زرت إسطنبول سائحًا مع أسرتي في أبريل/نيسان الماضي، بعد أكثر من عشر سنوات على زيارتي الأخيرة. لم تتغير زحمة السائحين أمثالي، لكن ضاعفتها زحمة العائلات التركية التي انضمت للسائحين في إجازة عيد الفطر.
ربما ازداد عدد أفراد الأمن والشرطة في المناطق السياحية، ووضعت بوابات إلكترونية للكشف عن المعادن عند مداخل أسواق البازار المتشعبة والمكتظة. لكن لم يتغير سلوك الشرطة التي لا تحتك بالسائحين ولا توقف أحدًا في الشارع، حتى من يصوّرونهم في خلفية مزار أو متحف. كما بدت البوابات الإلكترونية ديكورًا لا يعطّل أيًا من الآلاف المتدفقة في أزقة البازارات وحواريها. ونادرًا ما تجد بوابة مثلها في فندق من المئات التي تنتشر في شوارع البلدة القديمة.
عدد السياح الأجانب لتركيا ذات الـ87 مليون نسمة بلغ أكثر من 56 مليونًا العام الماضي؛ بينما زار مصر ذات الـ117 مليون نسمة في الفترة نفسها أقل من 15 مليون سائح، واعتُبر ذلك فتحًا كبيرًا!
رغم الأزمة الاقتصادية التي تواجه تركيا في السنوات الخمس الماضية، مع معدلات تضخم وصلت إلى 60% وانخفاض قيمة العملة بـ80% عمّا كانت عليه في 2019، فإن الحد الأدنى لراتب الموظف التركي بلغ هذا العام ما يعادل 570 دولارًا، مقابل 123 دولارًا لنظيره المصري.
ربيع المبادئ
تغيرت الكثير من السياسات الخارجية والتحالفات الدولية للرئيس التركي رجب طيب إردوغان، بسبب هذا التضخم والأزمة الاقتصادية، وأيضًا انخفاض شعبيته الذي ظهر في خسارة حزبه الحاكم؛ العدالة والتنمية، الانتخابات المحلية الأخيرة أمام مرشحي حزب الشعب المعارض، وفي مقاعد مهمة ورمزية مثل رئاسة بلديتي أنقرة، العاصمة السياسية، وإسطنبول، حيث سطع نجم إردوغان حتى وصل إلى السلطة كرئيس وزراء أولًا، ثم كرئيس بعدما عدَّل الدستور لينقل صلاحيات رئيس الوزراء إليه، مستبدلًا النظام الرئاسي بالبرلماني!
لن تحصل مصر على الكثير اقتصاديًا أو تجاريًا من صلحها وكل اتفاقاتها مع رجب لأن أزمتها أصعب بكثير
وبالكاد فاز إردوغان في الانتخابات الرئاسية هذا العام، وبعد جولة إعادة حقق فيها 52% من الأصوات، مقابل 48% ذهبت لمنافسه رئيس حزب الشعب العلماني المعارض، وهو الحزب الذي يشن نوابه ورؤساء البلديات المنتمون له وصحفه وقنواته التليفزيونية المعارضة حملات انتقاد متواصلة ضد رئيس الجمهورية "الشعبوي" و"الإسلاموي"! لكنهم لم يشككوا في نزاهة الانتخابات.
قبل هذه الانتخابات بسنتين، كان رجب إردوغان مستعدًا للتصالح مع الجوار العربي المحافظ الذي تأزمت علاقته به لعقد، بسبب دعمه، وحزبه الإسلامي، للربيع العربي، حتى قبل أن يصل بالإسلاميين للحكم.
مصر التي أصبحت حليفة أقرب لتركيا بعدما فاز مرشح الإخوان المسلمين بالرئاسة، استقبل إردوغان وزير دفاعها في مايو/أيار 2013 ووقع معه اتفاقَ قرضٍ لشراء معدات عسكرية. لكنه فوجئ بعد شهرين بالوزير نفسه يلقي في التليفزيون بيان عزل الرئيس محمد مرسي.
بالتالي كانت هناك قطيعة سياسية استمرت عشر سنوات، شهدت سحب السفراء وتخفيض التمثيل الدبلوماسي، لم تمتد إلى التعاون التجاري والاقتصادي، حتى تغير الموقف وانتهى الخصام والصيام بين رجب وعبد الفتاح.
بدأها رجب، عندما كان مأزومًا سياسيًا واقتصاديًا بسحب استثمارات خليجية وغربية، ثم بالتوقف عن استخدام تعبير "انقلاب" لوصف ما شهدته مصر في 2013، منذ استخدمه للمرة الأخيرة عام 2019.
كانت تركيا حينها تعوّض بعض خسائرها من إجهاض الربيع العربي، بمساندتها لقطر دفاعيًا وتجاريًا خلال الحصار الرباعي الذي فرضه تحالف السعودية والبحرين والإمارات ومصر على الدوحة لثلاث سنوات، انتهت بمصالحة قمة العُلا الخليجية في الأسبوع الأول من 2021.
كما استغل إردوغان أزمة اغتيال وتقطيع الصحفي السعودي جمال خاشقجي في مقر القنصلية السعودية في إسطنبول عام 2018 في إصلاح علاقته بالرياض، عبر منح واستثمارات سعودية بلغت عشرة مليارات دولار، كانت كفيلة بإغلاق ملف القضية.
وبفضل المصالحات والوساطات القطرية-السعودية، التقى السيسي وإردوغان للمرة الأولى كرئيسين على هامش افتتاح مونديال 2022. بعدها ذابت الثلوج مع القاهرة، حتى هنأ الرئيس التركي نظيره المصري هاتفيًا على فوزه بفترة رئاسة ثالثة العام الماضي، في "انتخابات تاريخية"، نال فيها 89% من الأصوات، وحل بعده رئيس حزب "الشعب" أيضًا، ولكن المصري، وبنسبة 4.5%.
لم تتوقف المصالحة على تبادل السفراء بين القاهرة وأنقرة العام الماضي، بل امتدت للتبادل الدبلوماسي في مناطق النفوذ للجوار المصري: ليبيا، حيث رسم السيسي قبل أربع سنوات خطًا أحمر للقوات التركية وغيرها من مرتزقة استعانت بهم حكومة طرابلس في الغرب، ضد قوات الجنرال حفتر المدعوم إماراتيًا ومصريًا ومن ميليشيا فاجنر الروسية، ويسيطر على الشرق من بنغازي، في استثناءٍ عن العقيدة العسكرية المصرية بعدم الذهاب للقتال خارج الحدود، منذ عقدة اليمن في الستينيات.
اليوم، سمحت المصالحة أو التهدئة النسبية في ليبيا حتى الآن لتركيا بفتح قنصلية في بنغازي، ولمصر بإعادة سفيرها إلى العاصمة طرابلس.
خريف المصالح
رغم القطيعة السياسية بين البلدين، لعشر سنوات، لم تتوقف السياحة، التي شجعتها مصر بسماحها للأتراك بالدخول بلا تأشيرة مسبقة ولم تطلب المعاملة بالمثل، والتجارة، التي وصلت إلى 6.6 مليار دولار بنهاية العام الماضي.
لم تتأثر صادرات مصر لتركيا في هذه الفترة إلا بسبب الحرب في غزة، بعد توقف ضخ حقل غاز إسرائيلي كانت مصر تنتفع بشرائه لتسييله في دمياط وإدكو وبيع بعضه لتركيا بأكثر من مليار دولار سنويًا.
لكن رغم كثرة الاتفاقات التجارية التي سيوقعها الوفد الرسمي المصري الضخم الذي يصاحب الرئيس في تركيا؛ بنحو عشرة وزراء ومائة رجل أعمال، وتدشين مجلس التعاون الاستراتيجي، فإن التأثير الاقتصادي بعيد المدى والمنال، حيث يأمل في مضاعفة حجم التبادل التجاري خلال عشر سنوات.
أما الأهم لصانع القرار المصري، بخلفيته العسكرية، فهو التعاون العسكري في العتاد الذي قد يمتد للجنود خارج مصر في ليبيا، ولاحقًا في الصومال الذي سبقت مصرَ إليه بشهور قواتٌ تركية! كما مدت تركيا الجيش المصري بمسيرات بيرقدار، التي أثبتت فاعليتها في أوكرانيا وفي السودان، وإن بقي التعاون محدودًا مقارنة بمشروع للشراكة في التصنيع اتفقت عليه أنقرة مع الرياض.
رغم أن تصنيف مصر وتركيا واحد، كدول "غير حرة" حسب تقييم مؤسسة Freedom House الأمريكية السنوي للدول من حيث الحريات والحقوق السياسية لمواطنيها، فإن نسبة الحقوق والحريات تبلغ في تركيا 33%، أي الضعف تقريبًا مقارنة بمصر، حيث تبلغ النسبة 16%.
يركز إردوغان على مطاردة معارضيه "الانقلابيين" من أنصار فتح الله جولن في الخارج، ويستخدم أوراقه السياسية الدولية لتحقيق ذلك، مثل رفضه قبول عضوية السويد معه في الناتو حتى تطرد أو تسلم أنصاره المعارضين لديها، لكنه لا يمانع المعارضة السلمية في الداخل.
بالتالي، لم يكن صعبًا عليه وقف كل الأنشطة الإعلامية والسياسية لحلفائه السابقين من الإخوان المسلمين اللاجئين لبلده، بل ورحَّل بعضهم لمصر. وكلما ازداد "التعاون الاستراتيجي" بين البلدين ازداد تضييق تركيا على اللاجئين السياسيين وترحيل المدانين جنائيًا بأحكام نهائية من المصريين لديها.
وجدت مصر العجب العجاب في الاعتراف بحكمها، وفُرش لرئيس دولتها البساط الأحمر السلطاني ومن الحليف الأول لخصومه السياسيين. لكنها دون ذلك، لن تحصل على الكثير اقتصاديًا أو تجاريًا من صلحها وكل اتفاقاتها مع رجب، لأن أزمتها أصعب بكثير من أزمة تركيا، التي أنجزت الكثير للخروج منها، ولو بتقديم تنازلات سياسية والتخلي عن تحالفات أيديولوجية.
الفارق بين الطرفين، أن أحدهما لا يزال يواصل سياساته في بيع الأصول والاقتراض لتسديد الفوائد، والتكتم على نسب التضخم الكلي رغم وضوحها جلية؛ بينما اعترف الطرف الآخر ولو ضمنيًا بخطأ سياساته الاقتصادية والعقائدية السابقة، عبر التراجع عنها وبدء الإصلاح بشفافية في أرقام ونسب التضخم وسعر العملة.
يمكننا أن نفرح بحق بصيام ثم إفطار رجب، تمهيدًا لاستقبال رمضان والعيد، حين نجد في كل شارع مثل ما نجده في شوارع إسطنبول من محلات تغيير العملة، معلقة على نافذة كل منها لافتة مضيئة بأسعار شراء وبيع العملة المحلية بالعملات الصعبة، حيث يمكنك شراء أو بيع ما تريد حسب سعر السوق يومها.
هذا هو التعويم الذي يجعل من السهل لمحللين اقتصاديين توقع سعر الليرة التركية الواقعي والفعلي بعد خمس سنوات من الآن، والاستثمار والتخطيط بناء على ذلك. أما من لديهم وزراء يتحدثون عن "تصنيع الدولار"، فهؤلاء يجعلوننا نرى كل يوم العجب، دون حاجة إلى زيارة "رجب"!