شارك المفكر محمود أمين العالم بدايات 1965 في ندوة سينمائية نُشرت تفاصيلها في إحدى المجلات المصرية*، تحدث فيها عن الفرق بين حياة طبقة الأغنياء قبل 1952 والحياة في مصر الحديثة بعد 1952، فوصف حياة هذه الطبقة بأنها "مليئة بالسأم والفراغ"، أما حياة مصر الحديثة فهي "مليئة بالحب والإنسانية والعمل".
كان محمود أمين العالم وقتها خارجًا لتوّه، من سجون عبد الناصر بعد أن قضى فيها وزملاؤه أعوامًا، إلى مجتمع عبد الناصر المليء بالحب والإنسانية والعمل.
عن السياسة والاكتئاب
شاهدت قبل أسابيع حوارًا تليفزيونيًا مع حاكم أوروبي، أجاب فيه عن سؤال للمحاورة بشأن ما إذا أصيب بالاكتئاب من قبل، وهل لجأ للعلاج النفسي. قال إنه ذهب للطبيب النفسي خلال فترتين مختلفتين من حياته، وأكد على أهمية التعامل بعادية ودون خجل مع المرض النفسي، وأن للسياسي دورًا يلعبه في هذه المسألة، أن يكون مبادرًا في الحديث عنها، وأن يعمل على إتاحة إمكانيات حقيقية للعلاج لكل المواطنين.
أُعجبت بهذا السياسي في هذه اللحظة، رغم أني لا أميل إليه عادة، فقد لجأت بدوري للعلاج النفسي خلال فترتين مختلفتين من حياتي، ومن المحتمل جدًا أن يتكرر هذا. وإن كنا لا نتحمل المسؤولية السياسية التي يتحملها هو بحكم موقعه كحاكم في تحقيق حياة أفضل للمواطنين، وتوفير سبل العلاج الجيد والمجاني للمرضى منهم، فعلى الأقل علينا أن نتفق معه في ضرورة أن نكتب ونتحدث ونصنع أفلامًا تُخرج المرض النفسي من دائرة التابو، وألا ننكر دور الأزمات المجتمعية في انتشار الاكتئاب، وتدمير البعض تمامًا.
عاشت أوروبا جائحة كوفيد، وبعدها حرب أوكرانيا، بما أنتجتاه من أزمات اقتصادية، تزيد معدلات الإصابة بالاكتئاب وغيره من الأمراض النفسية، وارتفاع أرقام المنتحرين أيضًا. لكننا، إن نظرنا إلى جنوب المتوسط، سنجد حالتنا مختلفة، ففي بلادنا التي شهدت بداية من 2011 ثورات وانتفاضات وأنواعًا مختلفة من محاولات التغيير، قادتنا الهزيمة إلى كوارث نفسية وإنسانية أكثر عمومية وفداحة مما تعيشه بلدان شمال المتوسط التي ينتمي إليها هذا السياسي وغيره.
لا تقف الفاتورة السياسية في حالتنا عند حدود حديث الحاكم عن المرض النفسي والانتحار والاكتئاب، أو توفير ميزانيات للصحة النفسية، بل إن المسؤولية السياسية في حالتنا تقع مباشرة على الحكام، بتدميرهم لحياتنا تمامًا، بكل سياساتهم خلال أكثر من عشرة أعوام.
لم ننسَ حالات الانتحار الاحتجاجي علنًا في مصر قبل ثورة يناير، وأن ما قام به بوعزيزي التونسي كان احتجاجًا بانتحار مُشهر، كما طالعنا نماذج شبيهة في بلدان عربية أخرى، ليضاف إليها مشهد ما بعد 2011، من مذابح وسياسات ممنهجة للقمع والاعتقال والقتل والتشريد، وفشل اقتصادي وبطالة وفقر، وفساد معمم، وكل أشكال الدمار المجتمعي، بعد هزيمة أحلام كانت بحجم السماء.
سيكون طبيعيًا أمام واقعنا الحالي أن نصاب على الأقل بالاكتئاب، وسيكون عاديًا أن يسعى البعض إلى إنهاء حياتهم. وإن استرجعنا كلام السياسي الأوروبي عن مسؤولية الدولة في توفير العلاج النفسي لمواطنيها، سنضطر في الحالة المصرية لإضافة ملاحقة وتضييق السلطة على التجارب المجانية للعلاج، مثل مركز النديم لعلاج ضحايا العنف، وغياب فرص العلاج في المؤسسة الصحية الحكومية، وأسعار العلاج الخاص الفلكية، وتحول الطب النفسي لجزء من الشو التلفزيوني.
يشعر المواطن المعزول عن عملية الإنتاج الثقافي والفني، والفاقد للاهتمام بالسياسة والضجيج النخبوي والثقافي المعارض، بأنه في صحراء كئيبة يُشاركه فيها ملايين آخرين، لا يستطيع أيٌّ منهم أن يرى الآخر، أو يلمسه، أو يسمعه. فيتصور أن هذا الواقع هو قدرنا. لكن، ماذا عن المتابع أو المثقف أو الفنان الطامح في مجتمع أفضل له وللآخرين؟ هل يطالب السلطة السياسية وفقط بأن تدفع ثمن آلامه؟ أم سينظر لمن يشبهونه ويوصفون بالنخبة، ويطالبهم أيضًا بالحساب؟
في ظلال الستينيات
يُعلن عبد الناصر في 1958 نهاية المعركة مع الاستعمار وبدايتها مع الشيوعية. فتبدأ الأجهزة الأمنية في مطاردة الشيوعيين المصريين في حملات اعتقال وتعذيب جماعي متواصلة، وتضم أولى هذه الحملات الدكتور محمود أمين العالم. بعد خمسة أعوام، وبسبب ضغط عبد الناصر وأجهزته الأمنية وجهازه الأيديولوجي/الدعائي بقيادة محمد حسنين هيكل، تشارك بعض القيادات الشيوعية، من بينها محمود أمين العالم، في إدارة عملية حل التنظيمات الشيوعية، والدخول صاغرين أفرادًا إلى حزب عبد الناصر، الاتحاد الاشتراكي.
خرجت القيادات الداعية للحل والضاغطة باتجاهه، والموافقة عليه، من السجن ليتم تعيينهم في مناصب هامة داخل دولة عبد الناصر، وبالذات قطاعها الثقافي والإعلامي. أما آلاف الآخرين من غير القيادات، ومَنْ رفضوا قرار الحل، فقد خرجوا من السجون والمعتقلات ليدخلوا في مرحلة جديدة من العقاب؛ التشريد وقطع العيش.
إنكار مسؤولية السلطة بممارساتها عن اكتئابنا، وتحميل ذواتنا، هذه المسؤولية، سيكون انتهاكًا لذواتنا نفسها
محمود أمين العالم الذي بدأت معاناته في السجن فجر يوم الأول من يناير/كانون الثاني 1959، حين رأته الدولة عدوًا، يتحدث في المجلة عن مجتمع الحب والعمل والإنسانية، دون أن يوضح لماذا كان خارج هذا المجتمع طيلة خمسة أعوام. ألم يكن مُحبًّا؟ هل كان مفتقدًا للإنسانية والرغبة في العمل؟
لكن الأهم، هو كيف يتلقى زملاؤه كلماته، وهذا الجانب المرير من القصة. لنتخيل أحد آلاف العائدين من رحلة الاعتقال هذه، محرومًا من العودة إلى عمله لأنه يرفض منح السلطة التي عذبته وقتلت زملاءه صك السماح، وقد وجد بالمصادفة المجلة ليقرأ فيها كلمات زميل الزنزانة المجاورة، متحدثًا عن مجتمع الحب بعد أن عُيَّن في منصب ثقافي مرموق، وبدأ يتحول لمسؤول ثقافي شهير. أما هو، فيعاني ليوفر ثمن الخبز لأبنائه.
هل كان سيشعر بالحزن؟ هل كان ليكتئب؟
الستينيات في ظلال 2023
تنتشر صورٌ لحمدين صباحي بصحبة بشار الأسد مبتسمًا. لنتغاضى عما سيشعر به المنتمون لهذا التيار المسمى بالمؤتمر القومي العربي، ويقوده صباحي، سواء كانوا في مصر أو سوريا أو لبنان أو أي بلد آخر. لكن المواطن الذي شارك في الثورات العربية، التي كان حمدين صباحي من ضمن وجوهها اللامعة، كيف سيتلقى هذه الصور؟
لا إجابة عن السؤال، لكن العودة لتخيل حالة من قرأ كلمات محمود أمين العالم في المجلة، ستقدم واحدة.
هناك ورطة أكبر من مجرد تأمل الصور، تمثلت في بعض ردود الفعل عليها. سنجد أن السياسي المصري يقوم بهذه الزيارة متصورًا أنه يمثل قطاعات صامتة من الجماهير العربية، طالبته بها فاستمع لنبضها، بقدرة على تلمس مشاعرها ورغباتها، لأن صوتها ممنوع أصلًا. وعلى الناحية المقابلة، سنجد لدى من هاجموا صباحي التصور ذاته، بأن هناك جماهيرًا أخرى تقف وراءهم، تدفعهم للحديث باسمها رفضًا لهذه الزيارة.
على سبيل المثال، لم تخلُ تصريحات خالد داود التي نشرتها المنصة ضمن تقرير عن هذه الزيارة، من هذه الروح، فكلاهما يتحدثان تليفونيًا، أحدهما يرجو الآخر ألا يذهب لمقابلة بشار الأسد، والثاني يعده بالتفكير بينما هو في طريقه إلى هناك.
ولكن لنتوقف قليلًا أمام تعبير "الأحزاب الشعبية" الذي استخدمه داود خلال حديثه.
يُوصَف صباحي بالقيادي في الحركة المدنية الديمقراطية، ويُوصَف داود بالمتحدث الرسمي باسم هذه الحركة. يرفض داود خطوة صباحي، ويشير إلى أن الحركة منقسمة تجاه الزيارة. لكن السؤال الواقعي والضروري هنا هو التالي: هل هي "حركة" فعلًا؟ أم مجرد اجتماعات دورية لمجموعة من الأسماء المعروفة نسبيًا، أو الممثلة لأحزاب تفتقد العضوية والنشاط، بعد عشرة أعوام من تأميم المجال العام عسكريًا، تجمعت تحت يافطة "الحركة المدنية"؟
إن كتب الأكثر شهرة في هذا البلد مقالًا، أو بوست فيسبوك، سيقرؤه على أفضل تقدير بضعة آلاف. فما بالك بنخبة يشكلها أفراد معارضون، ومعزولون نتيجة بطش السلطة؟! ستكون الصورة أكثر سوادًا، لا يعالجها وصف داود لنفسه ولصباحي بأنهما يمثلان أحزابًا "شعبية".
غابت شعوب جنوب المتوسط، بقطاعاتها الغالبة، عن الجميع، سلطة ونخبة وأفرادًا معارضين، كنتيجة طبيعية لكل ما حدث خلال الأعوام الأخيرة. على من لا يتفق مع هذا التصور القيام بهذه التجربة: أن يقترب من أول مقهى، بلا مخبرين سعداء، يصادفه، ويسأل الجالسين والمكتئبين هناك عما إذا كانوا يحبون الحاكم، أو يعرفون شيئًا عن المعارضة.
إنكار مسؤولية السلطة بممارساتها عن اكتئابنا ومسؤوليتها عن دفع الفاتورة كاملة، وتحميل ذواتنا، أو أي قوى أخرى، هذه المسؤولية، سيكون انتهاكًا لذواتنا نفسها. لكن، ودون أي إدانة لأي أحد، من ضمن عوامل الحزن والاكتئاب متابعة صراعات وخلافات بعض القطاعات، وليس كلها، من هذه النخب المعزولة.
بعد عشرة أعوام يُصرح السياسي بأنه ليس نادمًا، وأنه لم يكن في الإمكان أفضل مما كان
تابع البعض ما يشبه الحوار بين خالد داود والحقوقي بهي الدين حسن، على المنصة أيضًا، حول مشاركة القوى المدنية والديمقراطية في أحداث 30 يونيو 2013، وماذا تفعل إن عادت عقارب الساعة للوراء، بالتزامن مع أخبار لا تنتهي، نتداولها في أوساطنا المختلفة، وكالعادة بتكتم، عن فلان الذي أنهى حياته وكان مثقفًا موهوبًا، أو فلانة التي تعاني من اكتئاب حاد.
لم يتحدث أيُّ منهما عن مجتمع الحب والعمل والإنسانية، لكن داود أشار عندما اشتبك مع تويتة لبهي الدين حسن، إلى وعود وأوراق قُرأت في السر، بين المؤسسة العسكرية من جهة، والبرادعي وجبهة الإنقاذ من جهة أخرى، قبل 30 يونيو، أكد الجيش أنه سينجز الدولة المدنية الديمقراطية، وكأنه سيقدمها هدية، وأنهم صدقوه.
لم يخبروننا أيامها بهذه الوعود، فالسرية ضرورية، وهم الأجدر باتخاذ القرار دون أن يختارهم أحد. وبعد عشرة أعوام يُصرح السياسي بأنه ليس نادمًا، وأنه لم يكن في الإمكان أفضل مما كان، وكأن تحليل اللحظات السياسية التاريخية الفارقة لا يتضمن البحث في توافيق وتباديل أخرى. ينطلق من رؤية شخصانية تعتمد على غياب أي عملية جادة للمراجعة والنقاش والنقد الذاتي، وغياب أي ميكانيزمات للتفاعل السياسي العام والمفتوح، بشفافية وديمقراطية، تضمن وجود "جماهير"، وأن يكون القرار قرارها، وأن تكون قادرة على محاسبة ممثليها وتغييرهم.
على الضفة الأخرى، نجد الحقوقي بهي الدين حسن في موقف النقيض، وبإطلاقية تصل لمستوى تمثله للحقيقة التاريخية في ذاته، يرد على داود ليحكم بأن "كل" القوى السياسية، بعد أن كان في بداية المقال يستخدم تعبير "أغلب"، سارت منومة مغناطيسيًا وراء الضباط الأحرار وورثتهم خلال سبعين عامًا، دون أن يقدم دليلًا واحدًا على هذا الحكم. فنتصور أن خالد داود عبارة عن ذات نموذجية تُعبر عن كل القوى السياسية التي انسحقت خلال سبعين عامًا، يرفضها بهي الدين حسن.
تبدو الأخلاقية المتجردة عند بعض النخب كنقيض للبراجماتية المستسلمة في المعسكر المضاد. إلا أن كليهما يتقابل عند نفس النقطة؛ ذات لنخبة تتصور أن هناك جماهير، أو على الأقل كتل جماهيرية، تتمثل فيهم كأشخاص.
أما الشعب، بما فيه مثقفوه وفنانوه، فهم هناك، بعيدون، يعانون من الاكتئاب، أو من الرغبة في أن تنتهي هذه الحياة. أو يتابعون بأملٍ هش مغامرة شاب طامح للرئاسة، بعد أن تابعوا قبله مغامرة ائتلاف الأمل التي انتهت بعناصرها للسجن. والبعض الآخر يتساءلون بلا إجابة: إن عشنا ربيعًا جديدًا، هل سيتصدر الواجهة من أخفقوا في الربيع السابق؟ أم آخرون يحاولون جديًا أن يفتحوا ثقبًا جديدًا يدخل منه بعض النور والهواء، دون أن يتصوروا أنهم نخبة؟
**مجلة الكواكب في مارس/آذار 1965، والفيلم المقصود هو "فجر يوم جديد" ليوسف شاهين، الذي تناولته في مقال سابق مع إشارة عابرة لهذه الندوة.