تصميم: المنصة

بالإعلام الموجه والرموز المصنوعة.. أيادي الأجهزة التي تذبح الوعي

كيف تمرر الأنظمة قيمها عبر ضباط مخابراتها ورموزها المصنوعة؟

منشور الأربعاء 15 تشرين الأول/أكتوبر 2025

انتشرت على السوشيال ميديا مقولةٌ نُسبت خطأً لكارل ماركس تقول "أَرني الذي تُبجّله أُخبرك من أنت".

المقولة تعود لتوماس كارليل، وهو مفكر وكاتب ومؤرخ أسكتلندي بارز عاش في القرن التاسع عشر، ويُعد من أهم رموز الفكر الأوروبي في عصره، خاصة في النقد الاجتماعي والفلسفة التاريخية.

كان كارليل ناقدًا لاذعًا للحضارة الصناعية الحديثة، وللمادية التي رآها تُفسد روح الإنسان. آمن بأن التاريخ تصنعه "النفوس العظيمة"، أي القادة والأبطال الذين يمتلكون الإلهام والإرادة. وقد عبّر عن ذلك في كتابه الشهير Heroes, Hero-Worship and the Heroic in History/الأبطال وعبادة البطولة عام 1841.

إذا نحينا الجدل حول ماهية "النفوس العظيمة"، فإن كارليل كان من الأرواح المسنة إذا جاز التعبير؛ يلفظ الثورة الصناعية، يتذمر من تغيّر أخلاقيات المجتمع لتتماشى مع التطور الصناعي الحديث، ويدعو الناس إلى العودة إلى النسق القيمي الأقدم، ما كان يُسمِّيه الرئيس الراحل أنور السادات "أخلاق القرية". لم يؤمن كارليل بالديمقراطية واعتبر الحكم النخبوي هو الأمثل. 

لماذا نتحدث عن كارليل؟ لأنه حاضر بقوةٍ في سياقنا الآني. ليس بعبارته المنسوبة إلى غيره، لكن بمنظومته القيمية التي لم تغب أبدًا كما رأيناها في ذهنية السادات. أمر مثير أن يمتلك شخصٌ هذا التأثير على صناعة القرارات الدولية، ويكون ذكره غائبًا عن العامة، الذين يصنع بشكل أو بآخر مستقبلهم.

صناعة "الرمز الوطني"

غلاف كتاب الأبطال وعبادة البطولة، تأليف توماس كارليل (1841)

يطرح كارليل في "الأبطال وعبادة البطولة" فكرةً مركزيةً مفادُها أن التاريخ يُصاغ إلى حد بعيد عبر شخصياتٍ تُجسِّد قيمًا، وتُصبح بمثابة "قوالب" تُزرَع في وعي المجتمع ليُعيد إنتاج تلك القيم. بالنسبة لكاتبٍ مثل كارليل، البطل ليس مجرد فرد بارز، بل وسيلة تعليم أخلاق وفلسفة حياة تُستنسخ عبر القصص والذكريات والطقوس. خيط يمكننا التقاطه لسبر أغوار دول أو مؤسسات تسعى لتثبيت أسماء وصور في الذاكرة الجمعية، لا لأنهم عظماء بالضرورة، بل لأنهم يحملون موادَ ثقافيةً قابلةً للتسييس وإعادة الاستخدام.

جدلية "الشخص العظيم" قد تطول وأنا الليلة مشغولة بطرحٍ آخر، لكن لا بأس من سؤال: من هو الشخص العظيم؟ هل كل الشخصيات البارزة في صناعة مجريات الأمور التاريخية عظيمة؟ هناك مقولة إنجليزية مفادها "بطل لدى أحدهم، إرهابي لدى آخر".

لا أظن أن كارليل هو من ابتكر فكرة صناعة البطل، وانتهاجها كأسلوب لتحقيق مآرب سياسية، لكنني أظن أنه من نظَّر لها.

آليات صناعة الرمز

صناعة الرمز الوطني تخدم أهدافًا متعددة؛ توحيدُ سردٍ قومي مُبسّط، خلق مرجعية أخلاقية تبرّر سياسات معينة، وآليات تمييع الاختلاف السياسي عبر استبدال السرد العاطفي بالنقاش المؤسساتي.

عمليًا، الرمز يسمح بتحويل خلافات سياسية إلى قضايا "روح وطنية"، ما يُصعّب النقد ويُصنّف المخالفين كخارجين على صفّ الأمة. الأهم أن رمزية الفرد تُسهّل نقل قيم معقّدة مثل الطاعة والتضحية والشجاعة والطموح الاقتصادي أو السياسي، عبر صورة سهلة التذكّر، ما يجعلها أداة فعّالة للسيطرة الرمزية. هذه هي نظرية كارليل بشأن "الأبطال".

تلجأ الأنظمة الحاكمة، حول العالم، وعلى مر التاريخ، إلى سياسات متبعة، متكررة، لا تفتأ الجماهير أن تبتلعها، بما يذكرنا بالمقولة الخالدة للممثل المنتصر بالله "تراهني أضرب الراجل هو هو على قفااااه؟". يلحظها الناس، ومع ذلك ينساقون خلفها في كل مرة على مدى قرون، ومن تلك الآليات المحفوظة: 

  1. التكرار المؤسساتي: إدراج القصة في مناهج التعليم، الشهادات، الاحتفالات الرسمية، وتماثيل أو شوارع تحمل اسم البطل. 
  2. الهيكلة الإعلامية: سيطرة السردية المراد للجماهير تصديقها عبر الصحافة والإذاعة والدراما، أو الإفراط في تغطية إيجابية تحجب الأصوات المعارضة.
  3. التقنين القانوني والاقتصادي: ترويع الخصوم عبر حجب فرص العمل أو القضايا الإدارية. وليس بالضرورة عبر السجن فقط، بل أيضًا عبر الوصول إلى سُبل العيش، مع مكافأةِ من ينصاع للسردية دون مقاومة. 
  4. التوظيف الرمزي: ربط اسم الرمز بالقيم العامة من تضحيات وطنية ونهضة وصمود، حتى لو كانت الحقيقة المُركّبة وراء الاسم معقّدة أو متناقضة.

هذه الآليات تعمل معًا لتصنع "حتمية تاريخية"، يبدو معها هذا الرمز وكأنه هو الخيار الطبيعي للذاكرة الوطنية.

مروزوف.. دعاية ودعاية مضادة

مع بداية ازدهار الاتحاد السوفييتي مطلع ثلاثينيات القرن الماضي يُحكى أن طفلًا اسمه بافليك مروزوف أبلغ السلطات عن والده ليُعدم، فقتله جدُّه انتقامًا. روَّجت الدولة هذه القصة باعتبارها أسطورة تضحية تلخص القيم الوطنية التي ينبغي غرسها في المواطن. في الأدب، والمسرح، والمعارض الفنية، استُخدم مروزوف درسًأ للتفوّق الأخلاقي والولاء للدولة.

يمكننا أن نتعامل مع تحقيق دروجنيكوف بوصفه دعاية مضادة لا تخلو من بعض الإضافات

تصلح هذه القصة لضرب مثالٍ في كيفية صناعة المواطن "الروبوت"، الذي يسير خلف الدولة متجردًا من أبسط المشاعر الإنسانية؛ محبة والده، لينقذ بلده وحبايبه والمجتمع والناس. يُصوَّر الوالد رجلًا فاسدًا، يسرق أقوات الفقراء، ليُطرح بافليك بوصفه الطفل الثائر على والده، المنحاز لقيم العدل والحق والخير، ثم دفع حياته في سبيل تضحيته.

بعد انهيار الاتحاد السوفيتي وفتح بعض الأرشيفات، وجد باحثون أن كثيرًا من تفاصيل القصة ضُخّمت أو اختُلقت. الأدلة تُشير إلى أن الوقائع اليومية كانت أبسط وأكثر فوضوية؛ خلافات عائلية، اتهامات غير واضحة، وربما عنف شبابي محلي. بعض الباحثين بيّنوا أن النسخة الدعائية خضعت إلى تعديل كبير لتخدم أهداف الدولة في تشجيع الإبلاغ الطوعي وانكفاء الخلاف الداخلي. 

في منتصف ثمانينيات القرن العشرين، أجرى الكاتب السوفيتي المعارض يوري دروجنيكوف تحقيقًا التقى أثناء إعداده بشهود عيان عايشوا تلك الفترة، جرى تداوله في البداية بسرّيّة، قبل أن يُنشر بالروسية في المملكة المتحدة عام 1988 تحت عنوان المخبر 001: أسطورة بافليك موروزوف، ويترجم بعد ذلك إلى عدة لغات.

يوثّق دروجنيكوف تضارب عمر بافليك في المصادر السوفيتية المختلفة عند مقتله، وتداول صور مختلفة له. وكذَّب كونه عضوًا في حركة الطلائع، وكون والده كان من الكولاك، مشيرًا إلى أن الأب كان رئيس السوفيت المحلي.

كما شكك دروجنيكوف في الرواية السوفيتية بأن جدَّ بافليك هو من قتله، مُدّعيًا أن الجد المكلوم بفقد حفيده قاد حملة للبحث عنه حين اختفى، وظل يؤكد براءته أثناء المحاكمة. ورغم أن دروجنيكوف لم يُصرّح بذلك؛ فقد ألمح إلى أن الصبيَّ قُتل بيد ضابط في الشرطة السرية/GPU، يقول دروجنيكوف إنه قابله أثناء بحثه في القضية.

ليس هناك دليل على افتراض دروجنيكوف بأن الضابط هو من قتل الطفل، ويمكننا أن نتعامل مع تحقيقه بوصفه دعاية مضادة لا تخلو من بعض الإضافات، وإن لم يجانبها الصواب بالكلية. 

كيف تسيطر الاستخبارات على الوعي الجمعي؟

في كتابها كاثرين العظيمة عام 1979، تتحدث أستاذة علم الاجتماع بجامعة ييل ديبورا ديفيس عن عملية سريّة أطلقتها وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية في أواخر الأربعينيات باسم موكينجبيرد/mockingbird، ردًا على نشاط المنظمة الدولية للصحفيين في براج، التي قالت إنها كانت تتلقى تمويلًا من موسكو وتُوجّه الصحافة الأوروبية لخدمة الدعاية الشيوعية.

فمع بداية الحرب الباردة وانقسام العالم بين معسكرين أيديولوجيين، بدأت أجهزة استخباراتية، لا سيما في الولايات المتحدة، للتأثير على وسائل الإعلام داخليًا وخارجيًا. وعملية mockingbird أصبح اسمًا يُستخدم لوصف جهود تجنيد الصحفيين والمنظمات الثقافية لبث سرديات موالية لسياسات الاستخبارات.

في كتابها، تحكي ديبورا ديفيس كيف جنَّد فرانك ويسنر، مدير مكتب تنسيق السياسات في الاستخبارات الأمريكية/CIA، كاثرين جراهام ناشرة صحيفة واشنطن بوست، لإدارتها داخل الوسط الإعلامي الأمريكي. وبحلول أوائل الخمسينيات، أصبح ويسنر يسيطر على صحفيين نافذين في نيويورك تايمز، نيوزويك، وCBS. كما أشارت إلى أن كورد ماير، بعد انضمامه إلى الوكالة عام 1951، أصبح العميل الرئيسي للعملية.

بعض ملامح عملية mockingbird بدأت تظهر منذ أواخر الأربعينيات وبدايات الخمسينيات، مع توسّع العلاقات بين المخابرات وقطاعات الإعلام خلال الحرب الباردة. لكن عمليات التجسس والتضليل الداخلية والخارجية دفعت الكونجرس في منتصف السبعينيات إلى تشكيل لجنة عرفت باسم لجنة تشرش/Church Committee بين عامي 1975 و1976، لتكشف علاقات مثيرة للاهتمام بين أجهزة الاستخبارات والوسائل الإعلامية، تناولتها كذلك تحقيقات صحفية مثل تحقيق كارل بيرنشتاين عام 1977.

بناءً عليه، فإن صناعة وعي الجماهير ليست مسألة تقدير تاريخي بل هي آلية سياسية قديمة قدم النقوش على الجدران، يتيح لنا فهم آلياتها، من نظرية صناعة الرمز الوطني/البطل إلى التحكم في المؤسسات الإعلامية والتعليمية، مساحةً للقراءة النقدية لما يُقدَّم لنا على أنه "تاريخ مُوحَّد". 

توضح قصة بافليك مروزوف كيف يمكن جعل حدث محلي مؤلم درسًا سياسيًا، وملف mockingbird يبيّن كيف تستطيع أجهزة الدولة أن تتطفّل على حرية الإعلام ليطلق سردية تُشكل وعي الجماهير.

بالطبع لن أختم المقال بالتوصيات التي يلوكها المدافعون عن الحريات والاستقلالية ليُبرئوا ذممهم ويغسلون أيديهم من مذبحة الوعي المستمرة، ولن أتحدث عن ضرورة تعزيز الشفافية، ودعم استقلال المؤسسات الإعلامية والأكاديمية، وتعليم مهارات النقد الإعلامي في المدارس.

هذا كلام غير قابل للتحقق، لأن طرفًا من أطراف اللاعبين الأساسيين لا مصلحة له في ذلك. لكن ما لديَّ مجرد نصيحة فردية: تحسس عقلك في مواجهة الحملات، أيًا كان من أطلقها.

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.