في طفولتنا، وفي زمان يبدو غير الزمان، كانت مكتبات استعارة الكتب تملأ شوارع البلاد. من بينها مكتبتان في شارع بيتنا بأم درمان؛ تعلمنا منهما استعارة مغامرات أرسين لوبين وشرلوك هولمز، وقضايا هيركيول بوارو. ثم تدرجنا مع العمر، فقرأنا سلاسل دار العلم للملايين، فتعرفنا على نابليون والإسكندر الأكبر وكريستوفر كولومبوس. ثم اكتشفنا على الأرفف المكتظة بالكتب القديمة التي أغلبها بلا أغلفة، روايات ألبرتو مورافيا وعبد الحميد جودة السحار.
لم تستمر هذه الحياة طويلًا؛ ففي عام 1989 جاء الإسلاميون إلى السلطة على ظهر الدبابات. نفذوا انقلابًا عسكريًا على الحكومة المدنية المنتخبة، وأسقطوا النظام الديموقراطي ليؤسسوا "دولة المشروع الحضاري". كان أهم أهداف هذا المشروع هو "إعادة صياغة الإنسان السوداني". فأغلقت المكتبات العامة، وطُوردت الكتب والمجلات، ومُنعت الكثير من العناوين من دخول البلاد. حتى الكتب الشخصية التي يحملها المسافرون العائدون كانت تخضع للتفتيش في المطار، ويُصادر منها ما لا يعجب الأجهزة الأمنية.
وسط هذا الجو البوليسي المخيف بدأنا نبحث عن مكتبات بديلة عن تلك التي أغلقت. واحتاج الأمر بضع سنوات قبل أن نكتشف منجم الكتب المستعملة في ميدان البوستة في أم درمان. بعض مكتبات نجتْ بشكل ما من المصادرة والمطاردة. أغلبها تعرض كتبًا دينية أو مدرسية، لكن بين كل مكتبتين تختبئ مكتبة ثقافية تعرض كتبًا أدبيةً قديمةً.
وسطها، اكتشفت مكتبة تمدني بما أحب، لكن صاحبها لم يكن مجرد بائع كتب، بل شاب مثقف جاء إلى العاصمة من إقليم بعيد. كان هو من عرض عليَّ لأول مرة رواية صغيرة، بغلاف أحمر وأوراق اصفرَّ لونها لكاتب لم أعرفه من قبل.
كنت قصدته طالبًا تقاسيم الليل والنهار، الجزء الثالث من خماسية مدن الملح، لكنَّ مطاردَ كتبٍ آخرَ استعارها. فعرض صاحب المكتبة أن يعيرني رواية اسمها قصة موت معلن. لم أُبدِ حماسًا، فقرر صاحب المكتبة أن يغريني بصفقة لطيفة؛ سآخذ الرواية، وإذا لم تعجبني لن أدفع إيجارها، وسيعوضني بـ"التقاسيم" مجانًا عندما يعيدها المستعير.
كان عرضًا لا يمكن رفضه لمراهق يتعب لتدبر نفقات الكتب. فقررت المغامرة.
في طريق العودة إلى المنزل بدأت بتقليب الرواية قليلة الصفحات. فاختطفتني الجملة الأولى، وكانت تلك البداية مع جابرييل جارسيا ماركيز. أو جابو صاحب الحكايات.
دلفت إلى قصة سانتياجو نصّار. وفي المواصلات العامة بدأت أقرأ هذه القصة المجنونة، التي لا تشبه أي شيء قرأته من قبل. ولما نزلت في محطتي، ما استطعت أن أرفع عن الصفحات عيني. فمشيت في الشارع وأنا أقرأ بعين، وأنظر إلى الطريق بالأخرى. كان ذلك سحرًا، أو كالسحر.
في اليوم الثاني كنت أعود إلى مكتبة الاستعارة أحمل الرواية التي قرأتها مرتين ومعها مبلغ الإيجار
تسربَّت الحكاية صفحةً فصفحةً. وعرّفني ماركيز إلى عالم لم أتخيل أنه موجود، كلمة فكلمة.
لم أحتج أكثر من تلك الصفحات لأعلن ماركيز منذ ذلك اليوم، حتى لحظة كتابة هذه الكلمات، أهم من قرأت لهم.
عندما وصلت إلى صفحات النهاية، وجرى نصّار ليحتمي بمنزله، فأغلقت أمه الباب في وجهه وتركته لطعنات الأخوين فيكاريو، عرفت لأول مرة الشعور السحري الذي عبّرت عنه بعد سنوات الروائية المصرية منصورة عز الدين "تلك اللحظة السحرية التي تلتئم فيها الخيوط وتُسد فيها الثغرات كأنما من تلقاء نفسها".
كلُّ شيء يبدو مخططًا ليقود إلى هذه اللحظة العظيمة. كان ماركيز يجهز المسرح لهذا المشهد، ويجهز الجمهور الذي هو القارئ.. أنا. حدثٌ هنا، ومشهدٌ هناك، في سرد غير خطي، لكنه يقود للحظة ذروة عظيمة. يمشي نصّار مترنحًا، يمسك أمعاءه المندلقة من بطنه، ويعبر مطبخ الجيران. هذه الرجفة التي شعرت بها لم تكن إلا تحية لهذا المايسترو الذي صنع مقطوعة عذبة تدرجت بخفة حتى حملت القارئ إلى السماء.
وعند السطر الأخير من الرواية، كنت عرفت معنىً جديدًا لمتعة الأدب.
في اليوم الثاني كنت أعود إلى مكتبة الاستعارة، أحمل الرواية التي قرأتها مرتين، معها مبلغ الإيجار. ودون كثير كلام مدَّ لي صاحب المكتبة يده بـ مئة عام من العزلة. لم أجادل ولم أسأل. الآن بيننا تفاهم صامت. لقد عَلِم أنَّ السحر مسَّني. وعلمت أنَّ ذلك الرجل سيصبح صديقي. أعني جابو.
هذه الصداقة التي بدأت مصادفةً في النصف الأخير من التسعينيات لم تنقطع حتى برحيل جابو.
لم يهمني أنه لا يعرفني، ولم يعرف أننا أصدقاء. معرفتي أنا بذلك كانت كافية.
ربما لذلك شعرت بشيء من الإهانة لصديق عندما عرفت خبر صدور رواية نلتقي في أغسطس التي طلب جابو حرقها، لكنَّ ورثته قرروا نشرها. شعرت أنَّ هذه خطيئة في حق صديق، أن نتلصص على مسودات لم يحب أن يطلع عليها أحد. لم أعتبر ذلك حقًا أدبيًا للجمهور. أن يطلع حتى على مسودات ومخططات واحد من أهم الروائيين عبر التاريخ. شعرت أنَّ الأمر شخصي جدًا. وأنَّ أبناء صديقي لم يحترموا رغبته.
رحلة طويلة قضيتها مع جابو. سحرني بـ مئة عام من العزلة، وقصة موت معلن، والحب في زمن الكوليرا، وقصة بحار تحطمت سفينته، والقصة الحزينة لـ إرينديرا البريئة وجدتها القاسية، وهي إحدى روائع ماركيز المحذوفة من مئة عام من العزلة، لكنها نشرت منفصلة لاحقًا.
لم أحب الجنرال في متاهة، ولا ذكرى عاهراتي الحزانى. لكني أخفيت ذلك. واستغرقتني خريف البطريرك سنوات وقراءات لأحدد موقفي منها. كانت رواية مرهقة، وكنت قررت ألَّا أجهد نفسي معها، حتى قرأت لجابو تصريحًا حزينًا عن صعوبة الرواية التي منعت كثيرين من تقديرها. ففكرت أن صديقي يستحق هذه المحاولة. فألزمت نفسي بها حتى وقعت عندي موقعًا أفضل بعد قراءات عديدة.
كان جابو ساحرًا. قدم المتعة لصبي في بلاد بعيدة تقع شمال شرق إفريقيا.
وكان صديقي. لكنه لم يعرف ذلك.