إذا كنت تعمل في بريطانيا وتحديدًا في القطاعات الخدمية، فما الذي يتعيّن عليك فعله عندما تكون الأسعار مرتفعةً وأجرك منخفضًا؟ إذا كانت الانتخابات العامة على الأبواب، بإمكانك التصويت لحزب المعارضة الرئيسي من أجل الإطاحة بحكومة الحزب الحاكم الحالية، ولكن من الأفضل أيضًا القيام بإضراب.
وفق هذه القاعدة البسيطة فهناك إضراب تقريبًا كل أسبوع، إن لم يكن أكثر، حيث تواجه بريطانيا حاليًا ما سماه بعض المعلقين في الإذاعات المحلية "شتاء الغضب". إضرابات العاملين في قطاع السكك الحديدية والمواصلات أصبحت معتادة. كما أن العاملين في نظام الرعاية الصحية الوطني خاضوا أكثر من إضراب ويستعدون للمزيد. وهناك إضرابات لأعضاء هيئات التدريس في الجامعات وإضرابات للمعلمين في المدارس والموظفين في إدارات وزارة العمل والمعاشات، والأزمة المعيشية تعد بالمزيد!
تخبرنا المؤشرات الاقتصادية بأن التضخم بشكل عام في بريطانيا بلغ 10.5%. أما التضخم في أسعار الغذاء تحديدًا فوصل إلى 16.4%. وهذه الأرقام تعتبر الأعلى منذ عقود. فخلال عام 2019 على سبيل المثال كان التضخم في بريطانيا 1.74% فقط! وفي عام 2020 بلغ أقل من واحد بالمئة؛ تحديدًا 0.99%!
كما أن الدين الحكومي ارتفع إلى 102.8% من الناتج المحلي الإجمالي، وهو ما يعني أن قدرة الحكومة الحالية على الإنفاق على الخدمات العامة تراجعت. بل إن قدرتها على رفع الأجور لتتماشى مع معدلات التضخم المرتفعة باتت محدودة، وهو ما يعني أن الفجوة بين الأجور والأسعار في ازدياد.
كمؤشر، فإن أجور البريطانيين في القطاع الحكومي زادت بوتيرة سنوية قدرها 4.2%، بينما زادت بنسبة 7.3% في القطاع الخاص. وإذا أخذنا متوسط زيادة الأجور فسوف تكون 6.7%، لكن عند تعديل الأرقام لمراعاة التضخم الذي بلغ 10.5%، فإن الأجور انخفضت بنسبة 2.5%، وبالطبع نسبة الانخفاض أكبر في وظائف القطاع الحكومي.
مع هذا الانخفاض الحقيقي في الأجور أصبح البريطانيون ينفقون أموالًا أقل على الاستهلاك، وبالطبع انعكس ذلك على مبيعات الشركات البريطانية التي تعيش أوقاتًا اقتصادية حرجة. كانت الشركات العاملة في مجال بيع الكهرباء والغاز للمنازل وشركات النفط هي الاستثناء، حيث حققت أرباحًا قياسية، ربما أحدثها ما أعلنته شركة Centrica المالكة لشركة British Gas عن تحقيقها أرباحًا بلغت 3.3 مليار جنيه إسترليني لعام 2022، وهو أكثر بثلاثة أضعاف مما حققته في العام السابق وبلغ 948 مليون جنيه إسترليني!
البريكست.. الفيل في الغرفة!
أسباب المشاكل الاقتصادية الحالية التي تواجه بريطانيا يمكن تلخيصها في ثلاثة عناوين كبيرة هي: فترة الإغلاق التي واكبت انتشار فيروس كورونا، والآثار الاقتصادية للحرب الروسية في أوكرانيا وما رافق ذلك من رفع أسعار الطاقة، والتبعات الاقتصادية لخروج بريطانيا من السوق الأوروبية بعد انفصالها عن الاتحاد الأوروبي.
عملية خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي والمعروفة باسم البريكست، تسببت في أزمات متلاحقة لقطاعات الصناعة والتجارة البريطانية التي اعتمدت لعقود على السوق الأوروبية الموحدة، أو على اتفاقات التجارة الحرة للاتحاد الأوروبي مع القوى الصناعية الكبرى خارجه، مثل اليابان وكندا والمكسيك.
من الصعب مقارنة المعاناة الاقتصادية للبريطانيين بمعاناة المصريين فهناك فارق هائل في حجم وطبيعة الاقتصادين
الخروج من السوق الأوروبية الموحدة لم يؤثر فقط على التصدير لدول الاتحاد الأوروبي أو الاستيراد منه، ولكنه أثر أيضًا في الاستثمار الأجنبي في بريطانيا، الذي انخفض خوفًا من حالة عدم اليقين في حال الاقتصاد، في ظل تغير العلاقة مع دول الاتحاد وارتفاع تكلفة المعاملات التجارية مع السوق الأوروبية. وبالطبع أثر ذلك سلبًا في قيمة الجنيه الاسترليني ما فاقم من مشكلة التضخم بسبب ارتفاع تكلفة الاستيراد.
كما تم نقل العديد من الوظائف في الشركات والمصانع كانت تعتمد على التجارة مع الاتحاد الأوروبي إلى خارج المملكة المتحدة، وهو أمر له انعكاساته السلبية على نسب البطالة وإيرادات الضرائب.
أدت القنابل النووية الثلاث التي ضربت الاقتصاد البريطاني بالتزامن؛ أي كورونا وحرب أوكرانيا والبريكست، إلى مستويات مؤلمة من التضخم وتآكل القيمة الشرائية لأجور البريطانيين. في الوقت نفسه، تعاملت مع هذه القنابل طبقة سياسية متخبطة تسيطر على الحزبين الكبيرين: المحافظين والعمال. بالإضافة إلى رؤساء حكومات مغامرين مثل ديفيد كاميرون وبوريس جونسون، أو أصحاب مهارات ضعيفة في قيادة وزرائهم مثل تيريزا ماي وريشي سوناك، أو مستوى متواضع من الكفاءة مثل ليز تراس!
ورغم اهتراء الطبقة السياسية في بريطانيا حاليًا وعدم قدرة الحكومات المتعاقبة التي شكلها حزب المحافظين على مواجهات القنابل الاقتصادية الثلاث، فإن رد الفعل الشعبي كان التظاهر والإضراب، على أمل القدرة على تغيير الحزب الحاكم في الانتخابات العامة القادمة.
مصر وأزماتها..
من الصعب مقارنة المعاناة الاقتصادية للبريطانيين بمعاناة المصريين، فهناك فارق هائل في حجم وطبيعة الاقتصادين. لكن يمكن التوقف عند اشتراك الحالتين؛ البريطانية والمصرية، مع جميع دول العالم في سببين من الأسباب الثلاثة التي أدت إلى الأزمة وهي الجائحة والحرب الروسية في أوكرانيا. واشتراكهما سويًا في وجود سبب ثالث، يخص كل دولة منهما على حدة، وهو البريكست في الحالة البريطانية، وتراكم الديون وغياب الاستثمار وأزمة الدولار في الحالة المصرية.
وصل الدين الحكومي في مصر إلى نحو 88% من الناتج المحلي الإجمالي. وما يقال عن التضخم في بريطانيا يمكن أن يقال عن التضخم في مصر والذي أصبحت تقديراته متباينة، تبعًا لطريقة الحساب، التي يراد منها أحيانًا الهرب من الحقيقة المؤلمة، وهي أن ثروات المصريين باتت تتناقص بوتيرة أسرع من قدرتهم على تعويضها.
لكن المسألة الاقتصادية في مصر تبدو أعقد وأكثر صعوبة. فالاقتصاد يعاني من مستويات مرتفعة من الدين العام، بالإضافة إلى خفض العملة المحلية مرات عدة، مما أثر في القدرة الشرائية وفاقم مشاكل التضخم والبطالة. ولا تبدو الحكومة قادرة على جذب الاستثمارات الأجنبية أو وضع رؤية واضحة للمستقبل تكون قادرة على رفع قيمة العملة المحلية وصنع مستويات مستدامة من النمو الاقتصادي عبر الاستثمار الصناعي.
وفي ظل غياب أي آليات تسمح للمجتمع بتنظيم نفسه، إما بممارسة العمال حقهم في الإضراب عن العمل أو ممارسة الناخبين حقهم في التوجه إلى صناديق الاقتراع في انتخابات جديّة، يمكنهم من خلالهم التأثير في طبيعة وشكل النظام الحاكم أو ممارسة أي ضغط لتعديل سياساته، كما هو الحال في النموذج البريطاني الذي لا يعدم البدائل رغم أزمته، فإن أسئلة المستقبل في مصر ربما ستظل تائهة على المدى القريب.
لا يمكن اعتبار الأزمة الاقتصادية المؤلمة التي تمر بها مصر نهاية الطريق. سوف تمضي هذه الأزمة كما يمضي الوقت، لكن التكلفة الإنسانية والمجتمعية ستكون كبيرة وسوف تحتاج سنوات طويلة للإصلاح. إيقاف تدهور قيمة الجنيه المصري أمر شديد الأهمية لبدء طريق التعافي الاقتصادي، ولكنه لن يكون كافيًا دون تغيير جذري وحقيقي في الرؤية الاقتصادية، التي لا يمكنها أن تعتمد فقط على الاستثمار في الطرق والمدن الجديدة.