يجلس دانيل كولمان، البريطاني المقيم في مصر على المقهى المفضل له في وسط البلد بالقاهرة، لا يُبدي حماسًا لانتخابات مجلس العموم البريطاني التي تنعقد اليوم وتشتد فيها المنافسة بين حزب العمال والمحافظين.
"الوضع السياسي في بريطانيا الآن كئيب للغاية" يقول كولمان الذي يعمل في الاتحاد الأوروبي بالقاهرة لـ المنصة، معتبرًا أن حزبيّ العمال والمحافظين ما هما إلا وجهان لعملة واحدة.
وفقًا للسفارة البريطانية بالقاهرة يقدَّر عدد البريطانيين المقيمين في مصر بنحو 25 ألف شخص. ويحق للمقيمين خارج بريطانيا التصويت عن طريق البريد أو من خلال التفويض، لكن كولمان يساري الميول لن يصوت لحزب العمال رغم أنه الأقرب لاتجاهاته.
أيد زعيم العمال قطع المياه والكهرباء عن أهالي غزة
"بكل بساطة، لا أستطيع أن أدعم حزب العمال، لأن زعيمه كير ستارمر فشل في الدعوة إلى وقف إطلاق النار في غزة، ولم يدعم حق الفلسطينيين في تقرير المصير"، ينتقد كولمان أداء بريطانيا في الملفات الخارجية "سياستنا الخارجية تُصاغ في واشنطن، نحن نتبع الأمريكان في كل الفظائع التي يرتكبونها في العالم".
يتأثر قطاع من البريطانيين المقيمين في مصر بالوضع في فلسطين، والعدوان والحرب على غزة التي تبعد عن محل إقامتهم في القاهرة بنحو 300 كيلومتر.
وتشير استطلاعات الرأي إلى أن حزب العمال قد يحقق فوزًا كاسحًا بعد 14 عامًا من حكم المحافظين شهدت أزمات وفضائح متتالية. ومن المتوقع عودة حزب العمال إلى السلطة بقيادة زعيمه كير ستارمر، المحامي السابق في مجال حقوق الإنسان.
رفض كولمان لحزب العمال نتيجة موقفه من غزة ليس مفاجأة، فمع استمرار الحرب، ودعم الحكومة البريطانية لإسرائيل، تجلّت في الأسابيع الأخيرة مخاوف من أن يخسر حزب العمال بعض أنصاره، خاصة من المسلمين والعرب بسبب موقف كير ستارمر من الحرب، الذي سبق وأيد قطع إسرائيل المياه والكهرباء عن غزة.
العمال يفقد أصوات اليسار ويقترب من النيوليبرالية
فيما تشير استطلاعات الرأي إلى تأييد الناخبين البريطانيين من العرب والمسلمين لحزب العمال من أجل بريطانيا الذي يتزعمه السياسي البريطاني جورج جالاوي.
في مصر، لم يكن كولمان البريطاني الوحيد الذي فقد ثقته في حزب العمال أثناء هذه الانتخابات. لوسي جورمان(*)، التي عاشت في مصر لمدة سنتين وتعمل باحثة في مجال الهجرة، تشارك كولمان نفس مشاعر الإحباط الشديد واليأس.
تشرح جورمان لـ المنصة أن حزب العمال ابتعد عن اليسار واقترب من السياسة النيوليبرالية واليمنية، تقول "تستند حملتهم الانتخابية إلى سياسات عدائية ضد المهاجرين، ولا تقدم حلًا للأزمة الاقتصادية المستعصية في بريطانيا، بعد سنوات طويلة من سياسة التقشف والدمار الاقتصادي تحت حكم المحافظين".
يبدو أن الحرب على غزة ودعم حزب العمال لإسرائيل أدى لتراجع تأييده وسط اليسار البريطاني. لذا قررت جورمان عدم التصويت لحزب العمال بسبب موقف ستارمر تجاه غزة "يدعم إسرائيل قلبًا وقالبًا" حسب قولها.
أمام الضغوط السياسية على حزب العمال والمظاهرات الأسبوعية في بريطانيا، أعلن حزب العمال في البيان الانتخابي أن السلام والأمن في الشرق الأوسط من أولويات الحزب، وأكد دعمه لوقف إطلاق النار في غزة وتأييد القانون الدولي في المنطقة وحق تقرير المصير للفلسطينيين.
كابوس المحافظين يثير مخاوف البريطانيين
لم يكن بيان الحزب كافيًا لإقناع اليائسين من موقف ستارمر. تقول جورمان التي صوتت لحزب الخضر "لا أثق بستارمر في قيادة حزب يؤيد فلسطين، فحتى الاعتراف بدولة فلسطين قد يكون بلا معنى إذا ما زالوا يدعمون نظامًا يرتكب جرائم حرب ضد الفلسطينيين".
جاك كروس، الذي يعمل في مصر بمجال الزراعة منذ ثلاثة أشهر، يتخذ موقفًا مؤيدًا لحزب العمال "موقف ستارمر من الحرب في غزة أكثر توازنًا مقارنة بموقف ريشي سوناك". يتوقع أن يعيد حزب العمال الاستقرار إلى البلد الذي يعاني من أزمات اقتصادية متتالية في ظل حكم المحافظين، معتبرًا أن "الفترة التي عشناها تحت حكم المحافظين كانت كابوسًا، واتسمت بسلسلة من الفضائح والمطبات".
بجانب الوضع الاقتصادي والحرب في غزة، التي دخلت في شهرها التاسع، يشير جوناثون هارنس، الذي يعيش في مصر منذ 8 سنوات، إلى أزمات الاغتراب والهجرة لدى قطاع من المواطنين المقيمين خارج بريطانيا.
"أشعر بالاغتراب عن السياسة البريطانية. كلما عدت إلى بلدي أحس بهذه الفجوة ما بين أفكاري فيما يتعلق بالهجرة وأفكار المجتمع البريطاني عمومًا"، يقول هارنس الذي يعمل باحثًا في مجال الهجرة وحقوق اللاجئين بالجامعة الأمريكية في القاهرة لـ المنصة.
يبدي هارنس مخاوفه من العنصرية تجاه المهاجرين في المجتمع البريطاني، يضيف "يرى البعض أن الهجرة سببت مشاكلنا، لكني شهدت في القاهرة واقعًا مختلفًا، المهاجرون مجرد ناس يسعون إلى لقمة عيش وحياة أكثر استقرارًا"، لذا قرر عدم التصويت في هذه الانتخابات، لغربته عن بريطانيا وشعوره بالاغتراب عن مجتمعه وأفكاره.
مخاوف على مستقبل حرية الرأي والتعبير في بريطانيا
"أدركت أننا نتمتع بامتياز نادر في بريطانيا، نستطيع التعبير عن آرائنا بحرية مطلقة"، تقول جين سميث(*)، التي جاءت إلى مصر عام 2022 لدراسة اللغة العربية.
تتمسك سميث بحقها في التصويت والاختيار، وتبدي مخاوف على مستقبل الديمقراطية في بريطانيا، وتصاعد الرقابة وتدهور حرية التعبير، خاصة بشأن قضية فلسطين، مشيرةً إلى حالات تعرضت للعقاب بعد التنديد بالمأساة في غزة، التي تجري أحداثها في منطقة ليست ببعيدة عن شقتها بالقاهرة.
في هذه الانتخابات، لم تكن الأوضاع الاقتصادية فقط العامل الوحيد لحسم خيارات الناخبين البريطانيين، بل يبدو أن الموقف من القضية الفلسطينية محرك لقراراتهم خاصة البريطانيين العرب والمسلمين وذوي الميول اليسارية، وأيضًا البريطانيين المتواجدين في مصر الأقرب جغرافيًا للكارثة الإنسانية في غزة.
يعتبر كولمان الذي لم يصوت في الانتخابات أن استمرار الحكومة البريطانية في دعم إسرائيل، سواء تحت سلطة حزب المحافظين أو حزب العمال يجعلها "متواطئة في أفظع جريمة في القرن الحادي والعشرين".