في البدء كانت الحكاية.
هكذا يمكننا وضع أيدينا على طرف الخيط.
في البدء كانت الحكاية، ومعها جاءت المتعة.
حسب الحكاء العظيم جابرييل جارسيا ماركيز، فإنَّ مهنة رواية القصص إذا ما قورنت بمهن أخرى مثل السباكة والخياطة والطبابة، ستبدو أقلَّ فائدة للناس. لكنَّ ماركيز العظيم نفسه هو من تمنى لو كان شاعرًا عربيًا يتنقَّل بين القرى ليحكي الحكايات للناس، فإن أعجبتهم دفعوا له نقودًا أو مات من الجوع.
في البدء كانت الحكاية، ثم هذبتها المتعة. وضع الإنسان الحكايات لتفسير قوى الطبيعة وتخيُّل مقامات الآلهة وحفظ سير الأبطال. لم يكن مهمًا أن تكون هذه الحكايات منطقية أو حقيقية، يكفي أنها ممتعة، وأنها كانت تحفّز الخيال.
ربما من المهم هنا أن نحيي هوميروس، مؤلف ملحمتي الإلياذة والأوديسة. لكن يُقال إنَّ الرجل نفسه مجرد حكاية ممتعة عن حكّاء أعمى ماهر يحكي حكايات مذهلة. هكذا نعرف أنَّ الفرق بين الحقيقة والخيال ليس مهمًا. إنما المهم كيف يتلقى الناس حكايتك.
منذ ابتدع الإنسان العاقل الحكاية، ظلّت سلطة المتلقين هي الأعلى، أو للدقة "هي الوحيدة والمطلقة". فهم من يملكون، حسب قول ماركيز الذي سبق الاستشهاد به، أن يطعموك ليلتك هذه، وإلا تنفق جوعًا. لكنَّ الحياة لم يكن ممكنًا أن تستمر بهذه البساطة. يحب الإنسان أن يبتدع التعقيدات. لذلك مع تحوّل مهنة الحكي التي يمارسها الجدّات وسحرة القبيلة والحلاقون الثرثارون إلى مهنة احترافية، لم يكن هناك بدٌّ من مزيد من التعقيد.
كاتب بين سلطتين
قطع الإنسان مسافة طويلة منذ وقوف الشاعر في سوق عكاظ ليقال إنه "أشعر الناس"، حتى لحظتنا هذه، اللحظة التي ينتظر فيها المتلقي قوائم الجوائز ليحدد ماذا سيقرأ. أو ربما، لبعض الناس، ماذا سيحب عندما يقرأ.
البعد عن الجائزة علامة سمو.. والحصول عليها إشباع نزعة
لا يختلف ذلك كثيرًا عن تعيين شاعر البلاط الذي يملأ السلطان فمه ذهبًا. ربما هي "ديموقراطية الحداثة"، أو مقاومة الملل، ما جعلت المنصب متاحًا لشخص جديد كل عام. لم يعد المزاج يتقبل وجود شخص واحد يحتكر "الأفضلية" دون تغيير. أو هي نزعة سلطوية، أن يكون هناك من يخبر الناس ماذا يحبون. أو هي تطور لراكب منتصف الليل بول ريفيير الذي دخل القرى الأمريكية صارخًا "البريطانيون قادمون".
كان مجرد فارس وحيد يلفت الأنظار. ربما أصبح ذلك الفارس "لجنة" مهمتها لفت الأنظار إلى بعض الأعمال التي قد تكون جيدة. ربما أيضًا، ولهذا الرأي أميل، هي إشباع لحوجة الإنسان الغريزية للتقدير. أن يُقال لك "أحسنت". على هذا يربينا المجتمع منذ كان المعلم يمنحنا درجات أفضل من غيرنا على التهذيب وتغليف الكراسات وحُسن المظهر.
ربما هكذا نكون وضعنا أيدينا على نقطة أخرى من الخيط. شهوتا التنافس والتقدير.
لسبب ما يحتاج الإنسان، هذا الكائن المعقد، للتطمينات والضمانات أنه جيد بقدرٍ ما فيما يفعل. لكن ألا تكفي تطمينات القارئ؟
يشعر المرء بثقة أكبر عندما تأتي التطمينات من "سلطة" ما. فالمبدع بقدر ما يحمل من نرجسية المُنشِئ، فهو يحمل هشاشة المُنشَأ. لذلك قد لا تكفيه عبارة "الأكثر مبيعًا"، فيسعى لـ"الرواية الفائزة بجائزة كذا".
دعنا نورد مثالًا لذلك؛ يعرف الجميع الشاعر العظيم أحمد بن الحسين، الذي عُرِف بالمتنبي. كان الرجل ممتلئًا بالنرجسية الكافية ليرى أنَّ شعره يشغل الخلق حتى يسهر جراه ويختصم. لكنه كان هشًا لدرجة طلب اعتراف السلطة بجودة ما يقول في شكل جائزة هي الحكم.
هكذا، بتفسير الرغبة في التفوق على الأقران ونزعة الحصول على التقدير، يمكن أن نفهم لماذا يكره بعض الناس الجوائز، ويحبونها في الوقت نفسه. فالبعد عنها علامة سمو، والحصول عليها إشباع نزعة. فبين رهبة ورغبة يجلسون.
الآن، بوجود الجوائز، يبدو كما لو أنَّ سلطة المتلقين لم تعد مطلقة، بل أصبح هناك من يوجهها، حتى إن لم يتحكم بها، فهو يملك وضع علامات على طريقها. لذلك إن لم تنجح العلامات في جذب المتلقين فهي قد فشلت في تحقيق هدفها الوجودي الوحيد. وتصبح حينها مجرد وهم فلسفي مثل صوت الشجرة التي تسقط في غابة ليس فيها كائن حي.
إن نال هذه جاع لتلك.. وإن ملك تلك ظمئ لهذه
العلامات التي لا تدل متلقيًا على الطريق يصعب إثبات وجودها، كصوت لم يسمعه أحد. لذلك تصرخ الأغلفة للمتلقين بعبارة "الرواية الفائزة بجائزة كذا"، لأنَّ ذلك سبب وجودها. هكذا تُشبع رغبة المبدع في التقدير والاعتراف. ويحصل على "تكريسه". ويضع الملك سيفه على كتفه ويقول له "انهض، أنت فارس.. أو فائز".
لذلك، وبدون اعتراف المتلقين، لا تصبح للجائزة أي سلطة. أو هي ذات "سلطة غير كاملة". سلطة فشلت في الحصول على اعتراف المتلقين، فذبلت علاماتها على الأغلفة.
فالجائزة، أيُّ جائزة، لا تمنح وحدها خلودًا أو قيمةً، إنما تنتظر دومًا التكريس الأكبر من سلطة القراء، المتلقين.
إرضاء شهوة الحكاء
بهذا لا يدور الإنسان في تعقيداته فقط في دائرة مغلقة تنطلق من رضا المتلقي، ولا تنتهي عنده أيضًا، إنما يخلق تهديدًا جديدًا ينبغي الحذر منه. ألا وهو مصير شاعرنا سالف الذكر المتنبي، الذي شُغل بالحصول على الجائزة حتى قتلته، فيما خلدته سلطة المتلقين التي لم تشبع غريزته. فعاش بموهبته غير راضٍ، ومات بسببها غير عالمٍ أن العلامات شغلته عن حقيقة الطريق.
في البدء كانت الحكاية، ثم هذبتها المتعة، ثم رأى الإنسان أن يكافئ من يهبونه هذه المتعة. وهذا، فيما أرى، حقٌّ مشروع، ومقابل عادل، ويكفل للمتلقي ضمان إرضاء شهوة الحكاء فتستمر الحكاية. ربما لم تكن شهرزاد تجبر شهريار على أن يستبقيها ليلة أخرى بالفضول، بل كان هو من يحصل منها على حكاية جديدة مقابل جائزة، أن تعيش إلى الغد. هكذا تستمر الحكاية. لأنَّ الإنسان، مثل كلِّ الكائنات الأليفة التي يربيها، يحب أن يحصل على مكافأة.
لذلك، حتى الحكاء العظيم جابرييل جارسيا ماركيز الذي تمنى أن يكسب قوته من رضا واعتراف سلطة المتلقين أو يموت جوعًا، حصل على نوبل. لأنه لن تكون هناك سلطة تقدير كافية في هذه الدائرة. فالمبدع يحتاج لاعتراف المتلقين، وللجائزة لتدل المتلقين إليه؛ إن نال هذه جاع لتلك، وإن ملك تلك ظمئ لهذه.
هكذا، يمكن ألَّا نثقل على الجوائز بظننا أنها سلطة مغتصِبة. ربما أحسنت الجوائز صنعًا حين دلَّتنا على أعمال تستحق الانتباه والتقدير. وربما تفشل أحيانًا فلا تحقق غايتها.
لا تتعارض سلطة الجوائز، في تقديري، مع سلطة المتلقي وحريته في تذوق الإبداع. إنما هي محاولة للحصول على مصادقة هذه السلطة. فبدونها يفقد فعل "الحصول على جائزة" قيمته.
تحتاج الجوائز لمن يسمع، للمتلقي، الذي تدور كل هذه التعقيدات حول هدف وحيد يتعلق به. تقديم المتعة له في عمل فني بديع. وهذا الهدف ما يشبع في نفس المبدع ما تختص به طائفته دون بقية بني الإنسان. يشبع حوجة تقديم عمل ممتع. ظلَّ إشباع هذه الحوجة منذ بداية الحكاية الجائزة الأهم والأكثر عمقًا. جائزة أن تصنع المتعة. أن تحكي حكاية ممتعة.