تصميم: سيف الدين أحمد، المنصة 2025
أم كلثوم وفضل شاكر

كلب فضل شاكر

منشور الاثنين 1 أيلول/سبتمبر 2025

في مقاله "نغمة شجية مِن فم تلطّخ بدمٍ لا يُرى"، استعرض الزميل محمود المصطفى المسيرة الفنية القصيرة للمطرب فضل شاكر، مختتمًا بسؤال عن تفاعل الجمهور الكبير مع أغانيه بعد عودته من الإرهاب إلى الفن، وهل هو غفران أم نسيان؟ معقبًا بأن الغفران تواطؤ على جريمة القتل. تصادف في الأسبوع ذاته أن نشر الزميل وسيم عفيفي خبرًا أرشيفيًا من عام 1964 بعنوان "لماذا أمرت النيابة بحفظ التحقيق في حادث كلب أم كلثوم".

رغم تفاوت الأزمنة، وكذلك طبيعة الجرم، كون فداحة دعم الإرهاب لا تُقارن بفداحة الإهمال؛ فإننا أمام حادثين يتشاركان في خلط المسؤولية الجنائية للمواطن، بإسهامه الفني الذي يثري الحياة الثقافية في المجتمع. في الحالة الأولى، قالت النيابة في مسوغاتها لحفظ التحقيق إن "التهمة ثابتة على أم كلثوم، ولكن نظرًا لأن أم كلثوم أدت وما زالت تؤدي خدمات جليلة قدَّرتها الدولة في أكثر من مناسبة، لذلك رؤي حفظ القضية". في الحالة الثانية، عاقبت المحكمة فضل شاكر بالسجن 22 سنة بعد إدانته بمساعدة جماعة إرهابية.

لم تدفع أم كلثوم ثمن تسببها في "الإصابة عن طريق الخطأ، والإهمال بترك الكلب بدون كمامة"، التي اتهمتها بها النيابة ورأت ثبوتها عليها. فلأنها سيدة الغناء العربي لن تُحاكم ولن تُعاقب. رغم أن عقوبة "الإصابة الخطأ" والإهمال لم تكن لتتعدى الغرامة، وهي مع التعويض المدني للمصاب مسألة بسيطة إن شاء الله.

بيد أن "الدولة" أبت وصمها بالإدانة. ما اقترفته أم كلثوم كان الإهمال، الذي نجم عن إصابة مواطن شاب، كان في حُكْم ابنها وربما حفيدها. لم تتطوع رغم ذلك بتغطية نفقات علاجه، وهو الذي كان طالبًا في كلية التربية الرياضية، أي أن رأسماله جسده. وبعد ما لحق به من أذى، وضع مستقبله كرياضي في حكم العدم، لم تفكر في تعويضه، ولم تر الدولة ضرورةَ إرغامها على ذلك، لأنها ابنة الدولة. بينما إسماعيل، الطالب المصاب، لم يقدم للدولة ما قدمته المطربة من خدمات، بل على العكس، فهو يُكبّد البلاد نفقات تعليمه وعلاجه، حيث وقع ذلك الحادث في زمن مجانية التعليم والعلاج.

أنا لا أقارن دعم الإرهاب بالإهمال لكني أتحدث عن جرم ثالث هو عدم مساواة الناس أمام القانون

أما فضل شاكر، فقد ارتكب جرمًا وحُوكم وطُبّقت عليه العقوبة، وقضي بسجنه 22 عامًا جزاءً وفاقًا على ما اقترف. وهو الآن يغني من مهربه في مخيم عين الحلوة. والهارب في حكم سجين الهروب حتى يقبض عليه ويقضي باقي عقوبته في السجن. يتذرع فضل شاكر بأنه سيثبت براءته، وهو لن يسلم نفسه حتى يحدث، وسيظل سجين المخيم. ورغم شائعات إقامته حفلات في مصر والسعودية؛ فحتى اللحظة لم يستطع إخراج رأسه خارج المخيم.

إذن، فنحن أمام اثنين من المواطنين، في زمنين وبلدين مختلفين، ارتكب كلٌّ منهما جرمًا، وارتأت الجهات المختصة أنهما مذنبان، واحدة أطلق سراحها بلا محاكمة، والآخر نُفّذ فيه القانون دون النظر لـ"الخدمات" التي قدمها في ألبوماته وأغنياته.

على صعيد آخر، فالاثنان يعملان بالفن، يقدمان أقصى ما تجود به قريحتهما الفنية. بالطبع، من الناحية الفنية، والإسهام الحضاري، فلا قرين لأم كلثوم ولا مثيل. هي ليست صوتًا قويًا رخيمًا فحسب، بل مؤسسة فنية، تحمل مشروعًا حضاريًا لقَّن المواطنين، الأمي منهم قبل المتعلم، أشعارًا رصينةً ومعانيَ إنسانيةً، وارتقى بذائقتهم الفنية. أحبَّت جمهورها، وقبل أن تحبه احترمته، بل وهابته، وقدَّرته، فقدمت له موهبتها الفذة في أبدع إطار، بدءًا من الكلمات والألحان والأداء، وحتى الفساتين والأقراط التي كانت ترتديها.

لكنها، من بين كل جمهورها، لم تحب إسماعيل، ولم تشفق عليه، ولم يتحرك قلبها لفاقته والغبن الذي تسببت له فيه. لم تهتز لتدمير مستقبله، ولم تترجم رهافة المشاعر التي طالما أوصلها صوتها بصدق إلى آذان المستمعين، إلى عمل على الأرض، ولم يكن هذا العمل يكبدها أي مشقة سوى بعض المال لتعويض الشاب وعلاجه. تحرك قلب فتاة الشيبسي للفقير المار بجوارها، ولم يتحرك قلب أم كلثوم لإسماعيل.

وبعد التأكيد على أن فضل شاكر لا يُقارن، ولا أظنه يرغب في أن يقارن، بأم كلثوم، من حيث الموهبة والإنتاج. فإنه فنان ذو موهبة نادرة في زمننا. صوت tenor، عريض المساحة، مخملي الملمس، واضح النبرات، يحمل كلمات أغانيه بإحساس يندر أن نقابله في زمن المطربين الذين يغنون من أطراف حناجرهم، وهم يظنون أن الطرب ليس إلا ارتعاشات متتالية في غير موضع. كما أن أم كلثوم ابنة زمن جاد علينا بالكثير من المطربين البارعين، تفوقت عليهم جميعًا، بينما فضل شاكر في زمننا هذا، هو بيضة الديك.

بخل علينا زمننا بالمطربين الذين يتلمسون الكلمة ويستشعرونها، قبل أن يداهمونا إما باستعراض العضلات الصوتية، أو بفرض أصواتهم الضعيفة التي بها خنة علينا.

فهل على الجمهور أي مسؤولية أخلاقية؟

في تقديري لا. المواطن الذي اقترف جرمًا، عُلِّق في رقبة القضاء لمحاكمته، ولا يجدر بالناس "الأخذ بالثأر"؛ المادي أو المعنوي، طالما أن القانون أخذ مجراه في محاكمة المتهم ومعاقبة المذنب. الحالة الوحيدة التي يحق للمواطن أن يُبدي اعتراضًا، عندما تعفي السلطات المختصة المتهم من الملاحقة، والمذنب من العقوبة، تحت أي دعاوى، ولو كانت "خدمة للدولة". فالواقع أن الدولة هي الملزمة بخدمة المواطن، لا العكس، أما خدمات المواطن للدولة، فلا معنى لها إذا أدت إلى إهدار القانون، وإشعار المواطنين أنهم يحيون في مجتمع إذا أذنب الفقير عاقبه، وإذا أذنب السيد غضّوا الطرف عنه.

في الواقع، مشهد الطالب إسماعيل وكلب أم كلثوم هو مشهد قميء، غابت فيه الرحمة والعدل وسيادة القانون وحتى مبادئ الحنان وعاطفة التضامن الإنساني والمجتمعي.

ربما يظن البعض بأنني أتحامل حين أقارن دعم الإرهاب بالإهمال. وأنا لا أقارن، لكني أتحدث عن جرم ثالث، هو عدم مساواة الناس أمام القانون. لكل جرم عقوبة، وعلى كل مواطن اقترف ذنبًا أن يدفع الثمن أمام القضاء. وهذا ما يحمي المجتمع من أن يقتص الناس بأيديهم وأنفسهم وألسنتهم.

وبناءً عليه، ففي اتهام مواطن أعزل بالتواطؤ، لمجرد أنه استمتع بأغنية شجية جاءت إليه محمولة على صوت هارب من السجن، تجنٍّ. فدور الناس والمجتمع انتهى بمجرد عرض القضية على القضاء، وبتَّ فيها بحكمٍ منصفٍ. تمامًا كذلك التجني الذي يصب فوق رأس كل من يتجرأ بقول إن أم كلثوم، أعظم فنانة جاد بها الزمان، تمتعت بحصانة من القانون لا تحق لها، وما كان يجب أن تقبلها، ولا أن يقبلها الناس.

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.