يختلف المسار التاريخي السياسي لتونس عن مصر منذ الخمسينيات؛ دولة أسس جمهوريتها عام 1956 المدني المحامي الحبيب بورقيبة وظل يحكمها لثلاثين سنة حتى أخذها منه ضابط الشرطة زين العابدين بن علي الذي أطاح الشعب بحكمه البوليسي عام 2011… يختلف مسارها عن جمهورية أسسها عام 1953 ضباط جيش تداولوا الحكم فيما بينهم بالعنف والموت فقط حتى تقاطعت مسيرة الشعبين في يناير 2011 حين أطاح المصريون بالمثل برئيسهم الثلاثيني الحكم: مبارك!
لكنه تقاطع تاريخي لم يدم حراكه الشعبي في مصر أكثر من عامين ونصف العام ثم عادت القوات المسلحة إلى "إدارة شؤون البلاد" لتضع دستورًا مع قطاع من الشعب، من دون التيار السياسي الإسلامي الذي حاول الاستئثار وحده بالسلطتين التنفيذية والتشريعية.
كان دستورًا توافقيًا لعام 2014 يُفترض أن يفصل بين السلطات ويوزّع السلطة التنفيذية بين رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء، ويحدِّد فترة الرئاسة بمرتين لايتجاوز مجموعهما ثماني سنوات، ويحد من تدخل السلطة التنفيذية في التعيينات القضائية وصلاحياتها.
وبالتالي، لم تعطّل أي مؤسسة خطط ومشاريع الرئيس في التشييد أو التسليح أو الاقتراض!
بيد أن رئيس الجمهورية استحوذ على كل السلطات، بما فيها اختيار وتعيين المشرعين والقضاة، واعتبر من وضعوا هذا الدستور كانوا "حسني النية" التي قد تعني سذجًا أو غير مدركين للعواقب، وبالتالي أُدخلت تعديلات عام 2019 بزيادة فترات حكمه شخصيًا دون غيره، وتعيين القضاة بمن فيهم رئيس المحكمة الدستورية العليا، بغض النظر عن أقدميته!
وبالتالي، لم تعطّل أي مؤسسة خطط ومشاريع الرئيس في التشييد أو التسليح أو الاقتراض!
بينما قنع الإسلاميون في تونس من خلال دستورهم التوافقي لعام 2014 بالسلطة التشريعية التي تحدد بالمثل رئيس الوزراء الذي يتقاسم بدوره مع رئيس الجمهورية السلطة التنفيذية، ودون تدخل المؤسستين في عمل السلطة القضائية.
لكن توازن السلطات الثلاث دون استئثار السلطة التنفيذية بالحكم عطّل سرعة وحركة عجلة الاقتصاد والسياسة لتحقيق مطالب الشعب التونسي وتحسين أوضاعه، خصوصا بعد أزمة وباء الكورونا مما فتح الطريق في يوليو/ تموز من العام الماضي لانقلاب على الدستور قام به أستاذ القانون قيس سعيّد بعد توليه رئاسة الجمهورية، فعطّل عمل البرلمان ثم حلّه واستأثر بالسلطة التنفيذية والتشريعية بإصدار فرمانات ثم عزل القضاة المختلفين مع توجهه والحريصين على استقلالية أحكامهم.
عادت مسيرتا البلدين تتقاطعان منذ شهور قليلة، مع شدة الأزمة الاقتصادية العالمية وضغوط أمريكا والغرب لإجراء إصلاحات سياسية من أجل الموافقة على دعم الصندوق الدولي والمؤسسات المالية العالمية لمساعدة البلدين اقتصاديًا، وتخفيف التوتر السياسي بتشجيع حوار وطني بين الحكومة والمعارضة، خصوصًا مع وجود إدارة ديمقراطية بواشنطن تتحرج أمام قطاع من ناخبيها الشباب التقدمي من دعم أنظمة، تتفق مصالح الدولة الأمريكية مع سياساتها الإقليمية والخارجية ولكن يختلف الإعلام الأمريكي مع سياساتها الداخلية تجاه شعوبها، إذ تبدو مناقضة لشعارات الديمقراطيين في حملاتهم الانتخابية!
ومثلما سبقت تونس بثورتها الشعبية مصر بشهر في ديسمبر/ كانون الأول 2011، حاول الرئيس التونسي سعيّد امتصاص الغضب الشعبي والدولي لإطاحته بحكم دستوري دون تقديم بديل أو حلول للمصاعب التي مرت بها البلاد، أعلن في ديسمبر 2021 عن خارطة طريق تبدأ بمشاركة شعبية إلكترونية لمعرفة ما يعانيه المواطن التونسي من مشاكل وما يريده من حلول في العديد من المجالات، ثم يتلو تجميع الاقتراحات في النصف الأول من عام 2022 خطة تحرك للجمهورية الجديدة يتم استفتاء الشعب عليها في 25 يوليو (ذكرى إطاحته بالحياة الدستورية) ثم تُعقد انتخابات برلمانية في ديسمبر من العام نفسه.
بدأت "الاستشارة الوطنية الإلكترونية" في ديسمبر بالشباب وأصبحت عامة لكل المواطنين للمشاركة بالرأي والمقترحات عبر موقع الكتروني من يناير الماضي بهدف "تعزيز مشاركة المواطنين في عملية التحول الديمقراطي"! وقتها رفض الرئيس التونسي مشاركة الأحزاب السياسية، باعتبار أن التيار السياسي الإسلامي ممثلا في حركة النهضة خصمه الأول واعتبره المسؤول عن أزمة البلاد.
في مصر، ومساء السادس والعشرين من أبريل الماضي دعا الرئيس عبد الفتاح السيسي خلال حفل "إفطار الأسرة المصرية" إلى حوار وطني مع كل القوى السياسية "بدون استثناء أو تمييز" على حد تعبيره وقتها. كما دعا إلى تفعيل لجنة العفو الرئاسي للإفراج عن السجناء (السياسيين) التي كانت تشكلت قبل سنوات من خلال مؤتمر للشباب ثم انفك عقدها، مؤكدًا هذه المرة على أن "الوطن يتسع للجميع.. وأن الاختلاف في الرأي لا يفسد للوطن قضية".
المفارقة، بين الحوار المصري والتونسي "من أجل جمهورية جديدة" أن اللجنة الوطنية التي شكلها الرئيس التونسي للحوار الوطني وجدت أن نسبة المشاركة الشعبية في الاستشارة الإلكترونية ضئيلة.
لكنه عاد منذ يومين وقبيل بدء الجلسة الأولى لمجلس أمناء الحوار الوطني "باستثناء فصيل واحد" من الحوار، وهم الإخوان المسلمون. ومثلما بدأ الحوار في تونس باستطلاع آراء الشباب أولا من خلال دورهم، كلف الرئيس إدارة المؤتمر الوطني للشباب (من خلال الأكاديمية الوطنية للتدريب) بالتنسيق مع كافة التيارات السياسية الحزبية والشبابية لإدارة حوار سياسي حول أولويات العمل الوطني!
المفارقة، بين الحوار المصري والتونسي "من أجل جمهورية جديدة" أن اللجنة الوطنية التي شكلها الرئيس التونسي للحوار الوطني وجدت أن نسبة المشاركة الشعبية في الاستشارة الإلكترونية ضئيلة ولا تكفي للتعبير عن إرادة الشعب، فقد بلغ عدد استمارات الذين شاركوا بالرأي عبر الرسائل الالكترونية نحو 270 ألف استمارة خلال شهرين من الدعوة للحوار، وهو أقل من 7% من الناخبين.
بينما في مصر، صرح رئيس الأمانة الفنية للحوار الوطني في الجلسة الأولى الثلاثاء لمجلس الأمناء، أنه من خلال الأكاديمية الوطنية للتدريب تم فتح باب تسجيل إلكتروني للمواطنين لإبداء الرأي من خلال استمارة للطلبات والمقترحات، وأوضح باعتزاز أن "الرقم كان مفاجئًا" إذ بلغ عدد الاستمارات التي تم تسجيلها 96 ألفًا و533 استمارة حتى الآن، وهو ما يعكس "تفاعلًا وتجاوبًا حقيقيًا"!
في تونس، حين لم تقتنع القوى السياسية والعالم بجدية الاستشارة الإلكترونية، ودعا الاتحاد التونسي للشغل (اتحاد العمال) في يوم عيد العمال، أول مايو، الرئيس سعيّد بضرورة إجراء حوار وطني، كما انتقد وزير الخارجية الأمريكي تباطؤ خطى الإصلاح السياسي في تونس وربط ذلك بدعم واشنطن لمساعدة تونس اقتصاديا، واصفا الحوار الوطني "بقارب النجاة الوحيد".. أعلن قيس سعيّد عن تشكيل "اللجنة الوطنية لتأسيس جمهورية جديدة" وأعلنت الرئاسة التونسية أن اللجنة ستنقسم إلى لجنتين فرعيتين، إحداهما للإصلاحات الدستورية والسياسية، والثانية للإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية".
وكلف الرئيس لجنة بوضع مسودة لدستور جديد يتم استفتاء الشعب عليه في الخامس والعشرين من شهر يوليو الحالي بينما تُجرى الانتخابات التشريعية لبرلمان جديد في ديسمبر القادم.
يوم الأحد الماضي، وبعد أسبوع من تسليم الرئيس مسودة مقترحة للدستور بدل دستور 2014 قدمها رئيس لجنة صياغة الدستور الصادق بلعيد، وهو أستاذ قانون دستوري، كان ينتقده البعض لسنوات من قبل بدعوى ممالأة السلطة. لكنه خرج منتقدًا الصيغة التي نشرها الرئيس وطرحها للاستفتاء مؤكدًا أن الدستور النهائي المنشور لا يمت بصلة للنسخة التي قدمتها اللجنة. ووصف بلعيد ما نشره الرئيس بأنه يحتوي على مخاطر ومطبات جسيمة من مسؤوليته التنديد بها، ومن أهمها "طمر وتشويه الهوية التونسية"، وتمهد الطريق "لنظام ديكتاتوري".. إذ حاول الرئيس سعيّد في المقترح الدستوري تجميع السلطات بيده بما فيها تعيين القضاة، بل وحق الرئيس في البقاء بعد نهاية فترتين للرئاسة مدة كل منها خمس سنوات، لو وجد أن هناك خطرًا داهمًا يهدد أمن البلاد!
لكن أحدًا منهم لم يوضح إن كان يريد إلغاء التعديلات التي حدثت لهذا الدستور، بمد فترتي حكم الرئيس بعد انتخابه؟
وسط هذه الضجة، وعدم قبول الشخصيات الوطنية التونسية لمحاولته الاستئثار بالسلطة، رغم عدم اعتراضهم في البداية على تعطيله للحياة الدستورية، اضطُر قيس سعيّد عن الإعلان عن استعداده توسيع الحوار الوطني ليشمل الاحزاب الرئيسية، أي فتح المجال أ مام حركة النهضة الإسلامية.
في الحوار الوطني المصري، لم يكتف أحد أعضاء مجلس أمناء الحوار الوطني المُعين باستبعاد الرئيس لـ"فصيل واحد" من الحوار، أي الاخوان المسلمون، بل طالب أستاذ الاقتصاد الدكتور جودة عبد الخالق بألا يُسمح بمشاركة كل من يخلط الدين بالسياسة.
المرجعية التي يريدها في مصر أمناء الحوار الوطني "من أجل جمهورية جديدة" كانت العودة إلى الدستور الذي وضعوه وحدهم عام 2014 مع ائتلاف 30 يونيو عام 2013 كمرجعية للحكم.. أي "دولة مدنية ديمقراطية حديثة". لكن أحدًا منهم لم يوضح إن كان يريد إلغاء التعديلات التي حدثت لهذا الدستور، بمد فترتي حكم الرئيس بعد انتخابه؟ والتي يُفترض أن الفترتين انتهيتا منذ أسبوع وقبل أن يبدأ هذا الحوار… لجمهورية جديدة، يُفترض أنها ستختلف عن جمهورية ضباط 1952.