ليست رياضة الجولف من ضمن الأكثر شعبية على مستوى العالم، ومعروف أنها رياضة الأثرياء القادرين على دخول تلك الملاعب الشاسعة ذات المساحات الخضراء والأنهار والجداول المائية الصناعية، والعربات الصغيرة المخصصة للتنقل، ومعدات ممارسة اللعبة باهظة الثمن.
ولكن هذه الرياضة التي يعتبرها الكثيرون شديدة الملل، تحولت فجأة إلى قضية سياسية في الولايات المتحدة. وأكدت قدرة السخاء السعودي على تجاوز الاتهامات الموجهة لولي العهد محمد بن سلمان، باستخدام المال والرياضة لـ"غسل سمعته"، والتغاضي عن انتهاكاته الجسيمة لحقوق الإنسان، وعلى رأسها المسؤولية عن مقتل الصحفي جمال خاشقجي في مقر القنصلية السعودية في اسطنبول عام 2018، بعد إعلان صندوق الاستثمارات السعودي الاستحواذ على الاتحاد المنظم للعبة الجولف في الولايات المتحدة وعلى مستوى العالم، والمعروف بـ PGA Tour وتشكيل كيان جديد.
من النفط إلى الاستحواذ
ومن المعروف أن السعودية ودول خليجية أخرى، وتحديدًا قطر والإمارات، تسعى للترويج لنفسها وتغيير الصورة النمطية عنها في دول الغرب، من خلال التوسع في الاستثمار في تلك الدول في مختلف المجالات، ومن ضمنها الرياضة، وتحديدًا كرة القدم، نظرًا لما تتمتع به اللعبة من شعبية واسعة.
وبعد الاستحواذ وشراء فرق أوروبية عدة مهمة، مثل مانشيستر سيتي المملوك للإمارات منذ 2008 وباريس سان جيرمان المملوك لقطر منذ 2011، قررت السعودية الدخول بقوة إلى هذا السوق، ولكن ليس من خلال شراء فرق كرة القدم فقط مثل نيوكاسل يونايتد الإنجليزي، أو الفورميولا وان، ولكن كذلك من خلال رياضة الجولف، التي تحظى بشعبية كبيرة في الولايات المتحدة، ويمارسها أكثر من 25 مليون شخص هناك، من بين نحو 65 مليون على مستوى العالم، غالبيتهم في أمريكا الشمالية واليابان وأوروبا.
وكان ياسر الرميان، محافظ صندوق الاستثمارات السعودي الذي يدير استثمارات تقدر بـ 700 مليار دولار، والذي يمارس اللعبة ويحبها ومعروف أنه من الدائرة الضيقة المقربة من ولي العهد، استثمر مئات الملايين من الدولارات لإقامة بطولات منافسة لتلك التي ينظمها الـ PGA Tour الأمريكي، من خلال إنشاء دوري LIV Golf قبل عامين فقط.
وهو الأمر الذي تسبب في مشاكل قانونية بين الطرفين، واتهامات مريرة، بل وتهديدات من المسؤولين عن المؤسسة الأمريكية العريقة، التي يبلغ عمرها أكثر من مائة عام، بمعاقبة أي لاعبين مشهورين يشاركون في البطولات التي تنظمها السعودية وتقدم فيها جوائز مالية سخية.
ولكن إثر لقاء سري في مايو/أيار جمع بين جاي موناهان رئيس مجلس إدارة الـPGA Tour والرميان في مدينة فينيسيا الإيطالية، قرر الرجلان التخلي عن كل ما بينهما من خلافات وقضايا والسعي لتشكيل شركة جديدة ضخمة لتنظيم لعبة الجولف على مستوى العالم، وتنضم لها أيضًا شركة مواني دبي، التي تمول بطولة الجولف الأوروبية.
ووفقًا للصحف الأمريكية، وعد الرميان باستثمار ما قد يصل إلى مليار دولار في الكيان الجديد من أجل التوسع في نشر اللعبة، وزيادة عوائدها من البث والإعلانات وبيع الملابس والأجهزة المرتبطة بلعبة الجولف.
وتقول المواقع المتخصصة أن إيرادات الـPGA Tour في العام 2021 بلغت 1.5 مليار دولار، بينما بلغ المرتب السنوي لرئيس مجلس الإدارة في عام 2021 نحو 14 مليون دولار. وبرر موناهان تراجعه عن موقفه المعادي للشركة المنظمة لمسابقات الجولف السعودية، برغبته في التوسع في انتشار اللعبة، وتجنب التكاليف القضائية الباهظة، وكذلك الاعتراف ضمنيًا بعدم القدرة على المنافسة مع الإنفاق السعودي السخي من أجل اجتذاب نجوم هذه اللعبة على مستوى العالم.
كل مؤشرات التقارب لم تدفع أعضاء اللوبي التقدمي في الحزب الديمقراطي الأمريكي إلى التساهل مع صفقة الاستحواذ
لكن أبعاد الجدل الساخن الذي أثارته تلك الصفقة، ترتبط بالعلاقة المتوترة التي تربط بين الإدارة الأمريكية الحالية برئاسة جو بايدن والمملكة السعودية منذ وصوله للبيت الأبيض قبل عامين ونصف، على خلفية وعود انتخابية بالسعي لعزل ولي العهد محمد بن سلمان، وجعل السعودية دولة "منبوذة" بسبب الاتهامات الموجهة له بتوجيه الأمر المباشر لقتل خاشقجي في اسطنبول.
وفور تولي بايدن منصبه نشر تقريرًا سريًا أعدته وكالة المخابرات المركزية الأمريكية، أكد دور بن سلمان في قتل خاشقجي عبر إصدار توجيهات لمساعديه المقربين. كما ألغى بإيدن قرارًا أصدره سلفه دونالد ترامب باعتبار حكومة الحوثيين في اليمن كيانًا إرهابيًا، في إطار تعهده بالسعي لإنهاء الحرب التي بدأها بن سلمان في 2015، وتسببت في قتل الآف اليمنيين وأزمة إنسانية حادة.
غير أن بايدن اضطر للتراجع عن وعوده الانتخابية على إثر اندلاع الحرب بين روسيا وأوكرانيا في فبراير/شباط 2020، وقام بزيارة جدة قبل عام والتقى محمد بن سلمان، أملًا في قيام الرياض بزيادة إنتاجها من النفط لخفض سعره، وحرمان موسكو من مصدر مالي مهم لتمويل الحرب واقتصادها عمومًا.
الأعضاء التقدميون في الحزب الديمقراطي انتقدوا بشدة في الكونجرس ذلك اللقاء، واتهموا بايدن بالخضوع لنفوذ المال السعودي، بل والتغاضي عن استخفاف ولي العهد السعودي بطلباته وقيامه بتخفيض منتظم لإنتاج النفط.
ولكن بعد الإعلان في مارس/آذار الماضي عن الاتفاق بين المملكة السعودية وشركة بوينج على صفقة ضخمة بقيمة 35 مليار دولار لتوريد عدد كبير من الطائرات للمملكة، وزعم المسؤولون في إدارة بايدن أنهم أعادوا الدفء للعلاقات مع الرياض بسبب خشيتهم من تنامي علاقتها مع المنافس اللدود، الصين، تكثفت زيارات كبار المسؤولين الأمريكيين للرياض، بما في ذلك وزير الخارجية أنتوني بلينكن ومستشار الأمن القومي جيك سوليفان.
كل مؤشرات التقارب هذه لم تدفع أعضاء ما يعرف باللوبي التقدمي في الحزب الديمقراطي الأمريكي إلى التساهل مع صفقة الاستحواذ الجديدة على المؤسسة المنظمة للجولف في أمريكا، والزعم أنها أحد المؤسسات الوطنية التي لا يجب السماح ببيعها أو السيطرة عليها من الأجانب، وخاصة صندوق الاستثمارات السعودي، الذي يترأسه الرميان، الذي يرأس كذلك شركة أرامكو النفطية الضخمة، وكان له دور بارز في تنفيذ صفقة تملك نادي نيوكاسل يونايتد الإنجليزي.
ولقت تلك الصفقة، التي قُدرت بـ300 مليون إسترليني، معارضة مماثلة من رابطة الدوري الإنجليزي، ليس فقط بسبب مقتل خاشقجي، ولكن أيضًا لاعتراضات تخلت عنها قطر لاحقًا في ضوء اتهام الدوحة للرياض بسرقة بث قناة بي إن سبورت.
كما أن الرميان تربطه علاقة شخصية قوية بالرئيس الأمريكي السابق وعدو الديمقراطيين الأول، ترامب، الذي يمتلك بدوره استثمارات عدة في مجال رياضة الجولف في فلوريدا والعالم، والتقطت صورًا لهما وهما يلعبان معًا بينما يرتدي الرميان قبعة رأس تحمل شعار ترامب Make America Great Again الذي تحول لشعار لتيار اليمين في أمريكا عمومًا.
ومن ضمن الاتهامات الكثيرة التي يواجهها ترامب أن بعض زوار الولايات المتحدة من قادة العالم كانوا يقومون بالاستمتاع بملاعب الجولف التي يمتلكها أثناء توليه منصب الرئاسة، وهو كان ما يدر عليه أرباحًا مالية بالمخالفة للقوانين الأمريكية.
ودعا عضو مجلس الشيوخ عن الحزب الديمقراطي ريتشارد بلومنتال اللجنة الفرعية للتحقيقات لعقد جلسة استماع الإسبوع الماضي، 11 يوليو/تموز، لمناقشة الصفقة السعودية. كما دفع عدد من النواب الديمقراطيين في مجلس النواب بمشروع قانون يحرم اتحاد PGA Tour من صفة المنظمة غير الربحية وإعفاءه من الضرائب بعد الإعلان عن الصفقة الجديدة.
وقال بلومنتال في جلسة الاستماع الثلاثاء الماضي إن الصفقة تفوق في أهميتها لعبة الجولف نفسها، ووصفها بأنها "غسيل رياضي" للتغطية على "الفظائع السعودية" في مجال حقوق الإنسان.
وأضاف موجهًا حديثة لممثلي مجلس إدارة PGA Tour الذين حضروا جلسة الاستماع، بينما رفض الرميان الحضور، "الأموال هي سبب استسلامكم. الأمر يتعلق بالنفاق وكيف لكميات ضخمة من المال أن تغري المؤسسات والأفراد لخيانة مبادئهم، وربما تكشف انعدام المبادئ من الأساس. الأمر هنا يتعلق بالرياضات والمؤسسات الأخرى التي قد تسقط ضحية هي الأخرى، إذا سمح قادتها أن يتعلق الأمر بالمال فقط".
ولكن النواب الجمهوريين في مجلسي الشيوخ والنواب دعموا الصفقة، بينما توعد الديمقراطيون أنهم سيقومون بالضغط على وزارة العدل الأمريكية لوقفها عند إتمامها. ووسط هذه الخلافات الحادة، لا شك أن بن سلمان يبتسم منتشيًا، مدركًا أن جاذبية الأموال السعودية لا يمكن أن تُقاوَم، وستمرر الصفقة غالبًا، بل ربما تزداد قيمتها وتضم رياضات ومؤسسات أخرى في حال هزيمة بايدن في الانتخابات المقبلة، وعودة صديقه المقرب ترامب إلى البيت الأبيض.