أعلن مجمع اللغة العربية بالقاهرة عبر فيسبوك، أنه أجاز طلب عضوه، الدكتور محمد رجب الوزير، بتعريب كلمة "ترند"، وجمعها "ترندات". ويعني ذلك، فيما يعني، أن الكلمة صارت تقبل دخول "ال" التعريف عليها، وتنوينها وإعرابها بحركات الإعراب المعروفة!
عرٌف المجمع لفظة ترند بأنها دالة على "موضوع ساخن جديد يُثار على منصّات مواقع التواصل الاجتماعيّ، فينتشر بسرعة في فترة زمنية قصيرة، ويهتمُّ به الجمهورُ، ويتداولونه بالحديث فيه والتعليق عليه، ويتبادلون الأخبار عنه بكثرة".
بيّن المجمع، إجمالًا من غير تفاصيل، أن المناقشة كان بها اعتراض، وأن وجه الاعتراض كان عدم ورودها في المعاجم. لكن الرأي الذي انتصر رَأَى أن وجه الإجازة أن "التِّرِنْد كلمة معرَّبة عن الأصل الإنجليزي trend بمعنى اتِّجاه أو نَزْعة أو مَيْل أو موضة". ولا أعلم إذا كان سبق أن أجازوا تعريب "موضة" أم لا!
وبذلك، أصبح خبر التعريب هو "الترند" نفسه. واستقبل كثير من جمهور السوشيال ميديا هذا النبأ باستهجان يتراوح بين السخرية والجدية، وبين الاستغفار والحوقلة. وقليلون هم الذين ناقشوا الأمر مناقشة جادة، فاعترضوا، مثلًا، على تعجّل المجمع في إجازة التعريب قبل طرح بدائل عربية، ولو اشتقاقًا من أصل عربي معجمي.
خرّارات المعاجم ونوافير الحياة
قرأت ذات مرة أن أحد المستشرقين حين قابل الكاتب أحمد أمين، والد المفكر الاقتصادي جلال أمين، قال له بجدية واحترام؛ جئت أنهل من خرّارة علمكم!
ففي حدود معرفة ذلك المستشرق باللغة العربية من الكتب والمراجع والمعاجم، اجتهد أن يُشبَّه علم أحمد أمين بالنافورة الفياضة، لكنه استعمل الكلمة المُعْجمية الدالة على المعنى المقصود، فكان اختياره غير الموفق الذي يرتبط في اللسان الاجتماعي بالذمِّ والإساءة.
هل انتظر العربُ واضعي المعاجم كي يطمئنوا إلى فصاحة ما ينطقون؟
فإذا أخذنا صفَّ المعاجم ودافعنا عن فصاحة المستشرق الذي يعرف من أسرار اللغة ما يخفى على الناطقين بها، سنقول إن الناس مخطئون لأن ما يقصدونه هو "الخرّاءة" وليس "الخرّارة"، المشتقة من خرير الماء في الجداول. لكن عموم الناس سيعتبرون ما نقول ليس سوى نتاج من إنتاج الخرارة فعلًا، وليفهم كل مستمع معنى الخرارة كما يشاء!
أما إذا فكرنا بهدوء، وتساءلنا أيهما أسبق، اللغة المنطوقة أم المعاجم اللغوية؟ وهل انتظر العربُ واضعي المعاجم كي يطمئنوا إلى فصاحة ما ينطقون؟ أم أن واضعي المعاجم، بدءًا من معجم "العين" للخليل بن أحمد الفراهيدي، في القرن الثاني الهجري، حتى "تاج العروس" للزبيدي، في القرن الثاني عشر الهجري، قد جمعوا مواد مراجعهم مما ينطق الناس باللسان العربي؟
فإذا اشتهر "لسان العرب" لابن منظور باعتباره المعجم، بـ "ال" التعريف، فهل يغفل سلفيّو اللغة أن ابن منظور عاش بين القرنين السابع والثامن الهجريين؟ أو أنه قد عاش حياته في شمال إفريقيا وليس في الجزيرة العربية؟ أو أنه استقى مادة معجمه من خمسة مصادر سابقة عليه؟!
فإذا تتبعنا مصادر "لسان العرب" عند كلٍّ من أبي منصور الأزهري (تهذيب اللغة)، وابن سيده (المحكم والمحيط الأعظم في اللغة)، والجوهري (تاج اللغة وصحاح العربية)، وحواشي ابن بري على صحاح الجوهري، وابن الأثير (النهاية في غريب الحديث والأثر).. تساءلنا هل كان العرب الأقدمون الذين نزل القرآن بلسانهم في انتظار استئذان أي من هؤلاء كي يعرّبوا ما اقتبسوه من ألفاظ أعجمية؛ فارسية ورومية وحبشية وقبطية؟ ناهيك عن السريانية والآرامية والعبرية بالطبع!
الشعر ديوان العرب.. والديوانُ فارسيٌّ!
قالوا قديمًا، إن العرب لم يكن لهم ديوان يؤرخ لهم ولا شواهد معمارية حملت جدرانها آثارهم، لكنَّ الشعر كان، مجازًا، ديوان العرب؛ بمعنى أن أشعار العرب القدامى هي التي حفظت أيامهم وحوادثهم وحروبهم وصلحهم ومعاهداتهم وغدرهم وأخلاقهم وكرمهم وشجاعتهم وأنسابهم وغزلهم، إلى آخر فروع التأريخ الاجتماعي.
وحديثًا، نشبت معركة ضارية بين النقاد والأدباء حول بقاء الشعر ديوانًا للعرب أم أن الرواية حلت محلها فصارت ديوان العرب المعاصرين؟ ففي الرأي الجديد، نسبيًا، فإن الرواية العربية منذ توفيق الحكيم وطه حسين، ثم عميدها نجيب محفوظ، قد حلت محل الشعر في التوثيق الاجتماعي والإنساني للعرب في العصر الحديث، كما يرى جابر عصفور مثلًا.
وفي خضمِّ تلك المعركة المحتدمة، لم يتوقف أي من أطرافها أمام الأصل الفارسي لكلمة "ديوان" التي عرَّبها المسلمون وجعلوا جمعها "دواوين"، وأدخلوا عليها "ال" التعريف، وحركات الإعراب والتنوين، بل إنهم جعلوها دالة على مجموع قصائد الشاعر الواحد، وهو أغلى ما يعتز به العرب من إنتاج أدبي!
يُذكر من مناقب عمر بن الخطاب أنه أول من دوَّن الدواوين. أي أنه أول حاكم عربي اقتبس من الحضارة الفارسية فكرة الدواوين، أي سجلات الدولة، فقام بتعريبها لفظًا ومعنى، كمفهوم جديد على العرب، ولم يهتم بإيجاد بديل فصيح، رغم أن القرآن استعمل لفظة "السجل" في قوله "يوم نطوي السماء كطيِّ السجل للكتب"!
لكنَّ عمر بن الخطاب كان أكثر اتساقًا من فذلكة الانغلاق اللغوي على الجذور العربية، وتوليد مدلولات جديدة منها لمجرد الهروب من الاعتراف بأن المدلول الجديد مقتبس بالكامل من لغة وثقافة أخرى. فهل المسألة تدور حول ثقة المنتصر في نفسه الثقافية التي تجعله يأخذ ويقتبس من المهزوم ما لا يخشى من أثره في مجتمعه؟ وهل يخشى سلفيّو اللغة أن يكون الانفتاح اللغوي المعاصر هو انفتاح المهزوم المفتون بالقوي المتغلّب؟!
ذوْدًا عن فسطاط اللغة؟
ليست السلفية منهجًا فقهيًا أو عقائديًا فقط، بل طريقة تفكير تتراوح بين المحافظة والرجعية. وقد يكون السلفيُّ سلفيًا اجتماعيًا؛ بمعنى دفاعه عن عادات وأعراف لا يكترث لكونها حلالًا أو حرامًا، بل قد تثبت له بالدليل القاطع حرمتها الدينية. وقد يكون السلفيُّ أكاديميًا رافضًا التجديد في المناهج البحثية وطرق التدريس. ويكون، كذلك، لغويًا يرى في "كتاب" سيبويه، وألفية ابن مالك، و"دلائل الإعجاز"، و"أسرار البلاغة" لعبد القاهر الجرجاني كتبًا مقدسة منزهة عن النقد البشري أو الإضافة إليها.
ليتوقفوا عن لوم المجمع اللغوي في غير ذات ملامة، ولينقدوا، إن استطاعوا، الصحابة والعرب القدامى
فكأن السلفيين اللغويين قد ورثوا اللغة تامة كاملة لا تقبل الابتداع ولا الابتكار. وكأن أئمتها وعلماءها الأسبقين أنبياءٌ معصومون أو أنصافُ آلهة، لا يُترك من كلامهم ولا يُضاف إليه، بل يؤخذ ما قالوه كوحيٍ إلهيٍّ يجب الانصياع إليه. وكأنهم اقتبسوا من ثنائية الصراع المضطرد بين الحق والباطل في كل المجالات، بزعمهم، فكرة الفسطاطين؛ فسطاط الإيمان في مقابل فسطاط الكفر.
وكأن الجذور العربية، المجموعة من ألسنة العرب الأمّيّين في كتب ومراجع ومعاجم لاحقة، هي فسطاط الحقيقة. وكأن الكلمات الدخيلة، التي ينطقها العرب المعاصرون مقتبسين إياها من لغات أنتجت المعرفة والثقافة الراهنة، هي فسطاط الباطل الذي يغزونا في عقر فسطاطنا.
لكن فاتهم أن كلمة "فسطاط" نفسها، التي سُمّىَ بها معسكر القائد عمرو بن العاص وعاصمته العربية الأولى في مصر، ليست كلمة عربية، بل معربة من أصل أجنبي، بالضبط مثل كلمة "ترند". فليتوقفوا عن لوم المجمع اللغوي في غير ذات ملامة، ولينقدوا، إن استطاعوا، الصحابة والعرب القدامى الذين أدخلوا في اللغة التي نزل بها القرآن ما لم ينطق به أجدادهم!