مصر أكبر ديموغرافيًا من تركها للانهيار، وأخطر جغرافيًا من تركها لأزماتها الطويلة؛ قد تحدد هذه العبارة رؤية الاتحاد الأوروبي لمصر التي يبدو أن معاناتها الاقتصادية ليست أزمةً مصريةً فقط.
استثمرت الحكومة المصرية في أزمتها المالية والاقتصادية الخانقة، معتمدة على ثقل مصر السياسي وضعفها الاقتصادي، لإقناع مزيد من الشركاء بالتدخل لمنع تدهور قد تكون له عواقب لن تقتصر آثارها على مصر وحدها.
ففي 17 مارس/آذار أعلن الرئيس عبد الفتاح السيسي انعقاد القمة المصرية الأوروبية بحضور كل من رئيسة المفوضية الأوروبية، أورسولا فون دير لاين، ورؤساء دول وحكومات قبرص وإيطاليا واليونان والنمسا، وتزامن هذا مع الإعلان عن اتفاق شامل لرفع مستوى العلاقات بين مصر والاتحاد الأوروبي إلى المستوى الاستراتيجي.
تحدد وثيقة الشراكة الاستراتيجية 8 مجالات للتعاون، هي: المحور السياسي ودعم التنمية السياسية، واستقرار الاقتصاد الكلي، والاستثمار الأوروبي في مصر، والتجارة وتعزيز التبادل بين مصر والاتحاد الأوروبي، وإدارة الموارد المائية، والهجرة، والأمن، وأخيرًا تحسين رأس المال البشري.
تدفق المهاجرين غير النظاميين من مصر دفع المسؤولين الأوروبيين للانتباه لخطورة الأزمة الاقتصادية
لم يقتصر التوقيع على تبادل الوعود السياسية للتعاون، لكن صحبته حزمة دعم اقتصادي بقيمة 7.4 مليارات يورو، حيث تتضمن تلك الشراكة، التي تمتد لثلاث سنوات، 5 مليارات يورو في شكل قروض ميسرة لدعم التغيرات الاقتصادية، و1.8 مليار يورو لدعم استثمارات القطاع الخاص، و600 مليون يورو في شكل منح، بما في ذلك 200 مليون يورو معدات لمراقبة السواحل والحد من الهجرة.
دلالات التوقيت وتلاقي المصالح
لم تكن الأزمة الاقتصادية المزمنة والحادة أزمة مصر وحدها، لكنها ألقت بظلالها الثقيلة على الساحل الأوروبي من البحر المتوسط؛ فمصر التي مثلت نموذجًا تفتخر به حكومتها بقدرتها على "تأمين" سواحلها ومنع كل قوارب الهجرة غير النظامية في مياهها منذ عام 2016، لم تستطع منع تدفقات مواطنيها لأوروبا، إذ دفع تزايد معدلات الفقر في مصر المزيد منهم إلى ركوب البحر عبر السواحل الليبية للوصول إلى الشمال في رحلة ذات اتجاه واحد.
تدفق المهاجرين غير النظاميين، من مصر في المقام الأول، دفع المسؤولين الأوروبيين إلى الانتباه لخطورة أزمة مصر الاقتصادية، حيث قال رئيس الوزراء اليوناني كيرياكوس ميتسوتاكيس "يجب أن نمنع فتح طرق هجرة جديدة وسنعمل بشكل وثيق للغاية مع مصر لضمان تحقيق ذلك".
أحصت المنظمة الدولية للهجرة ما يقرب من 22 ألف مهاجر مصري وصلوا أوروبا عام 2022، معظمهم عن طريق البحر، وهو ارتفاع ملحوظ عن السنوات السابقة. لتصعد مصر إلى قمة جدول الدول التي طلب مواطنوها اللجوء لأوروبا سنة 2022، متجاوزة بذلك أعداد المهاجرين من دول مزقتها الحروب.
ظهرت مصر المأزومة بكتلتها السكانية الكثيفة كقنبلة ديموغرافية يمتد خطرها لمحيط دول البحر المتوسط.
العصب المكشوف
تعد أزمة الهجرة عصب أوروبا المكشوف، فأدت موجات المهاجرين إلى ارتفاع معدلات عدم الرضا بين الناخبين الأوروبيين بسبب التخوفات الاقتصادية والثقافية والأمنية، ما دفع أحزاب اليمين القومي والعنصري إلى الواجهة في أكثر من بلد أوروبي.
في هذا الإطار ترغب أوروبا في تحقيق الأهداف التالية من خلال شراكتها الاستراتيجية مع مصر:
أولًا: تعد الكوارث والأزمات الاقتصادية أحد أسباب زيادة معدلات الهجرة غير النظامية، لذا كان احتواء مصر ومحاولة تفكيك قنبلتها الديموغرافية أحد أهم الأهداف.
ثانيًا: يود الأوروبيون تقديم نماذج نجاح لشركائهم، بجنوب المتوسط، في منع تدفق المهاجرين، من خلال الشراكة مع مصر، لتتحول إلى نموذج دائم وقابل للتكرار بطول الساحل الجنوبي.
ثالثًا: يرغب الأوروبيون في إقناع مصر بتحمل "كوتة" كبيرة من اللاجئين والمهاجرين، عبر مساعدات وإغراءات مالية، وهو ما ظهر بوضوح في أحد المحاور الثمانية التي تقوم عليها الشراكة، وهو محور الهجرة.
أصبحت مصر المثقلة بأعباء تدفق نازحين من السودان واليمن وسوريا وغيرها من بؤر النزاع مرشحة لتحمل مزيد من الأعباء لتخفيف الحمل عن أوروبا. وتعهد الاتحاد الأوروبي بمساعدة مصر لاستضافة أكثر من 460 ألف لاجئ سوداني فروا من الحرب الأهلية في البلاد منذ أبريل/نيسان من العام الماضي.
غزة شبح يلوح في الأفق
ربما تكشف توقيتات الاتفاقات عن أهداف خفية لها. فنحن بصدد اتفاق تم توقيعه وسط مخاوف من هجوم إسرائيلي وشيك على رفح، مما قد يجبر مئات الآلاف من الفلسطينيين على دخول شبه جزيرة سيناء.
رغم أن التصريحات المشتركة بين الطرفين ترفض الهجوم الإسرائيلي على رفح، فالمخاوف تتزايد من أن يكون الاتفاق محاولة أوروبية لإغراء مصر ماليًا للقبول بتدفقات لاجئين من غزة، خاصة في ظل مطالب إسرائيلية سابقة من قادة الاتحاد الأوروبي بممارسة ضغوط على مصر للقبول بالفلسطينيين الفارين من المذابح الإسرائيلية.
تُظهر التصريحات المصرية الرسمية رفضًا قاطعًا لتوطين الفلسطينيين في سيناء لأسباب ليست كلها اقتصادية، لكن لسبب سياسي أهم للرأي العام المصري، وهو منع تصفية القضية الفلسطينية. لذا، فإن أي قبول للنظام المصري بتوطين الفلسطينيين في سيناء ستكون له تكلفة سياسية كبيرة؛ سينظر له الرأي العام المصري والعربي على أنه تواطؤ ضد القضية.
لا يمكن القفز لاستنتاج مغرٍ؛ أن النظام المصري وقَّع اتفاقية الشراكة استجابة لمحاولة التأثير عليه في قضية غزة لتغيير موقفه الرافض استقبال اللاجئين، حيث لم تظهر أي بوادر تفيد بذلك إلى الآن، لكن هناك تخوفات مشروعة مصدرها رغبة قادة أوروبيين في تحقيق الأهداف الإسرائيلية، وتوقيت الاتفاق وكذلك الأزمة الاقتصادية، التي ربما تضع النظام المصري في موقف يجعله عرضة للاستجابة للابتزاز والضغوط الخارجية، مما يجعل شبح غزة يظهر بقوة في الخلفية.
حقوق الإنسان ضحية السياسة
للاتحاد الأوروبي تاريخ في المطالبات الديباجية والخطابية من دول جنوب المتوسط بتحقيق إصلاح سياسي يعزز حقوق الإنسان والديمقراطية. بعض هذه المطالبات كانت في شكل مساعدات مشروطة بتحقيق تقدم في مجالات التنمية السياسية والديمقراطية. إلا أن الهوس بقضايا الهجرة أدى إلى تراجع المشروطية الأوروبية التي تربط التعاون بالديمقراطية.
ورغم تزايد الاتهامات من مؤسسات أوروبية، بما فيها البرلمان الأوروبي، بتمويل الموجة الاستبدادية المضادة للربيع العربي، فإن الاتحاد الأوروبي، المدفوع برغباته في تحقيق المصالح المباشرة وقصيرة المدى، استمر في نهجه القائم على إرضاء جماعات حقوقية بصياغة مزيد من الديباجات الخطابية عن الإصلاح السياسي ودعم الديمقراطية وحقوق الإنسان، تحتل البنود الأولى من أي اتفاقية مع دول جنوب المتوسط، على ألا تتجاوز هذه المطالبات حد الأوراق التي كُتبت فيها.
في الاختيارات البراجماتية بين حقوق الإنسان والمصالح السياسية، الأقوى يفوز دائمًا، وهو المصالح السياسية لا القيم. ولا تبدو اتفاقية الشراكة الاستراتيجية مع مصر استثناءً.