منشور
الأحد 3 ديسمبر 2023
- آخر تحديث
الثلاثاء 5 ديسمبر 2023
في مارس/آذار 2008، ألقت أنجيلا ميركل خطابًا أمام الكنيست بمناسبة الذكرى الستين لتأسيس الدولة الإسرائيلية. أعلنت أن الدعم لإسرائيل هو سبب وجود الجمهورية الاتحادية الألمانية أو ما أسمته بالألمانية Staatsräson أي "سبب الدولة"، وهو ما تم تقديمه عقيدةً للسياسة الخارجية الألمانية.
يبدو التصريح صادمًا حتى لأغلبية المواطنين الألمان أنفسهم، الذين لا يشاركون السيدة ميركل ولا خليفتها أولاف شولتز أن سبب اجتماعهم السياسي والقومي هو حماية دولة أجنبية، أيًا ما كانت.
ما لبثت أحداث 7 أكتوبر أن اندلعت حتى أعلنت ألمانيا أنها ستجمد تمويلها لوكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا). وتحت تأثير النموذج الألماني اتخذ الاتحاد الأوروبي وسويسرا خطوات مماثلة لتجميد التمويل لعدة منظمات غير ربحية فلسطينية، بما في ذلك الأونروا.
تبدو عقيدة "سبب الدولة" عابرة للطيف السياسي الألماني، فقد انتقد ماتياس دوبفنر، الرئيس التنفيذي للشركة التي تمتلك صحيفة بيلد، الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو جوتيريش، والناشطة من أجل البيئة السويدية جريتا ثونبرج، لدعمهما حق الفلسطينيين في الحياة قائلًا إنه عندما يتعلق الأمر بدعم إسرائيل "ليس ثمة نعم، ولكن".
يشير دوبنفنز إلى أن دعم إسرائيل يجب أن يكون أعمى وأخرس، لا يشترط ولا يطلب ولا ينتقد. كما أن نائب المستشار الألماني، روبرت هابيك، وهو أحد أبرز الشخصيات في حزب الخضر، اتهم المتظاهرين ضد إسرائيل بالتحول ضد قيم ألمانيا وتبني "سردية المقاومة الكبيرة". ينظر هابيك إلى أن أي دعوة لمقاومة أي فعل إسرائيلي هو أمر مخالف للقيم الألمانية، ودعا هابيك الشرطة للتصدي بقوة للمتظاهرين، حتى وإن أدى الأمر للترحيل القسري.
قدمت صحيفة "بيلد" الألمانية تغطية مصورة لتبادل الأسرى بين الفلسطينيين والإسرائيليين في صورتين متقابلين؛ الأولى ملائكية تُظهر عائلة إسرائيلية التئم شملها بعد عودة أفرادها من الأسر، مع تعليق "آباء إسرائيليون يحتضنون في سلام أبناءهم المفرج عنهم".
في عالم أكثر عدالة ربما كان ذلك الخطاب ليُعد جريمة كراهية مبنية على العرق والخلفية القومية
أما المشهد المعاكس فكان النقيض الضروري لتجسيد الشر في مشهد أقرب لصراعات الخير والشر الكاريكاتيرية في خيالات المؤلفين محدودي الموهبة. حيث قدمت "بيلد" صورة شيطانية مقابلة لمحتفلين فلسطينيين بخروج أسراهم تحت عنوان "الإفراج عن إرهابي فلسطيني"، وكان تعليق الصحيفة أن الفارق كبير.
في عالم أكثر عدالة ربما كان ذلك الخطاب ليُعد جريمة كراهية مبنية على العرق والخلفية القومية، ولكن نشره في صحيفة معروفة مثل "بيلد" ومروره دون حتى تعقيب يعني أن هناك شيئًا ما عفن في النخب الألمانية، وأن ألمانيا تواجه أزمة معقدة.
يبدو الموضوع أكثر تعقيدًا من إجابة عقدة الذنب لدى ألمانيا تجاه اليهود، الموضوع قد تجاوز الذنب الأول تجاه اليهود ليهيئ العقل الجمعي لذنب آخر تجاه العرب، بما في ذلك تنميطهم وشيطنتهم وتنكيل الشرطة بالمقيمين منهم إن لزم الأمر، كما دعا نائب المستشار الألماني. وبينما يشيطن طرف وتُنزع الإنسانية عنه في خطاب إعلامي وسياسي معلن، يُقدَّس طرف آخر ويُحصَّن ضد أي نقد.
تعاني ألمانيا وعدة دول أوروبية أخرى، لكن تبقى ألمانيا النموذج الأشهر، مما يمكن أن نسميه عقدة "الاستعمارية المكبوتة"، أي روح استعمارية لا تستطيع التعبير عن نفسها ولا الظهور الفج للعلن بسبب تقلبات الزمن أو هزيمة استعمارية سابقة. روح تتحين الفرصة لكي تطل برأسها في أزمات صراع الفقراء المقموعين مع الأغنياء المستعمرين.
صراعات من يملك القوة مع من لا يملكها، هي الروح نفسها التي ترى الإرهابي في سياقات معينة. فالإرهابي دائمًا وفقًا لتلك السياقات هو من لا يملك دبابة حديثة أو طائرة متطورة أو قوة عسكرية منظمة، حتى لو كان يدافع عن أرضه المحتلة وفقًا لقرار الأمم المتحدة. أو يدافع عن حقه في الحياة ذاتها دون أن يخنقه حصار مزمن لا طريق مأمون للخروج منه.
هزيمة ألمانيا المذلة في الحرب العالمية الثانية قمعتها بشدة، لكنها تظل شبحًا يظهر في خلفية الصورة
لم تتخلص الثقافة السياسية الألمانية من المرجعية العدوانية التي شكلت جزءًا من التأسيس الأول للوحدة الألمانية التي نشأت سنة 1871 على يد المستشار المؤسس أوتوفون بسمارك على مبادئ سمّاها "الدم والحديد"، وهي اللبنات العدوانية الأولى التي قامت عليها ألمانيا.
غير أن تلك الأسس هُزمت هزيمة كبيرة في الحرب العالمية الثانية، حين توجهت إلى أوروبيين آخرين، ومنعت خروج هذه الروح علانية، لكن أثرها ومحاولاتها للخروج ظلا مستمرين في صورة أكثر أمانًا وأقل خطرًا. لذا فإنها تستغل فرص الظهور السهل منخفض التكلفة. ولا أسهل من حفلات الدم الفلسطيني التي تقيمها الروح الاستعمارية النشطة لإسرائيل كل فترة، فيتجاوز الأمر الإحساس بالذنب إلى التحالف الضروري للأطراف؛ تحالف استعماريات قديمة مع استعمارية جديدة يدعم بعضه البعض.
تبدو الأزمة لدى النخب الألمانية أكبر من مجرد عقدة الذنب، وبينما لا يمكن إنكار الذنب المتمثل في المحرقة الألمانية إبان الحرب العالمية الثانية، التي كان أكثر ضحاياها من اليهود وشعوب الروما (الغجر)، فإن الذنب وحده لا يمكنه تفسير كل هذه العدوانية.
أزمة غزة تمثل فرصة للطبقة الحاكمة في ألمانيا (وربما أوروبا) للتعبير عن الذات الاستعمارية المكبوتة والروح العدوانية المقموعة؛ تلك الروح التي أسست الدولة نفسها في الحالة الألمانية منذ الوحدة الأولى (1871) أو ما يعرف بالرايخ الثاني.
هزيمة ألمانيا المذلة في الحرب العالمية الثانية قمعتها بشدة، لكنها تظل شبحًا يظهر في خلفية الصورة ينتظر فرصة ليطل برأسه من حين لآخر. تبدو بعض الأمم مخلصة لجذورها الأولى، حتى لو راكمت فوق هذه الجذور طبقات تاريخية من الهزائم الكبرى والتغييرات الجبرية، لكنها سرعان ما تعود مخلصةً لسيرتها الأولى كلما واتتها الفرص.