الصلح خير قوم نتصالح.. دا الصلح خير
وانسى اللى كان بينا امبارح.. دا الصلح خير
ولا تعاتبنى ولا اعاتبك كتر العتاب مش فى الصالح
على وقع كلمات أغنية الصلح خير للمطربة نادية مصطفى، زار وزير الخارجية التركي القاهرة ليبحث تطبيع العلاقات بين الدولتين بعد قطيعة دامت عقدًا كاملًا، وسط توقعات بالإعلان عن عودة التمثيل الدبلوماسي المتبادل عقب لقاء مرتقب يجري الإعداد له بين الرئيسين السيسي وإردوغان، سيحدث في الغالب بعد الانتخابات الرئاسية التركية في مايو/آيار القادم.
وسبق تلك الزيارة اتفاق المملكة العربية السعودية وإيران على إعادة العلاقات الدبلوماسية المقطوعة بينهما منذ 2016.
ولم تكن 2022 لتنتهي قبل أن يتوجه السيسي في سبتمبر/أيلول الماضي إلى الدوحة في زيارة هي الأولى أيضًا من نوعها، وجاء كل هذا التطبيع على خلفية قمة العلا التي أنهت الانقسام بين دول مجلس التعاون الخليجي في مطلع 2021.
هذا بجانب توسيع مسار اتفاقات إبراهيم بين إسرائيل والإمارات والبحرين والمغرب والسودان، وعقد قمة النقب في مارس 2022 بمشاركة الأردن ومصر.
هناك رغبة في الوصول إلى الاستقرار والثبات الذي كان يوفره الحضور الأمريكي شبه الاستعماري في المنطقة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية
دور الخليج
ما الذي يجمع كل هذه المصالحات، بجانب حسن النية وصفاء المقصد والرغبة في نشر السلام بالطبع؟
إنه الخليج العربي ودوله، التي تحتل موضعًا مركزيًا في كل تلك الترتيبات الجديدة. ولا تبدو هذه الترتيبات متناسقة دائمًا، بل في بعض الأحيان تكون متضاربة وربما غير منطقية، ويحمل ذلك أكثر من دلالة.
من ناحية، فإن الدور السياسي للخليج العربي هو انعكاس للعلاقات الاقتصادية الرئيسية بين منطقتنا والعالم، والمتمثلة في إنتاج البترول والغاز الطبيعي وتصديره، وهو الدور الذي ازدادت أهميته مع الحرب في أوكرانيا، وكذلك تصدير ما يتراكم من فوائض دولارية إلى دول أخرى في المنطقة أو إلى أسواق المال العالمية.
ويهتم الخليج بالترتيبات التي تخص إيران ومصر وإسرائيل وتركيا، لأنها تمس ملفات إقليمية تتداخل مع أمنه ومصالحه، منها على سبيل المثال: حرب اليمن والتهديد الإيراني، ومحاولات استحضار إسرائيل لموازنته، والقاعدة التركية في قطر، والصراع الإيراني-الأمريكي على وفي العراق، والودائع الخليجية في بنوك مصر وتركيا المركزية، والأزمة المالية في لبنان.
أما الدلالة الأخرى، فهي استمرار الاضطراب والتشوش، والذي ينعكس على سرعة عقد وحل التحالفات والخصومات. هذه العلاقات المتذبذبة تعكس الرغبة في الوصول إلى الاستقرار والثبات الذي كان يوفره الحضور الأمريكي شبه الاستعماري في المنطقة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، والذي أخذ في التلاشي والتراجع منذ انسحاب أوباما من العراق في 2008.
ساهمت هذه الظروف في جعل أعداء الأمس القريب أصدقاء، وربما حلفاء، اليوم. تنطبق هذه المقولة على جميع بلدان المنطقة، ربما باستثناء إيران التي تعتبر أن لديها صراع وجودي مع إسرائيل، وفي هذا السياق رأينا العديد من دول الخليج تسعى لبناء علاقات جيدة مع البلدين العدوين أيديولجيًا؛ إيران وإسرائيل، في الوقت نفسه.
تعبَ الجميع
يكشف هذا عن دلالة ثالثة وهي أن الجميع قد تعب.
فبعد سنوات من السباق على محاولة ملء الفراغ الأمريكي المتزايد، من خلال إنشاء مناطق نفوذ إقليمية، وتوسع الخليج في هذا الدور في مواجهة ما مثلته الثورات العربية من تهديد لمصالحه، وما تلا هذه الثورات من صراعات أهلية وانهيار للدول الوطنية في اليمن وليبيا وسوريا والعراق، خرج الجميع تقريبًا صفر اليدين أو بمكاسب تتضاءل أمام التكلفة، مع إدراك متزايد لمحدودية ما هو متاح عسكريًا واقتصاديًا ودبلوماسيًا بل وأيديولوجيًا.
طموحات إردوغان في إنشاء إمبراطورية إقليمية تآكلت مع الضربات التي تلقتها تنظيمات الإخوان المسلمين في العالم العربي
النظام الإيراني في وضع أشد حرجًا داخليًا عما كان قبل عقد من الزمان، يواجه أزمة اقتصادية خانقة وأزمة شرعية وثورات شعبية متجددة، ورأي عام سلبي في العراق ولبنان.
وتركيا في أزمة اقتصادية مشابهة، وإن كانت أزمتها نابعة من أسباب مختلفة تمامًا، وعلى الصعيد الإقليمي أسفرت سياسة أنقرة طيلة العقد الماضي عن تزايد ما تراه تركيا خطرًا كرديًا ذا طابع إقليمي، يمتد من العراق وسوريا إلى إيران وتركيا ذاتها.
يمكن القول إن طموحات إردوغان في إنشاء إمبراطورية إقليمية تآكل مع الضربات التي تلقتها تنظيمات الإخوان المسلمين في العالم العربي، والتدخل الروسي في سوريا وتثبيت ما تبقى من نظام الأسد فيما تبقى من سوريا، وظهور الغاز في شرق المتوسط ومساعي أنقرة الحثيثة للاستفادة منه بأي ثمن سياسي، وأيديولوجي.
أما عن دول الخليج عامةً، فقد ظهرت محدودية قدراتها العسكرية في حسم الصراع في اليمن، وبالتبعية مع التهديدات الإيرانية الآتية من هناك، والتي استهدفت مرارًا مواقع بالغة الحساسية مثل مصافي نفط آرامكو ومطار أبو ظبي الدولي.
حتى إسرائيل، واحة الديمقراطية العنصرية الوحيدة في منطقتنا، تواجه أزمة سياسية داخلية غير مسبوقة في استقطابها وامتداداتها، وتصطدم طموحاتها في أن تصبح رمانة الميزان في نظام إقليمي يواجه إيران مع تناقضات المشروع الاستيطاني والإحلالي في مواجهة الفلسطينيين، وغياب أي عمق كما ظهر منذ انتفاضة حي الشيخ جراح العام الماضي، وحرب غزة القصيرة التي تبعتها، وتزايد نشاط المقاومة المسلحة في الضفة الغربية.
لا شك أن كل تهدئة وكل تقارب وكل فرصة تعاون بين القوى الإقليمية هو أمر إيجابي في منطقة صُنفت الأعلى من حيث تركز الصراعات المسلحة الدولية والأهلية في العالم في 2020. خاصة وأن المصالحات والتقاربات تأتي على خلفية تهدئة الأمور على الأرض في اليمن وسوريا وليبيا.
ثمار المصالحات
في حال ثبات هذه المصالحات في السنوات القادمة فسيكون لها تأثير اقتصادي من زاويتين: أولها أنها ستخلق قنوات جديدة لإعادة توزيع الريع النفطي داخل المنطقة. رأينا بالفعل تقاطر ودائع إماراتية وسعودية في البنك المركزي التركي، ووعود استثمارات قطرية لمصر.
وربما يمتد هذا، في حال التوصل لترتيبات أمنية مع إيران في منطقة الخليج العربي، إلى لبنان، بحيث تحظى ببعض الرعاية التي تنتشلها من أزمتها الاقتصادية الخانقة، خاصة وأن اتفاقها مع صندوق النقد يدور حول مبلغ محدود وهو ثلاثة مليارات دولار.
يمتد الأثر الاقتصادي إلى الملف الشائك لإعادة البناء في البلدان التي تضررت من سنوات الصراعات الأهلية، خاصة اليمن وسوريا، وبدرجة أقل ليبيا. ومن الصعب تصور مثل هذا الأمر بعيدًا عن ترتيبات إقليمية أمنية وسياسية من جهة، واقتصادية من جهة أخرى بخصوص توزيع عقود إعادة الإعمار (على سبيل المثال الدور المصري والتركي في أي عملية بناء منتظرة في ليبيا).
تستند كل هذه الآمال في نهاية المطاف على ثبات واستقرار هذه المصالحات كي تنتج أشكال التعاون المأمولة، وهو أمر يظل محل شكوك نتيجة أسباب عديدة ليس أقلها حضور قوى كبرى من خارج الإقليم يمكن لها أن تغير الواقع على الأرض بين ليلة وضحاها، خاصة الولايات المتحدة وروسيا.
علاوة على التناقض الأصيل داخل أي ترتيب سياسي وأمني يضم إيران وإسرائيل معًا في المدى المتوسط والبعيد، فضم واحدة يعني أن يكون التعاون موجهًا ضد الأخرى بشكل مباشر أو غير مباشر.
رغم هذا كله، فربما تكون موجة المصالحات الأخيرة بارقة أمل للمنطقة في سياق مظلم.