وصل الرئيس عبد الفتاح السيسي العاصمة التركية أنقرة، اليوم، في زيارة تاريخية، هي الأولى منذ تنصيبه رئيسًا للمرة الأولى عام 2014، ليرد الزيارة التي أجراها نظيره التركي رجب طيب إردوغان إلى القاهرة، في فبراير/شباط الماضي، والتي أنهت عقدًا وأكثر من القطيعة الدبلوماسية، وأعادت رسم خريطة التوازنات في منطقة لا تخلو من الحرائق القائمة والكامنة.
ويعكس التحول الكبير في العلاقات الثنائية من العداء الصريح إلى التعاضد مدى تقاطع النفوذ وتشابك المصائر بين البلدين الكبيرين في المنطقة، فتركيا لاعب مهم في القضية الفلسطينية من خلال علاقاتها بإسرائيل والفصائل الفلسطينية، وكذلك مصر. وكلاهما لاعب مهم أيضًا في الصراع الليبي.
فرضت الجغرافيا البحرية على الدولتين مساحة مشتركة من المصالح الاقتصادية بحقول الغاز والاستكشافات في إقليم شرق المتوسط، حيث تتداخل المياه الإقليمية لتركيا واليونان وقبرص وإسرائيل ومصر. كما فجّر اتفاق ترسيم الحدود البحرية بين تركيا وليبيا في نوفمبر/تشرين الثاني 2019 خلافًا كبيرًا مع مصر، التي ردت عليه باتفاق مشابه مع إسرائيل وقبرص واليونان في أغسطس/آب 2020.
النصف الثاني من الصلح
إذا اعتبرنا أن زيارة إردوغان إلى القاهرة كانت الجزء الأول من الصلح، الذي أعقبه سلسلة من الاختبارات العملية والمناقشات والزيارات المتبادلة على مستوى الوزراء، ورجال الأعمال، فإن زيارة السيسي، اليوم، ستكون المتممة للصلح والمضي في تطبيع العلاقات واستعادة الثقة.
وتعد البوصلة الخليجية عاملًا مهمًا في رسم العلاقات بين مصر وتركيا. في 2017، شهد مجلس التعاون الخليجي انقسامًا بين أعضائه، حين أعلنت السعودية والإمارات والبحرين ومعهم مصر قطع العلاقات مع قطر بدعوى تمويلها لجماعات إرهابية والتدخل في شؤون دول المنطقة، فسارعت الأخيرة لطلب النجدة من تركيا التي أرسلت قوات عسكرية للدوحة، وسعت لتعويض النقص الحاد في إمدادات الغذاء الناتج عن المقاطعة الرباعية.
انهيار العملة المحلية وتفاقم الديون في البلدين حسما طريق الصلح
جاءت قمة العلا يناير/كانون الثاني 2021، ففتحت المصالحة الخليجية الباب أمام المهادنة المصرية التركية، وتلاها عدة محطات أبرزها المصافحة الشهيرة بين السيسي وإردوغان على هامش حفل افتتاح مونديال كرة القدم 2022 الذي استضافته قطر، ثم إعلان البلدين في يوليو/تموز الماضي، رفع العلاقات الدبلوماسية بينهما إلى مستوى السفراء.
ورغم جملة المتغيرات التي شجّعت الرئيسين على إعادة تصفير عداد العلاقات، فإن انهيار العملة المحلية مقابل الدولار وتفاقم أزمة الديون وتدهور الأوضاع الاقتصادية في البلدين كان العامل الحاسم، الذي أجبر السيسي وإردوغان على تجربة طريق الصلح.
ظلت قناة الاقتصاد مُحصنة من القطيعة طيلة 12 عامًا هي المسافة الزمنية بين الزيارة الأولى لإردوغان إلى القاهرة عقب فوز الإخواني مرسي بالانتخابات الرئاسية الأولى عقب ثورة يناير 2011، وبين زيارته الثانية للقاهرة الأولى في حقبة السيسي.
ويعكس استمرار التعاون الاقتصادي بين البلدين حتى في لحظات الخصام الأقصى تطرفًا القيمة الكبيرة التي يحظى بها عامل الاقتصاد في تحديد شكل علاقتهما، إذ تضاعف حتى بلغ 10 مليارات دولار العام الماضي، قادمًا من 4.2 مليارات دولار 2013، متجاهلًا تدهور العلاقات بين القاهرة وأنقرة.
شدد إردوغان خلال زياته للقاهرة على أهمية رفع حجم التبادل التجاري بين البلدين إلى 15 مليار دولار، وهو الهدف الذي سيجري ترجمته في صورة اتفاقات تجارية، واستخدام العملة المحلية في التجارة البينية لخفض الطلب على الدولار .
سلة هدايا الحلفاء فارغة
استنفدت تركيا النصف آسيوية النصف أوروبية، كل أوراق الضغط على الحلفاء والشركاء بحثًا عن حلٍ جذريٍ لأزمتها الاقتصادية، ولا تزال مساعيها لدخول الاتحاد الأوروبي مُعلَّقة بفعل الوقت والأزمات، للدرجة التي جعلت البلد العضو في حلف الناتو/شمال الأطلسي، الذي تقوده الولايات المتحدة وأوروبا، يختار ألَّا ينحاز لطرف على حساب الآخر في الحرب الروسية الأوكرانية، رغم دعم أمريكا وأوروبا لأوكرانيا بالمال والسلاح في مواجهة روسيا، باعتبارها معركة مصيرية.
انتهت هدايا الحلفاء واضطر البلدان للبحث عن الشراكات الاقتصادية والعسكرية
مساحة الوساطة والحياد التي انزوت فيها تركيا إزاء حرب روسيا/أوكرانيا، هي المساحة نفسها التي ساقت حسابات البراجماتية السياسية مصر إليها، فرغم أن واشنطن والقاهرة تجمعهما علاقات عسكرية وسياسية استراتيجية، كان من الصعب التضحية بتاريخ طويل من التعاون مع روسيا.
أثبتت التجربة العملية للرئيسين أنهما حليفان مهمان للقوى الكبرى في العالم، لكن نجدتهما حتى في أحلك الظروف ليست أولوية قصوى لتلك القوى، التي لا تزال تسعى للتعافي من آثار ثورات الربيع العربي وما تلاها من موجات نزوح، وما نتج عنها من صدامات عسكرية مباشرة أو عبر وسطاء، ثم جائحة كورونا في 2019، التي تسببت في ارتفاع معدلات التضخم، وصولًا لتوابع اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية في 2022.
أيقن السيسي وإردوغان أن زمن انتظار هدايا الحلفاء قد انتهى، وعليهما البحث عن حلول من خلال إعادة صياغة العلاقات والشراكات السياسية والاقتصادية والعسكرية.
ملف الإخوان يتراجع
كان ملف الحماية التركية لرموز من المعارضة المصرية في الخارج، ومن بينها قيادات جماعة الإخوان، أبرز الملفات الشائكة التي عرقلت جهود الصلح طوال السنوات العشر الماضية. لكن السلطات التركية ألجمت منابر الإخوان الإعلامية وفرضت قيودًا عليها، خاصة في تناولها للشأن المصري كقربان للصلح وحسن النوايا.
حرب غزة وتوترات البحر الأحمر ساهما في إتمام المصالحة
مع تآكل تنظيم الإخوان وهشاشته، جرت المياه بسلاسة في مسار العلاقات المصرية التركية، حسب الباحث المتخصص في الشأن التركي كرم سعيد، الذي يقول لـ المنصة، إن ملف الإخوان لم يعد ورقة ضغط أو مساومة على طاولة المباحثات الثنائية بين الجانبين.
ويضيف أن التقارب المصري التركي ينطلق من براجماتية سياسية واضحة لدى البلدين، وأن التطورات المتسارعة في المنطقة وأبرزها حرب غزة والتوترات في البحر الأحمر ساهمت في التعجيل بإتمام المصالحة، بينما يشير إلى الفرصة السانحة لتشكيل "تحالف سني" يُلجم النفوذ والتطلعات الإيرانية في المنطقة، ويخفض حدة التوتر ليتسنى للبلدين ومن ورائهما دول الخليج استكمال خطط التنمية والإصلاح الاقتصادي.
إطفاء نهائي لحرائق ليبيا
تعد ليبيا بقعة أساسية في مساحة تقاطع النفوذ بين مصر وتركيا، وشهدت محطات عدة من التنافر والتقارب، إلى أن وقعت تركيا مع حكومة الوفاق اتفاق ترسيم الحدود البحرية والتعاون الأمني في نوفمبر 2019، الذي كان نقطة فاصلة في تأجيج الصراع.
كان الاتفاق الأمني ذريعة لأنقرة لدعم القوات العسكرية التي تساند حكومة الوفاق في مواجهة جبهة خليفة حفتر الموالية لمصر، وأعقب ذلك التصريح الشهير للرئيس المصري في 20 يونيو/حزيران 2020 باعتبار خط سرت - الجفرة "خطًا أحمر" بالنسبة لمصر.
يرى سعيد أن التقارب المصري التركي يعني إطفاء حرائق ليبيا بشكل نهائي، وحث الفرقاء على تبني الحل السياسي، بما يضمن غلق الجبهة الغربية التي تؤرق مصر. ويهيئ إعادة الاستقرار في ليبيا الفرصة لمصر وتركيا لتوظيف خبراتهما في مجال إعادة الإعمار، بما يضمن تحسين الأوضاع الاقتصادية سريعًا.
كما يفتح التفاهم الثنائي الباب أمام إعادة النظر في اتفاقيات ترسيم الحدود التي عقدتها كل دولة بشكل منفرد، بما يضمن إعادة الهدوء إلى البحر المتوسط في مناطق تداخل النفوذ.
"الصومال" ملف جديد على الطاولة
لا يوجد أي عنصر جديد في الملفات الكبرى التي تتقاطع فيها العلاقات ونفوذ البلدين، مثل غزة وغاز شرق المتوسط وليبيا والسودان وسوريا، باستثناء الاهتمام المصري المتنامي بالقرن الإفريقي في إطار الضغط غير المباشر على إثيوبيا لحلحلة أزمة سد النهضة وإثنائها عن موقفها المتشدد.
قبل أيام أرسلت مصر طائرتين عسكريتين إلى الصومال، للمرة الأولى منذ أكثر من أربعة عقود، في ترجمة عملية لتصريحات السيسي، حين قال إن مصر تدعم الصومال وترفض التدخل في شؤونه والمساس بسيادته وإن الاتفاق بين أرض الصومال وإثيوبيا غير مقبول.
أما تركيا، فتملك أكبر قاعدة عسكرية في الصومال وتاريخًا طويلًا من الدعم الاجتماعي والأمني، ولا يمكن تصور أن التحركات العسكرية المصرية في الصومال تجري دون تنسيق وثيق مع الجانب التركي.
ومن المتوقع أن تشهد العلاقات بين البلدين مسارًا أوسع لتنفيذ ما جرى التوافق عليه خلال زيارة إردوغان للقاهرة، خاصة في ملف غزة.
ورغم التفاؤل والآمال الكبيرة المحيطة بمساعي الدولتين نحو التعاون وإعادة الاستقرار إلى المنطقة، تبقى النتائج النهائية معلقة بقدرتهما على بناء جسور الثقة، وجني أرباح سريعة من التنسيق المشترك تدفع في طريق الشراكة الاستراتيجية، إلى جانب القدرة الفردية والثنائية على المناورة وإدارة الضغوطات الإقليمية والدولية لأصحاب المصالح المتعارضة مع مصر وتركيا.