
المَلكية.. هل تكون "المنقذ من الضلال" الجمهوري؟
في فيلم كتيبة الإعدام (1989)، تفشل محاولات رائد الشرطة في إثبات خيانة حسن عزّ الرجال/نور الشريف. مصري بريء قضى 14 عامًا في السجن، متهمًا بسرقة عُهدة من البنك خاصة بالجيش، خلال حصار جيش العدو الصهيوني للسويس. الرجل منبوذ، يلاحقه عار الخيانة، بإجماع يبدأ من زملائه في الزنزانة، ولا ينتهي بابنة شهيد تُحمِّله مسؤولية قتل أبيها وأخيها.
في تلك الحيرة، يوجِّه الرائد يوسف/ممدوح عبد العليم سؤالًا إلى ضابطة شابة عن "الاحتمال الوحيد" الذي لم يرِد بخاطرهم في هذه القضية. فتجيب بتلقائية: براءة حسن عزّ الرجال. إجابة فتحت آفاقًا للبحث عن الخائن، بدلًا من حصار أنفسهم في دائرة لا تتجاوزها أخيلتهم.
بالمنطق نفسه، يمكن تحرير الخيال، ترْكُه وشأنه فلا نقيّده بيقين، ألَّا نستبعد توقُّعًا واحدًا من ألف توقُّع. التجربة، ونحن في القاع، لا تكلِّفنا قاعًا آخرَ. قد نكتشف أن أبعد الأشياء أفضلها. ربما يغرينا نجاح المَلكية في طبعة جديدة، غير مسبوقة عربيًا، وقد أثبتت جدارتها في أوروبا والدول المتقدمة. فلماذا لا نفكر فيها؟ أليس ساكن القاع أكثر شجاعة وقدرة على المغامرة؛ لأنه لا يخشى سقوطًا جديدًا؟ فلنجرّب، مجرد تجربة للخروج من دائرة استبداد مزمنة، بعد حكم عسكري مباشر وغير مباشر.
ماذا لو فكرنا في نظام ملكي برلماني لا يمنح الملك أكثر من التاج، وبه ينتزع الشعب حقوقًا طبيعيةً في تداول السلطة؟
الطبعة الملكية المقترحة مزيدة ومنقّحة. ليس الملك إلا رمزًا. يكفيه تاج لا يقنع به رؤساء يريدون أن يكونوا أكثر ترؤسًا، مفْرطين في الترؤُّس، يملكون ويحكمون مثل ملوك عصور ما قبل الثورة الفرنسية. في ذلك العام، 1789، استطاع الشعب نزع القداسة عن الملوك والبابوات. استحقاق بالدم.
في العالم العربي، نجحت انقلابات عسكرية في إنهاء الاستعمار واحتلال الأوطان. ثم فشل الرهان على ثورات شعبية؛ لتواطؤ ملوك ما قبل الثورة الفرنسية وقوى الاستعمار الجديد. وازدادت الجمهوريات استبدادًا ونزوعًا إلى الملكيات القديمة. أما الملوك، في الملكيات الإنسانية، فيحوزون التاج ولا يطمحون إلى الحكم. حائز الأثر لا يستطيع التصرف فيه، مجرد حارس، بيته امتداد للمتحف.
مملكة مصر
المملكة المقترحة يمكن أن يكون اسمها "مصر". مفرد بصيغة الجمع. "اسم 'مصر' وحده يكفي"، كما قلتُ في المنصة عام 2024.
الملكيات السعيدة الرشيدة الراشدة لا يسبق اسمها، ولا يليه، وصف "مملكة". فالسويد وإسبانيا وهولندا وبلجيكا ملكيات أسماؤها رشيقة تُلخّصها كلمة. وتحتفظ "المملكة المتحدة" بصيغة ثنائية؛ وفاء لتقاليد تتمرد عليها صيغتا "إنجلترا" و"بريطانيا"، منذ قطع جمال عبد الناصر ذيل الأسد، واختفى وصف "العظمى" التالي لبريطانيا. وجربت الجمهورية في نزوة، جملة اعتراضية، عادت بعدها إلى الملكية.
ضاق الملك المستبد شارل الأول بالبرلمان، فألغاه عام 1628 لمدة 11 عامًا، واستدعاه عام 1639؛ للموافقة على تمويل الحرب ضد اسكتلندا.
كان البرلمان المُستدعى يحتفظ بحيويته. أزعج الملك، فأقدم بعد أسبوعين على حلّه. وعيّن عام 1640 برلمانًا آخر شهد الحرب الأهلية، التي انتهت عام 1648 باعتقال الملك. وفي يناير/كانون الثاني 1649 أُعدِم؛ وبدأ نظام أوليفر كرومويل الجمهوري بقمع أنصار الملكية، فقتل نحو ثلاثة آلاف عسكري ومدني أيرلندي، وجادل بأن الرب إلى جانبه. وسرعان ما انتهت الجمهورية بعودة الملك شارل الثاني في مايو/أيار 1660.
حملت جمهورية كرومويل بذور فنائها؛ لمحاولته الجمع بين مهام رجل الدين والسياسي. وكان الشاعر جون ميلتون من المتحمسين للجمهورية، وصار لسانها. حتى بعد فقْد بصره عام 1651، ظل يحرر النشرات والكتيبات دفاعًا عن الحكم الجمهوري.
في مقدمة ترجمة الفردوس المفقود، وصف محمد عناني الحكم الجمهوري بالقتامة والجهامة "ويكفي لتصوير معاناة الطبقات الفقيرة أن نذكر السلطة التي خوّلها كرومويل للشرطة وهي سلطة التأكد من التزام الأهالي بالتعاليم الدينية (كالصوم مثلًا) ولو اقتحموا البيوت لهذا الغرض، ومنع أي نشاط تجاري أو صناعي أو غيره يوم الأحد ومنع السير 'دونما هدف محدد' كأنما هو لون من ألوان اللهو، ولذلك لجأ الكثيرون إلى النفاق ونشأت عادات اجتماعية جديدة مثل ترديد الآيات من الكتاب المقدس في كل مناسبة، والتذكير بالبعث والحساب والعقاب، ومحاولة الانتصار في أي مناقشة بالرجوع إلى الكتاب المقدس باعتباره الكتاب الذي يتضمن فصل الخطاب في أي موضوع".
وباءُ التديّن، وليس الإيمان الذي محلّه القلب، أصاب دولًا فشلت ثوراتها، فانتكست وصار الحكم بلا ملامح، غير ملكي غير جمهوري، غير مدني غير عشائري، ليس دينيًا ولا عسكريًا. هو كل شيء ولا شيء. خليط عجيب من هذا كله.
بعد الخلاص من دستور الإخوان الطائفي 2012، استقوى اليمين الديني ممثلًا في السلفيين والأزهر بالحكم الهجين، ورفض أن ينص دستور 2014 على أن مصر "دولة مدنية". لم يحتمل الاصطلاح في ديباجة الدستور، وأصر على الاكتفاء بأن الدولة "حكومتها مدنية". من المساخر أن الجملة التالية تنص على أن هذا الدستور يغلق "الباب أمام أي فساد أو أي استبداد". وتحالف الفساد والاستبداد على تعديله.
العربي لا يرضى بلقب رئيس سابق لكنه لا يعترض على اللقب نفسه إذا اقترن برئاسة الوزراء
بعيدًا عن تعديلات ترسّخ الجمهوركية، عاد مجلس الشورى. العود مذموم، غير أحمد. هل يحتاج حكم نابليوني إلى تقنين يباركه مجلس الشورى؟ اسمه الجديد "مجلس الشيوخ". كان إلغاء مجلس الشورى من مكاسب الثورة؛ لأنه عبء على بلد لا ينتج خبزه.
بعد استقرار نسبي للحالة الثورية، بدأ التفكير في المستقبل، وتمدد ميدان التحرير، مساء الثلاثاء 8 فبراير/شباط 2011، إلى شارع مجلس الشعب، ورفعت لافتة "الشعب أسقط النظام" على بوابة مجلس الوزراء. هناك، في تلك الليلة، رأيتُ المستشار زكريا عبد العزيز الرئيس السابق لنادي القضاة يخطب في ميكروفون صغير عن مرحلة ما بعد الثورة، واستعرض إجراءات تفصيلية منها إلغاء مجلس الشورى، لعدم جدواه.
ما أسهل حل البرلمان
في المَلكية المقترحة لا مجال لارتجالات أو حماقات. تداوُل السلطة يكبح العنتريات. أي تجاوز مدفوع الثمن، ولو بالسجن بعد أقرب انتخابات. والملكيات تحفظ الكبرياء الكاذبة للحكام السابقين، فالعربي وارث جينات الاستعلاء لا يرضى بلقب رئيس سابق، لكنه لا يعترض على اللقب نفسه إذا اقترن برئاسة الوزراء.
هذا التصالح النفسي تتيحه الملكيات البرلمانية، أما الجمهوريات البرلمانية ففيها مجالات للطمع، هامش يفتح شهية رئيس جائع إلى امتلاك مفاتيح الملك والحكم، بتعديل الدستور؛ ليسمح بسلطة رئاسية كاملة كما في الحالة الإردوغانية. وبالاستبداد طويل العمر ينتهي الأمل في محاسبة يضمنها تداول سلمي لسلطة يمثلها حزب يفوز بالانتخابات، ويظل تحت اختبار الثقة حتى الانتخابات التالية.
لا حنين إطلاقًا إلى ملكية استبد فيها المَلِك بالمُلْك والحكم. لم تهنأ حكومة الوفد المنتخبة إلا بستة أعوام طوال نحو ثلاثين عامًا. ما أسهل حل البرلمان، وتعيين حكومة تابعة للقصر تعطل الدستور بقبضة محمد محمود، أو تصدر دستورًا استبداديًا كما فعل إسماعيل صدقي.
في عصر الليبرالية الشكلية الكاذبة يُمنع نشر كتاب. ويُعتقل كاتب. وتُغلق صحيفة؛ لنشرها قصيدة. ويُسجن فنان رسم لوحة "الجوع"، وتُصادر اللوحة، ويُلغى المعرض. لكن الاستبداد الملكي سمح بمحاسبة حكومة جديدة لأخرى سابقة، وبانتقاد قاس لحكومة حالية. نشر مكرم عبيد الكتاب الأسود في العهد الأسود عام 1943، متهمًا رئيس الوزراء الحاكم مصطفى النحاس بالفساد. كان فسادًا تافهًا مقارنة بالفساد الجمهوري المسلّح.
الاطمئنان إلى عدم المحاسبة يغري بالتمادي. المستبد يزيّن له خياله المريض أنه فوق البشر، وتبلغ به البارانويا درجة الاستكبار على أن يسائله الشعب، ويجادل بأن الله سيحاسبه في الآخرة، بمعنى أنه لن يتخلى عن الحكم الذي يتحصّن به. الاطمئنان بداية إفقار الشعب؛ ليظل مشغولًا بتأمين احتياجاته الأساسية، ويؤجل أشواقه إلى العدل والحرية. وبعد الإفقار يتمّ القهر والإذلال. حتى الضواري في الغابة تُشبع جوعها بافتراس الطرائد، وتخلو وحشيتها من السادية.
في تاريخ مصر، التي عانت احتلالًا متصلًا طوال 23 قرنًا، لحظتان من هذا الإذلال، كلتاهما أعقبت انكسار ثورة. الأولى في عهد الخليفة المأمون بعد ثورة البشموريين. والثانية بعد ثورة 25 يناير.
في صعود ثورة يناير بدا النظام البرلماني أقصى طموح الحالمين بالدولة. لا أقول "الدولة المدنية"؛ فإذا لم تكن مدنية فهي ليست دولة، إنما هي كيان عسكري، أو عسكري ديني، أو عسكري عشائري. وفي لحظة براءة، قبل استقواء الأجهزة، تضمّن دستور 2014 ألغامًا، وصيغًا توفيقيةً لمنحى شبه برلماني. متى خلا توفيق من تلفيق؟ الدستور، الذي لم يُختبر، امتدح ثورة تراها السلطة أصل الشرور، وتحمّلها خطايا كارهي الثورة، وأنصارها موزعون بغير عدل بين الاعتقال والمنفى والاكتئاب.
بعد خيبات أمل مزمنة في النظام الجمهوري، لماذا نتجاهل نجاح محققي فيلم "كتيبة الإعدام"، حين حرروا الخيال، وتمكنوا من الخائن؟ لعل المستقبل ينتصر للخيال.
مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.