الوقائع المصرية لاحقًا أي تعديلات أخرى. وقد ثار نقاش حول هذه المسألة في مجلس الشورى عام 2013 عكس عدم إلمام الحكومة بكل التفاصيل. كما أن المحكمة الإدارية العليا عند تناولها المسألة لأول مرة عام 2020 لم تعرض في حيثياتها جميع التحديثات بشكل كامل، وأوردت بعض البنود بصيغتها القديمة قبل التعديل، وتوقفت عند القرار الصادر عام 1994.(2)
حالة ضبابية؛ تتطلب بداهةً الإعلان بشفافية عن جميع فئات المستثنين وفقًا لأحدث قرارات وزير الدفاع الصادرة في هذا الشأن ونشرها في الوقائع المصرية، لأنها موجّهة إلى العامة ومعروضة على القضاء، حتى يكون الجميع على بيّنة من الاستثناءات. مع التسليم بأن السلطة التقديرية منطقية ومبررة في قرار الاستثناء لما تقتضيه اعتبارات التأمين والسرية داخل القوات المسلحة.(3)
أسباب طواها الزمن
إشكالية أخرى؛ أن بعض أسباب الاستثناء من أداء الخدمة العسكرية بعد التعديلات المتتالية باتت من الماضي، ولا يجوز ترتيب آثار عقابية عليها، تحديدًا "الاعتقال السياسي والجنائي"، خاصة بعدما قضت المحكمة الدستورية العليا في يونيو 2013 بعدم دستورية بند الاعتقال والتفتيش دون التقيد بقانون الإجراءات الجنائية الوارد في قانون الطوارئ، وانعكس ذلك على الدستور بوضع قيود واضحة في المادة 54 تحظر تقييد الحرية "لأي سبب دون أمر قضائي مسبب يستلزمه التحقيق".
ولا يُعقل الاستناد إلى قرارات تقديرية بالاعتقال اتُّخذت في ظروف أمنية ووفق تصنيفات سياسية مغايرة تمامًا للحالة الراهنة. لذا كنا ننتظر من الجهات المعنية بتطبيق القانون كالهيئة الوطنية للانتخابات والمحاكم دراسة الأسباب التي أدت إلى استثناء الحالات المستبعدة، ومخاطبة وزارة الدفاع لموافاتها بالملفات، والتمييز بين الاستثناء بناءً على أحكام إدانة وأسباب أمنية أو سياسية، زالت أو تغيرت.
لكن المحكمة الإدارية العليا برئاسة المستشار محمد حسام الدين، رئيس مجلس الدولة الأسبق، لم تبحث ذلك في حالة استبعاد أحد مرشحي مجلس النواب في أكتوبر/تشرين الأول 2020. واكتفت بالتأكيد على أن "الاستثناء لا يدخل في نطاق الإعفاء الضمني من أداء الخدمة العسكرية كما هو الحال فيمن لم يصبه الدور". وسارت الأحكام التالية على النهج ذاته وآخرها الصادر باستبعاد الحريري.(4)
بل إن حكم أول درجة في قضية الحريري افترض علم الأفراد المستثنين مسبقًا بأن أفعالهم تستوجب استثناءهم، وأنهم "صنعوا بأنفسهم هذا الفعل عن إرادة وتقدموا للتجنيد الإجباري وهم يعلمون يقينًا أن فعلهم الإرادي سيترتب عليه الاستثناء". وهذا مخالف لصريح نص القرارات الوزارية سالفة الذكر التي لم تجعل الاستثناء نتيجة حتمية بل قرار جوازي يخضع للسلطة التقديرية. وهذه القراءة تتجاهل أيضًا خروج بعض الأسباب -كالاعتقال أو القرابة مثلًا- عن الإرادة الذاتية نهائيًا.
تفسيرات متضاربة بدون أسباب
تخبرنا تلك الأحكام أن المستثنى في حكم المحروم أو المنسي من شروط الترشح. فهو لم يؤدها ولم يُعفَ منها لأي سبب.
هكذا ببساطة يُجرَّدُ مواطنٌ لأسباب زالت أو غير دستورية أو مرتبطة بغيره من حق أساسي تكفله المادة 87 من الدستور، وتخرج عن الشروط الصريحة المنصوص عليها في قوانين مباشرة الحقوق السياسية والانتخابات.
في المقابل نجد تفسيرات أخرى! حيث رفضت المحكمة الإدارية العليا برئاسة المستشار محمد حسام الدين أيضًا في حكم أصدرته في يونيو/حزيران 2020 دعوى أقامها مواطن للمطالبة بتعويض عن الأضرار التي أصابته من الاستثناء بعد اعتقاله عامي 1994 و1995. ففي حيثياتها قالت إن النص على تفويض وزير الدفاع باستثناء بعض الفئات "لم يرتب أي أثر على الاستثناء من أداء الخدمة العسكرية سواء على التعيين في الوظائف العامة أو حرية السفر والتنقل أو المساس بأي حرية شخصية أو حق على نحو يترتب عليه إهدار مبدأ المساواة المكفول دستوريًا أو الانتقاص منه أو المساس به".(5)
وإذا مددنا الخط على استقامته، على ضوء حيثيات الحكم، فلا يجوز استحداث آثار للاستثناء دون نص قانوني صريح، لما في ذلك من إهدارٍ لمبدأ شرعية العقوبة. كما لا يجوز توقيع جزاء على مواطن نتيجة فعلٍ منسوبٍ لغيره من أقاربه، فهذا ينسف المبدأ الدستوري بشخصية العقوبة.
ويؤيد تلك الوجهة أن الهيئة الوطنية للانتخابات وغيرها من جهات الدولة سبق وقبلت ترشح أو تعيين أشخاص مستثنين من التجنيد، بناء على تفسير أرحب للنص أو في ظروف مغايرة.
لا مسارات لإصلاح الضرر
الإشكالية الأخيرة هي انعدام فرص جبر الأضرار خاصة بعدما استقرت أحكام الإدارية العليا ضد المستثنين وعدم عدولها عن قضائها السابق.
فليس من الواقعي أن يطعن أحدٌ بعد سنوات على قرار استثنائه أمام اللجان المختصة بالقضاء العسكري، كما أن التقاضي في فترات الانتخابات أو التعيينات بما تتسم به من آجال قصيرة تصعب معه المخاطرة بالدفع بعدم الدستورية خشية فوات المواعيد أو ضياع فرص الترشح.
الأهم أن المسألة تتعلق بإغفال تنظيم حالة الاستثناء من التجنيد في قوانين الانتخاب وغيرها من تعيينات ووظائف، وعدم مساواة الاستثناء بالإعفاء أو تفنيد حالاته، ولا تتعلق فقط بالتفويض في الاستثناء بقانون الخدمة العسكرية. بالتالي سيظل المستثنى الآن ومستقبلًا حبيس مصيدة التفسير المتعسف حسب الأحوال!
إن هذا الانسداد الذي يُهدر حقوق آلاف المواطنين يدعو إلى تدخل حكومي أو برلماني لطلب تفسير المحكمة الدستورية العليا، أملًا في الإنصاف ومنع إنزال عقوبة غير مستحقة بمواطن مرتين، ومؤاخذته طوال حياته على فعل هو منه براء أو بتصنيف تجاوزه الزمن.
(1) القرارات الوزارية المذكورة أرقام 115 لسنة 1981، 280 لسنة 1986، 50 لسنة 1993، 136 لسنة 1994، 107 لسنة 2004
(2) الحكم في الطعن 97510 لسنة 63 ق.ع بجلسة 20 يونيو 2020
(3) راجع في هذا المعنى على سبيل المثال حكم المحكمة الدستورية العليا في الدعوى 23 لسنة 95 بجلسة 3 يونيو 2012
(4) أحكام الدائرة الأولى بالمحكمة الإدارية العليا في الطعون الانتخابية أرقام 406 لسنة 67، 895 لسنة 67، 67269 لسنة 71 ق.ع
(5) المرجع الثاني أعلاه.
مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.
