استقر، تقريبًا، ما يشبه الحقيقة: مصر أطول مستعمرة في التاريخ. احتلالات متصلة، منذ غزو الإسكندر عام 332 قبل الميلاد، حتى عام 1954، نهاية احتلال بريطاني بدأ عام 1882، وأخضع البلاد لاحتلال مزدوج، عسكري إنجليزي، وتركي يمنح الشرعية لأسرة محمد علي الحاكمة.
الواقعون تحت الاحتلال تضعف مقاومتهم؛ فيضطرون إلى تغيير دينهم ولغتهم وتقاليدهم وثقافتهم بما في ذلك الثياب والطرز المعمارية. وقد اضطرني المقال السابق، تشويم الصحافة المصرية، التوقف أمام محطة الخلجنة. الصواب أنها "مرحلة" تختلف عن عمليات التقليد للغالب. في القرن التاسع عشر سعى الخديو إسماعيل إلى جعل مصر قطعة من أوروبا، باريس تحديدًا.
النموذج المتفوق حضاريًا فتن الخديو. والآن يهبط الخيال السياسي الحاكم؛ فيحلم بمصر أقل من إمارة، قطعة من دبي. على عدة مستويات تجري عمليات الخلجنة. من بنايات عملاقة لا تناسب طبيعة أرض صحراوية واسعة يفضل استغلالها أفقيًا، إلى تغيير النسق العمراني للمدن وفي مقدمتها القاهرة، وتجريف تراث معماري بتسارع الراغب في تبديد ثروة أبيه قبل الشروق.
التشويم في الشام، واللبننة في لبنان، والخلجنة في الخليج، كلٌ في بيئته محمود. فيروز، مثلًا، لبننت أغنية محمد عبد الوهاب "خايف أقول اللي في قلبي"، "أنا زارني طيفك بمنامي قبل ما أحبك"، ولم تقل "في منامي". هل يصح لمطرب مصري أن يعيد الأغنية بالصيغة الفيروزية؟
في المعجم الوسيط: خَلَج الشيءُ: تحرّك واضطرب. وخلَج الشيءَ: جذبه وانتزعه. وخلَج في مشيته: تمايل وتخلَّع. وفي معجم المعاني: تخالجته الهموم: تجاذبته وتنازعته. وخلْجنت دولُ الخليج الوظائف: قصرتها على أهل الخليج دون غيرهم.
وفي مرحلة مبكرة، بدايات القرن العشرين، تسربت إلى الشعر المصري صور تكتنز تقاليد قبلية بدوية.
تشويم الصحافة سلوك اضطراري وفقًا للإدارة الشامية للصحف. لكنه في مصر تطوعي، يحترفه خِرَتية يرضون الزبون
في التغني بمصر تتحدث عن نفسها، تساءل حافظ إبراهيم "أَمِنَ العدل أنهم يَرِدون الماء صفوا وأن يكدّر وردي؟". تساؤل استنكاري لا يلائم بلدًا وهبه النيل؛ فلا يعرف التقاتل على عيون الماء. صورة مجلوبة من تراث الجزيرة، تذكّر بفخر عمرو بن كلثوم في معلقته "ونشرب إن وردنا الماء صفوًا ويشرب غيرنا كدرًا وطينًا".
تشويم الصحافة سلوك اضطراري وفقًا للإدارة الشامية للصحف والمواقع. لكنه في مصر تطوعي، نفعي، انتهازي يحترفه خِرَتية يرضون الزبون، تمهيدًا لتقليبه. التشويم كتابي نخبوي. والخلجنة شفاهية، تسري في المجال العام، وتنتشر عدواها من دون وعي، ولا تفكير في مقاومتها بعدم الاستعمال.
في "الأداء الوظيفي" والاستعمال اليومي للغة، يصرّ رجال الدين، وتابعوهم من البسطاء الطيبين، على تعطيش حرف الجيم، مهما يكن تنافر حروف الكلمة في النطق، مثل كلمة "الجيش". هي بالجيم المصرية أكثر صلابة، وتجسيدًا للمعنى، من "الچيش" بالتعطيش. يجري النيل من جنوب مصر إلى شمالها؛ فلا نَعْطش، ولا نُعطّش إلا ما يجب تعطيش جيمه تلقائيًا: چيهان، چورج، چوليا، چان، چيمي.
يحسب المشايخ أنهم يتقربون إلى الله بتجنب الجيم المصرية. للتعبد طرق لا تمرّ بكراهية الجيم، ولا التعالي على اللهجات المحلية. وهذا التشدد المتعمد يتبعه تبديل في التركيب الاستعمالي للكلام. أحلّوا "أتصل عليك، أرنّ عليك" مكان "أتصل بك، أرنّ لك". وكذلك "ربنا ييسر" بدلًا من "ربنا يسهل".
تأملتُ هذه الصيغة، ولم أعثر على ما يوجب تغييرها، فالمصريون يضيفون "تساهيل" إلى "ربنا". والتساهيل جمع تسهيل. ولا أعرف جمع تكسير لكلمة "تيسير"؛ لأضيفها إلى "ربنا". وحين ربط عبد الرحيم منصور بين الرزق والرزاق، كتب أغنية "تساهيل" لعفاف راضي. كما اُبتذل قسَم "بالله عليك" في السفاسف، مثل دعوتك إلى دخول المصعد؛ لأنك على اليمين.
أثمر التلاقح المصري العربي، وخصوصًا الخليجي، كثيرًا من الطيبات، باستثناء شيء من غلظة لغوية يحكمها قانون الغالب الثري. الغالب والمغلوب، في هذه الحالة، ينقصهما وعي بالتراث الإبداعي العربي؛ لتخفيف الاستحلاف الغليظ "بالله عليك"، إلا في ما يستدعي ذلك من عظائم الأمور.
يمكن اعتبار "ألف ليلة وليلة" مشتركًا يحق لأي طرف أن يدّعي امتلاكه. في حكاية "ضوء المكان مع الوقاد"، تخرج "نزهة الزمان" من الخان في القدس، لتشتري طعامًا لأخيها ضوء المكان. وتتذكر أهلها في بغداد، فتنشد:
أقسمت بالحب ما لي سلوة أبدا/ يمينُ أهل الهوى مبرورة القسم
يا ليلُ بلّغ رواة الحب عن خبري/ واشهد بعلمك أني فيك لم أنم
قسَمُ شهرزاد، الذي ترويه من شعر بهاء الدين زهير على لسان "نزهة الزمان"، بالحب، يمين أهل الهوى. قسمٌ مكروه في يقين سلفي يستحلفك "بالله عليك" أن تخرج من المصعد أولًا؛ لأنك تقف على اليمين. تنطّعٌ مصحوب غالبًا بابتسامة بلاستيكية توحي بأن القائل يريد أن يشركك معه في الفضائل.
من تلك الفضائل المزعومة طمس اسم المرأة لدى بقايا طبقة وسطى أصابها التشوه والضمور. اسم المرأة لديهم عورة؛ فتنادى باسم زوجها أو أحد أبنائها. بقايا هذه الطبقة يشمل قضاة وأطباء وأساتذة الجامعة ومحامين وصحفيين ومشتغلين بالفنون والثقافة. سلة تجمع متناقضات ومتناقضين من ضحايا التدهور السياسي والثقافي والتعليمي، والخلجنة، وما يسمى الإبداع النظيف.
خلفٌ استظهر الكتب المدرسية، والمذكّرات الجامعية الضامنة للنجاح لا الفهم. واستعار ثقافة لا يربطه بها تاريخ أو جغرافيا وأورثته استلابا طوعيًا، فلم يضايقه أن يجهل تاريخ أسلاف لم تخجلهم أسماء النساء. للخلجنة آثار وأعراض: رجالي قضى على صناعة الجلباب المصري، وبخاصة الإسكندراني ذو نصف الياقة، واُستبدل به جلباب تصنعه الصين للجزيرة العربية، ويشحنه العائدون، غير مبالين بكساد مهنة الترزي المصري. ونسوي يجعل المرأة مجرد "حُرمة".
وقبل التنطّع الحالي، ظلت نساء مصر "شقائق الرجال"، في البيوت والغيطان والمصانع الصغيرة. لا يخجلن من كشف وجوهن الحلوة التي ليست عورة. في الحجاز، فوجئت المصرية بنداء "يا حُرمة"، وإذا نوديت "يا مَـرَة" ستقوم الحرب.
اليوم الأربعاء عيد الأضحى. حتى في العيد الكبير "تتخالجنا الهموم". لا تندهش حين يهنّئك أحدهم برسالة ذات جذور تاريخية في الخليج "عساكم من عواده". سيكتبها بالحروف، أو يرسلها لوحة مكتوبة بخط الثلث المزخرف. لا تستغرب. يريد أن يقول لك "كل سنة وأنت طيب".
كل عام- ونحن المصريين- مصريون.