باستثناء الإبداع، هل يقدم العرب الآن شيئًا مفيدًا إلى العالم؟ انسَ الغاز والنفط وبقية السلالة المدفونة من الثروات الموهوبة بمصادفات الطبيعة؛ فحمايتها واستثمارها محكومان بإرادة قوى تحكم المالك الاسمي، هذا الوكيل المحليُّ.
العرب لا يقدمون إلا الإبداع، وأقصد به الآداب والفنون. أما العلوم فسادتها هناك، في المركز، يقظون، يجيدون التقاط النابهين، واجتذابهم إلى جامعات ومعاهد علمية ومؤسسات صناعية تنفق على الموهوبين في العلوم وتستثمرهم. ثم يُصدِّر السادة إلينا ثمار معارفهم.
حتى الإبداع العربي يظلُّ حالات فردية غير دالة على تيار أو مشروع، نماذج قد يريدها الآخر نافذة يطلُّ منها على جغرافيا ملتهبة، ويفهم سيكولوجيا كتلة بشرية تتوسل باللغة؛ فتغنيها الأمجاد القديمة. بين هذه الحالات من يحلمون باعتراف، جائزة أو نشر غلاف كتاب، وغير ذلك من وسائل لا يعني الكاتب الغربي بصورتها المعكوسة.
غير مرئيين
لا أعرف عدد الكتب العربية المنشورة عن مدارس فلسفية ونقدية غربية، مثل المدرسة الشكلانية الروسية، ومدرسة فرانكفورت، وعن أعلام مثل: جيمس جويس وسلفادور دالي وفيديريكو فلليني وستانلي كوبريك، ومن الأحياء: فرانسيس فورد كوبولا ووودي آلن ومارتن سكورسيزي وستيفن سبيلبرج ومايكل مور ورومان بولانسكي.
هناك في أقصى جنوب القارة تخيل مانديلا عبد الناصر بعد تأميم القناة وشبَّ على أطراف أصابعه لعلَّ الزعيم يراه
هل يهتم أحد هؤلاء الأحياء الستة بدراسة عربية تنشر عنه، أو بكتاب مؤلف أو مترجم؟ ليس سلوكهم تعاليًا، لعله تشبّع من فوائض تحقُّق تتيحه المركزية الغربية التي لا تستفزنا، فنبدع بأكثر من بذخ اللغة الكريمة؛ ففي مقابل الاستشراق نخترع مصطلح الاستغراب، مهما يكن الافتقار إلى رصيد يدل على هذا الاستغراب. وأظن أن الغرب يستغرب هذا الاستغراب. والأهم عندنا هو التنابز باللغة.
نَشْرُ مقالٍ عن كاتب مصري أو عربي في صحيفة أمريكية أو أوروبية، ولو في ليختنشتاين، يُستقبَل، وهو حدث محدود، كأنه نصر من الله وفتح مبين، وبداية عظيمة لمسار الأدب المصري. أشياء من هذا القبيل تحظى بهذا الاستقبال نفسه، حين يُنشر نص إبداعي عربي في دورية أجنبية، أو يشارك فيلم في مهرجان كبير، حتى لو كان الهدف منه استدلال باحث متخصص في القراءة الثقافية للمجتمع، وتحولاته وتفاعلاته مع السلطة.
يحدث أن يكتب ناقد عن عمل إبداعي مصري، ويحدث أن يستشهد أكاديمي ضمن ما يستشهد بنص مصري، ونكتشف أن هذا الناقد وذاك الباحث من أصول مصرية، لكننا في النشوة نتعمد إخفاء هذه الصفة، ضمانًا لنقاء الجدارة باعتراف خواجة لم يكن يرانا، فنحن غير مرئيين ما لم نسهم في الإنجاز العلمي الإنساني.
في سيرته رحلتي الفكرية، يذكر عبد الوهاب المسيري أنه كان في الولايات المتحدة حين وقعت هزيمة يونيو 1967، "وقد احتفل الإعلام الأمريكي احتفالًا هستيريًا بالانتصار الإسرائيلي"، ولم يأبه للمهزومين، فلا شأن للمركز بضحايا في الأطراف.
لم يقل المسيري إنهم اعتبروا الجيش الصهيوني صورة عصرية من جيش كولومبس وأسلافه، وهم يستولون على أرض صار اسمها الولايات المتحدة، ويبيدون سكانها الأصليين، ويسمونهم الهنود الحمر، ولم يكونوا هنودًا ولا حمرًا.
نحن، تقريبًا، غير مرئيين. في أكتوبر/تشرين الأول 2014 فاز الفرنسي باتريك موديانو بجائزة نوبل، وفي الشهر نفسه أعدتُ نشر روايته شارع الحوانيت المعتمة في سلسلة "روايات الهلال"، وكانت منشورة سابقًا في السلسلة نفسها. صدرت الطبعة الجديدة بمقدمة طلبتُ إلى الدكتور بدر الدين عرودكي كتابتها. ولم يتصل موديانو ولا وكيله الأدبي للمطالبة بالحقوق؛ فنحن غير مرئيين.
وفي الهلال أيضًا واجهتُ مشكلة عطّلت نشر رواية مهمة، عنوانها زوجة الساحر، صدرت عام 1997، وهي آخر ما نشره الكاتب برايان مور (1921ـ 1999). ولم يفلح المترجم هشام ممدوح طه في الاتصال بالناشر لاستئذانه في النشر، أو النقاش في حقوق الملكية الفكرية. قررتُ نشرها، وقدّرت أن الناشر سيعلم، ثم نسوّي مسألة حقوق الترجمة. ولم يتصل بنا أحد، لا الناشر ولا ورثة الكاتب في الولايات المتحدة أو بريطانيا. نحن غير مرئيين.
وتكرر السلوك نفسه مع نشر رواية في عشق جيفارا للكاتبة الكوبية آنا ميناندس، فنحن غير مرئيين.
يرانا الغلابة أمثالنا، هؤلاء الغلابة فقط. ومِن هؤلاء الذين يشبهوننا الكاتب الهندي الكبير بيرومبادافام سري دهاران، مؤلف رواية مثل ترنيمة. كلّفني حفظ اسمه أسبوعًا من التدريب، ولم يكلف مؤسسة دار الهلال شيئًا. طلب الكاتب خمس نسخ من الطبعة العربية، أرسلها إليه الشاعر محمد عيد إبراهيم مترجم الرواية.
كنا مرئيين حين كنا مُلهِمين، تأميم قناة السويس ألهم كاسترو وجيفارا ورفاقهما. قالوا إن النصر ممكن. وفي 1990 جاء نيلسون مانديلا إلى مصر، وحرص على زيارة قبر جمال عبد الناصر، كلاهما ولد عام 1918. وفي احتفال كبير أقامته جامعة القاهرة لمنح مانديلا الدكتوراه الفخرية، قال إنه بعد صعود الدور المصري في دعم حركات التحرر، كان هناك في أقصى جنوب القارة يتخيل عبد الناصر بعد تأميم القناة، ويشبُّ مانديلا على أطراف أصابعه لعلَّ الزعيم يراه.
غربةٌ مزدوجةٌ ويُتمٌ مضاعف
الآن، ومع تواصل الحرب على غزة من أكتوبر الماضي، تؤدي المقاومة الفلسطينية الدور نفسه، تُلهِم وتُعلِّم، وتمنح العالم في الشرق والغرب فرصة التعبير عن آدميته. استعادة الضمير الشعبي العالمي احتاج إلى إبادة، محرقة يرتكبها ضحايا محرقة أوروبية، وقد سرى السم النازي في دمائهم. جريمة تُخرِج القضية من دائرة النخبة، كما حدث عام 2002، في حصار الصهاينة لياسر عرفات، حين زاره أعلام منهم النوبليان ووول سوينكا وجوزيه ساراماجو، والمخرج الأمريكي أوليفر ستون.
المرجعية الغربية سحرت عقولًا نيّئة لإعلاميين نصف أميين يتكلمون عن جائزة ما باعتبارها أوسكار السينما العربية
في الأدب والسينما فرض اللاتينيون أنفسهم على المشهد الإبداعي الإنساني، بتفرُّد تجاربهم وطرائق معالجتهم لقضايا محلية يشعر القارئ أنها تخصه شخصيًا. وبعد جبران خليل جبران وأم كلثوم ونجيب محفوظ ومجدي يعقوب، لا نقدم إلا نماذج استعراضية فولكلورية تشبه زمن زاهي حواس.
عقدة المركز عربية إذا تعلق الأمر بالغرب، ومغاربية فيما يخص مصر والشام. أما الخليج فلعل أمواله خلّصته من هذه العقدة. أتجاوز حساسيات المشهد العربي إلى المشهد العالمي، ويسهل تبديد أوهام العالمية التي يتخيلها من صادفه شيء من أضواء هذا المركز.
في الولايات المتحدة وأوروبا أقام كتاب ونقاد عرب بضعة أشهر، والبعض عاش سنينًا، وقليلون قضوا حياتهم هناك، أي أثر تركوه في المشهد الثقافي الإنساني؟ إدوارد سعيد استثناء يؤكد القاعدة.
المرجعية الغربية سحرت عقولًا نيّئةً لإعلاميين نصف أميين، يتكلمون عن جائزة ما باعتبارها أوسكار السينما العربية، ويصفون القاهرة بأنها هوليوود الشرق. وما كنت أودّ للمفكر والسياسي المغربي عبد الله العروي أن يصف مدينة أكادير في خواطر الصباح بأنها "كانت تلقب بنيس إفريقيا"، من دون انتقاد هذا التشبيه.
أبقى في المغرب قليلًا، وأستشهد بمحمد شكري الذي ألف ثلاثة كتب عن يوميات ثلاثة أدباء. أولهم الفرنسي جان جينيه، وتبلغ يوميات جان جنيه في طنجة أحد عشر شهرًا. واقتصرت يوميات الكاتب الأمريكي تينسي وليامز في طنجة على ثلاثة أسابيع. وما بين 1974 و1975 تدور يوميات بول بولز وعزلة طنجة، كما سجلها شكري عن الكاتب الأمريكي.
أتساءل: ألم يجذب كاتب أو شاعر عربي انتباه كاتب غربي؛ فيلازمه أيامًا وشهورًا، كي يكتب عنه كتابًا؟ مرة أخرى، يظل إدوارد سعيد استثناءً.
الشاعر المغربي عبد اللطيف اللعبي لا يعاني منفىً لغويًا؛ لإجادته العربية والفرنسية. وفي يومياته شاعر يمر يتساءل "كم من العقبات على طريق شاعر عربي يعيش خارج بلده ويكتب بلغة مستعارة. ويعمل على أن تترجم أعماله إلى العربية، ولا يندرج إبداعه، لكي تكتمل غرابة الأمر، ضمن أي من التقاليد، ولا في أي تيار للحداثة الأدبية شرقية كانت أم غربية"؟
يُتمٌ مضاعف. في الغرب يحسبونه عربيًا، وفي بلاده تكتمل غربته. وفي مصر وغيرها كثيرون يعانون غربة مزدوجة، بعد أن أذاقهم الغرب، عرَضًا، طعم "العالمية" أو وهمها. لا فرق.