لم يتعرف صديقي على مقاله بعد تحريره، بالأحرى تشويمه. أنكره وتبرّأ منه. ذكّرني بمقالي تشويم الصحافة المصرية، وقلت له ما لم أذكره في المقال. في مراحل الضعف والهوان تتعدد مظاهر الاستلاب، ويزداد المتسولون واللصوص والمحتالون، والخرتية يوظفون مهاراتهم في القنص، من بوابة إبداء الإعجاب بمن صادفتهم حظوظ الثراء أو التفوق.
قلت لصديقي الغاضب من تشويم/ـه مقاله إن خِرَتي الثقافة ذكي، ينثر في بياض الصفحة مصطلحًا هنا وجملةً هناك. ثم يبدأ الكتابة، فيُدخِل هذا الفتات في نسيج الكلام؛ ويكتسب ثقة أولياء النعم. يرضون عنه؛ فيعهدون إليه بتعيينه في القاهرة مندوبًا، وكيلًا يتولى إنجاز التشهيلات، بدايةً من حمل الحقائب في المطار.
أنتظر باحثًا دؤوبًا يضع يده على أول استلاب ذهني؛ لأعرف ذلك المغفل الذي وضع سُنَّة غير حميدة شملت كلًا من يعقوب صنوع "موليير مصر"، وفاطمة رشدي "سارة برنار الشرق"، وعلي مصطفى مشرفة "أينشتاين العرب"، ويوسف إدريس "تشيخوف العرب"، وهند رستم "مارلين مونرو الشرق". أما "شارلي شابلن العرب" فاحتار بين محمود شكوكو وعبد المنعم إبراهيم. وحَلَا لعمر الشريف أن يُلقِّب صاحبه عبد الحليم حافظ بأنه فرانك سيناترا العرب.
لحسن الحظ اختفى هذا اللقب لطغيان حضور عبد الحليم. كما يستحيل مثلًا أن تُنسب أم كلثوم إلى أي مطربة في العالم. بل إن المطربة قمر الملوك (1905 ـ 1959) لُقِّبت بـ"أم كلثوم إيران".
أفخاخ لغوية
للأصل سلطة مرجعية، ويسهل تقصّي استنساخاته واستلهاماته. في ألف ليلة وليلة حكاية في صفحة واحدة، ألهمت باولو كويليو روايته الخيميائي. أصالة الكبرياء صاحبت التشكيلي المصري حامد عبد الله (1917 ـ 1985) حين عرض أعماله في باريس، واستقر هناك، والبعض أوعز إليه بأنَّ تجربته ستزداد ثراءً بالإفادة من فناني فرنسا.
قال الفنان المعتزّ بانتمائه إلى حضارة بهرت العالم بفنون النحت والتصوير إنه يريد أن يُعلَّم الفرنسيين الرسم. هذا معنى ربما غاب عن محمد العرابي وزير الخارجية المصري في التنازل عن لقب "الشقيقة الكبرى" المرتبط بمصر، بحكم عوامل متعددة، ليجامل به المملكة السعودية عام 2011. وفي عام 2014 كرره الرئيس المصري.
ففي مساء الجمعة، 20 يونيو/حزيران 2014، توقف الملك السعودي عبد الله في مطار القاهرة عائدًا من المغرب، فصعد إلى طائرته عبد الفتاح السيسي ورئيس الوزراء ووزير الدفاع. وصارت السعودية، في الخطاب الرسمي المصري، "الشقيقة الكبرى". مجاملة مبالغ فيها لمملكة لم تكن بلغت عامها التسعين.
سرى المصطلح، كما استقر غيره، بلؤمٍ لتزييف الوعي. فالإعلام العربي دأب على ترديد مصطلح "المجتمع الدولي"، والأدق أن يُقال الولايات المتحدة، ومعها أحيانًا أوروبا الغربية. أما هذه التسمية الضخمة فتستبعد القسم الأكبر من العالم، وتتجاهل نحو 88% من سكانه. قُل هذا أيضًا في ذيوع تعبير "الشرق الأوسط وشمال إفريقيا"، بدلًا من "العالم العربي".
بعد طوفان الأقصى ركز العدو والإعلام الغربي على "رهائن" تحتجزهم حماس. توارت الصفة الصهيونية لهؤلاء المجندين، وأُبرزت جنسياتهم الأصلية. الإعلام نفسه تجاهل الجنسية الأمريكية للشهيدة شيرين أبو عاقلة. ولا نملك الإرادة ولا القوة الإعلامية لنفرض على العالم مصطلح "الأسرى"؛ إذ كانوا يحملون السلاح، ويرتدون زيَّ جيش الاحتلال الإسرائيلي المسمى تضليلًا "جيش الدفاع".
تمارس اللغة سطوةً وفقًا لدراسات متعددة، لا لعواطف مسؤول. في كتابه السياسة وسلطة اللغة يذكر عبد السلام المسدي أنَّ الأمريكيين، بعد إعلان القبض على صدام حسين عام 2003، سموا العملية "الفَجر الأحمر"، وتبينت لهم الإشارة إلى معقل المقاومة في الفلوجة، فغيروا الاسم إلى "عملية الشبح الغاضب".
تم اصطياد رجل يتعذر على الأمريكيين، وعلى غيرهم، ذكر اسمه مجردًا. يسجل المسدي أنَّ بول بريمر الحاكم العسكري الأمريكي للعراق أعلن الخبر باستعمال ضمير الغائب؛ "لقد تمكنا منه". ثم تحدث عنه البيت الأبيض بوصفه "مجرم حرب"، فاعتمدت سلطتهم في بغداد هذه الصفة المثيرة للأسئلة: من سيحاكم مجرم الحرب؟ ومن أشعلها بجيوشه العابرة للقارات لغزو الآخر؟
وفي مطلع عام 2004 رفض المحامون العرب في القاهرة هذه الصفة، فلا هو أسير ولا مجرم حرب، بل مخطوف، "فارتبكت مرجعيات القانون الدولي؛ لأنَّ تلك الصفة تستتبع إقرارًا بحصول حادثة تصنف ضمن الإرهاب الدولي"، فتخلت أمريكا عن خيارها اللغوي السابق، وقالت إنه "أسير حرب". وتلك مخاطرة جديدة.
فهذه الصفة ترتبط باستحقاقات قانونية في فترات الحروب، ومنها إعفاءات ستستفيد منها شركات التأمين، تسمح لها بالتنصل من التزاماتها المترتبة على تفجيرات سبتمبر 2001. ومع بدء محاكمة صدام في قضية "الدجيل"، يفترض سقوط البدائل اللغوية الثلاثة، فلا هو مجرم حرب، ولا أسير حرب ولا مخطوف. كاد يسمى "الرئيس العراقي المخلوع"، أو "الديكتاتور السابق". الصفة الأخيرة ربما توحي بأنَّ الحاكم وقتها "ديكتاتور لاحق".
فقر الخيال في تطويع اللغة
بدا أنَّ "أفخاخ اللغة" تعبث بالسياسة، فبعد "جولات من مسرحيات المحاكمة"، تبيَّن للأمريكيين أنَّ صفة المخلوع تدين فعل الخلع، أي الخالع، "فلاذوا جميعًا بالوصف الطبيعي وهو الرئيس السابق". هذا الاستطراد تمهيد طويل للوصول إلى اسم "العاصمة الإدارية الجديدة" في مصر.
ليس هنا مجال الكلام عن شغف، أو مرض، الحكام في عصور الاضمحلال بأفعَل التفضيل، وحرص المماليك على الأبنية الصرحية. يمكن رصد آثار مملوكية حَلَا لأصحابها أن ينافسوا بها أسلافهم. كلامي الآن عن اللغة: فاسم العاصمة الإدارية الجديدة يوحي بوجود عاصمة إدارية قديمة. وبعيدًا عن صفة الجديدة التي لا لزوم لها، ألا تعني "العاصمة" أنها مركز "إدارة" الدولة؟
يذكرني هذا بالسيولة الإعلامية، المسيطر عليها، في التلويح بتفويض الرئيس بالحرب على الإرهاب، أو غير ذلك من مهام هي من مسؤولياته الدستورية، من دون الحاجة إلى استعراضات التفويض. وفي هذه العاصمة الجديدة أُعلن عن مبنى "الأوكتاجون" ثماني الأضلاع، بالمزايدة على البنتاجون الأمريكي الخماسي.
العلة في قمة التمثيلات العربية، ولا تخص دولة تبحث لمعالمها عن مرجعيات؛ فتستنسخ أسماء تضيف إليها صفة محلية. في مايو/أيار 2017 استضافت الرياض القمة العربية الإسلامية الأمريكية، وغاب عن أكثر من خمسين وفدًا أنَّ المدلول ينتمي إلى سياق حضاري ومعرفي وجغرافي لا يدل إلا عليه، ومن المعيب أن ينقلوا هذا الدال، بزهو، كأنهم اكتشفوا جديدًا.
عجزوا عن ابتكار اسم لحلف مفترض، فأسعفهم حلف تأسس في واشنطن، لضبط الإيقاع الدولي بعد الحرب العالمية الثانية، ثم ضُمت إسرائيل إلى عضويته. توكلوا على الله، وتبنوا مصطلح "الناتو العربي". وبعد الفرجة العربية على الإجرام الصهيوني في غزة، يمكن أن أقول: رحمه الله، المصطلح والحلف.
فقر الخيال يتجاوز اللغة إلى الاستظلال بالمتفوق. ينظم البعض مهرجانات وجوائز مضافة إلى "الأوسكار"، أوسكار الشرق الأوسط للدراما، أوسكار السينما المصرية، أوسكار السينما العربية، أوسكار المبدعين العرب. وللبحث عن مرجعية شواهد أبعد من هذا الصخب الاحتفالي، ألف الكاتب الأمريكي مايكل هارت كتاب الـ100 الأكثر تأثيرًا في التاريخ. والأكثر تأثيرًا قد يكون طاغيةً دمويًّا مثل ستالين وهتلر. ليس كل مؤثر عظيمًا.
لكنَّ أنيس منصور ترجم الكتاب، وشوَّهه بالتحريف، بداية من عنوانه الذي جعله الخالدون مائة أعظمهم محمد رسول الله، تزييف يرضي غرور المسلم الباحث عن صدق رسالة نبي يؤمن به، وتأكيد الإيمان لا يحتاج إلى مايكل هارت، ولا أيِّ مايكل.