تصميم سيف الدين أحمد، المنصة، 2025
صنع الله إبراهيم حضور قوي جاذب للعين، وتطوير للشكل الإبداعي. واستجابة حيوية لعواصف التحولات.

لعبة المصائر.. رواية لم يكتبها صنع الله إبراهيم

منشور الأربعاء 22 تشرين الأول/أكتوبر 2025

أول من نبهني إلى غيرة جيل الستينيات من صنع الله إبراهيم كان رجاء النقّاش. كنت طالبًا في كلية الإعلام، أريد معرفة من جذبتني أعمالهم. انصرفتُ عن البعض؛ لتناقض السلوك مع الكتابة التي وثّقَت علاقتي بآخرين. وتبنّيتُ مظلوميات البعض من غياب النقد.

عبد الحكيم قاسم الوحيد الذي امتدح النقاد. في بيته، قال لي إنهم شموس الحياة الأدبية، وأشاد بعبد المحسن طه بدر ورجاء النقّاش الذي قابلته بوصفي كاتب قصة قصيرة، وحدَّثته عن غضب أدباء الستينيات من النقاد، فاستشهد بصنع الله المترفع، المخلص لمشروعه، ومن ثمار دأبه كتاب محمود أمين العالم "ثلاثية الرفض والهزيمة". قال النقاش إن حفاوة النقاد بصنع الله جعلتهم يحقدون عليه، وهو لا ينافسهم في شيء، كدت أقول "لا يراهم".

نجح الأوغاد. في زمنٍ يُخرج أسوأ ما في النفوس حاصروا صنع الله بالصمت؛ لأنه قال "لا" قبل صفعة جائزة ملتقى القاهرة للرواية. رفض الاحتفال بالغزو الفرنسي لمصر. الرافضون آلمهم الاحتفال بغزاة قتلوا نحو ثلاثمائة ألف مصري، ونهبوا ما استطاعوا حمْله من الآثار، حين أجبرتهم المقاومة على الرحيل.

لغة خلفها غليان مكبوت

كانت وزراة الثقافة قررت، عام 1997، تشكيل لجنة لإعداد احتفالية كبرى، بمناسبة مرور مائتَي عام على قدوم نابليون. من المساخر أن يتحمس الوزير فاروق حسني، متشجعًا بمثقِّفيه ومثقَّفيه وراغبي الانضمام إلى الحظيرة، للاحتفال بالغزو، بحجة متهافتة تسوّغه باقتران المطبعة بالمدفع. وتغافل حرْص الغزاة على أخذ أدوات تحديث جاءوا بها لتأسيس مشروع استعماري يشمل فلسطين أيضًا، لولا بسالة المقاومة.

من دون أبناء جيله، امتاز صنع الله إبراهيم بثلاث صفات؛ حضور قوي جاذب للعين وللكاميرا، وهذه هبة إلهية. وتطوير الشكل الإبداعي بقفزات وحلول فنية تتسم بالجسارة. وحيوية الاستجابة لعواصف التحولات، بأعمال أعتبرها شهادة إبداعية وتأريخًا جماليًّا لنحو مائتَي سنة.

الاهتمام بأعمال صنع الله الأولى وإهمال الأخيرة يعكس الفرح بالتجريب الإبداعي

في رأسه قادوس يطحن أسئلةً وأساطيرَ وأباطيلَ وحقائقَ ومعلوماتٍ وقصاصاتٍ وصراعاتٍ وانكساراتٍ وأمنياتٍ وقراءاتٍ ومشاهداتٍ. في ثلاثين عامًا (1966 - 1997) نشر 6 روايات. وفي عشرين عامًا (2000 - 2020) نشر تسعًا، منها رواية 67 التي صدرت عام 2017، وكتبها عام 1968. كما نشر في العشرين سنةً الأخيرة كتابين مهمين يوميات الواحات 2005، والنيل مآسي 2016.

المقارنة بين الاهتمام بأعماله الأولى وإهمال الأخيرة يعكس الفرح بالتجريب الإبداعي في سياق عمومي ينشد التغيير، وانطفاء أملٍ شجعه على نشر "67"؛ بعد انكسار ثورة 25 يناير التي "أسفرت، رغم فشلها في تحقيق أهدافها، عن نتيجة فورية وهي اتساع مساحة التعبير بشكل غير مسبوق"، كما كتب في مقدمة الرواية.

ثم تغيَّر الخطاب من "اتساع مساحة التعبير" إلى ضيق المعتقلات، ففي تسلمه "جائزة الشعب" عام 2018 حيَّا ذكرى الثورة "المجيدة"، وتمنى لو شاركه سعادته بالجائزة "مَن يتواجدون الآن خلف القضبان".

من أعماله المظلومة كتابا "النيل مآسي" و"يوميات الواحات". الأول رحلة استكشافية لمنابع النيل، عام 1994. كان مشروع سيناريو فيلم تسجيلي. في الرحلة لا ينسى الكاتب انتماءه والْتزامه. هل يعي الجيل الجديد دلالة اصطلاح "الالتزام" في الأدب؟ على سبيل المثال، يرصد التحول من صيد الفيلة إلى صيد البشر. لصناعة كرات لعبة البلياردو، تحتم إسقاط أضخم الحيوانات. ناباه ينتجان ثماني أو عشر كرات.

قضت الدراما أن عدوى الصيد تصيب الإنسان، باكتشاف تاجر لئيم للخرز الزجاجي للمقايضة، "وقدم للسوداني السعيد خمسَ حبات كبيرة مقابل الناب الواحد". نفد العاج فقايض بالبشر. وبين عامَي 1840 و1860 بيع 60 ألف رجل سنويًّا، فضلًا عمن تساقطوا موتى في الطريق. "وتم كل ذلك بمباركة الكنيسة الأوروبية، وورثة الثورة الفرنسية. في السودان نفسه كانت الأديرة القبطية تعيش على إعداد الخصيان؛ ليلتحقوا بخدمة أثرياء المسلمين".

كان "الصبية السود يوسدون الرمال، ثم يتم خصيهم بضربة سكين، ويوقف النزيف الناشئ بالحديد المصهور. هكذا جُرِّدت القارة 'المظلمة' من قوة العمل التي كانت كفيلة بتنميتها".

يكتب بإيقاع روائي ينأى عن الجمل الإنشائية الاستنكارية. خلف التبريد المراوغ للغة غليان مكبوت. وفي "يوميات الواحات" حياد ينتظر كاتبًا يصوغ رواية لم يكتبها صنع الله. الهوامش تمثل نصف الكتاب، وتكاد تكون كتابًا مستقلًا يمد الخيوط إلى نهاياتها، من معتقل الواحات إلى القاهرة وباريس وغيرهما، متتبعًا مصائر رجال اختلف فيهم الرأي. وهنا أتوقف أمام مصريين أطاحتهم رياح التغيير، فانقلبوا إلى المعسكر الآخر.

تحولات الرفاق

الروائي صنع الله إبراهيم

في عام 1954 كان صنع الله طالبًا في كلية الحقوق بجامعة القاهرة، انتقل من التظاهر إلى الفعل المنظم بالانضمام إلى الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني "حدتو".

وفي عام 1956 انتقل من العمل السري إلى الجماهيري، وهي "عملية شاقة للغاية بسبب شخصيتي الانطوائية". واستطاع إقامة علاقة جيدة مع فلاحين في بولاق الدكرور، ومع الضابطين فتح الله رفعت وجمال الليثي الذي أسرّ إليه بأن حلم حياته أن يحول قصص أرسين لوبين إلى أفلام. هو نفسه الليثي، من ضابط في هيئة التحرير إلى منتج سينمائي، بدأ بمشاركة رمسيس نجيب في الإنتاج، "مقابل تسهيل تصوير ثلاثية إسماعيل ياسين"، في الجيش والأسطول والطيران.

ثم في عام 1956، كتب صنع الله في مجلة "الهدف" عرضًا لكتاب "ثورة الجزائر" لعلي الشلقاني. في الهوامش يذكر انقسام حركة حدتو تنظيميًا عام 1948، إلى مجموعة هنري كورييل، وتيار آخر من رموزه لطيفة الزيات وإنجي أفلاطون وعلي الشلقاني "الذي صار في الثمانينيات والتسعينيات من نجوم التطبيع مع إسرائيل وتولى مكتبه للمحاماة الدفاع عن مصالح الشركات الاحتكارية العالمية".

في الكتاب يرد اسم لطفي الخولي مرة واحدة، بخروجه من المعتقل عام 1961. الخولي تولى، في عهد جمال عبد الناصر، رئاسة تحرير مجلة الطليعة. ثم استهوته "مدرسة السادات السياسية". وفي نهاية 1996 أسس مع الشلقاني وآخرين جمعية القاهرة للسلام، المعروفة بجماعة كوبنهاجن.

وفي رثاء الشلقاني، كتب عبد المنعم سعيد في المصري اليوم في يونيو/حزيران 2007، مقالًا عنوانه "علي الشلقاني: معنى أن تكون تقدميًّا!". لا أفهم دلالة علامة التعجب. ولا أجد نسخة من كتاب الشلقاني، ولا تتيح الإنترنت إلا الغلاف، لعله تواطؤ إلكتروني يمحو التاريخ الماركسي لرجل انتهى على الضفة الأخرى.

أما عبد الستار الطويلة، فيرد اسمه مرة واحدة. أسس "وكالة أنباء السجن" (واس) التي تجمع أخبارًا من عدة مصادر، ثم تذيعها في ردهات العنابر. بخلاف التعذيب، كاد الطويلة يموت في الطريق إلى السجن، وخرج عام 1964. وبدا أنه غفر لعبد الناصر. ثم أيّد سياسات السادات، ودافع عن "السلام" مع إسرائيل، ورأى أنه كشف "أزمة اليسار المصري".

ولصلاح حافظ، زميل يوسف إدريس في كلية الطب، قصة. انضم كلاهما إلى حدتو عام 1951. كان صلاح يكتب مقالًا أسبوعيًّا عنوانه "انتصار الحياة"، في مجلة روزاليوسف. وفي عام 1954 دعاه صنع الله إبراهيم إلى ندوة نظمها طلاب كلية الحقوق، وتوثقت علاقته به. زاره في بيته، وتعرف إلى زوجته الممثلة الشابة هدى زكي، ابنة الممثل أنور زكي.

نجح مصطفى وعلي أمين في ضم صلاح إلى "أخبار اليوم"؛ ليصوغ موضوعاتها بأسلوبه الشائق "دون ذكر اسمه". بدأ "بمبلغ ضخم" قدره 60 جنيهًا شهريًّا. وقُبض عليه في حملة شملت القيادة السرية للتنظيم، ونشرت صحيفة الجمهورية خبرًا عنوانه "القبض على طالب الطب الذي يشتغل بالصحافة". وحُكم عليه بعشر سنوات قضاها كاملة.

في السجن أخرج عروضًا تنتمي إلى خيال الظل في طرقة العنبر، واختار صنع الله مساعدًا له. وقدم مسرحيات مصرية وعالمية. ووافقت إدارة السجن على أن يبني مسرحًا في حوش السجن. وكتب في السجن قصصًا ومسرحية "الخبز" وروايتَي "الترحيلة" و"المتمردون" التي حولها توفيق صالح إلى فيلم عرض عام 1968. أُفرج عن صلاح حافظ عام 1963. والتحق بأخبار اليوم، وأثارت إحدى قصصه التساؤلات، عن تلاميذ مدرسة يعاقبهم الناظر القاسي، ويتبين لهم أنه "يهدف إلى مصلحتهم!".

يسجل صنع الله دور زوجة صلاح في دعمه نفسيًّا. انتظمت رسائلها حتى اللحظة الأخيرة، وتبدأ بعبارة "زوجي العظيم". وعقب الخروج "تعرض لهزة نفسية عنيفة، المدة التي فصلت بينهما جسديًّا خلقت مشاكل كثيرة عسيرة الحل"، فانغمس في العمل. يمكن قراءة هذه الحالة في ضوء مصير مشابه وثقه بسام مرتضى في فيلم أبو زعبل 89.

من الشيوعية إلى دعم سياسات السادات، تحولٌ عاصف لصلاح حافظ الذي تولى رئاسة تحرير روزاليوسف بعد انتفاضة الخبز، يناير 1977. ثم اشترك في تأسيس صحيفة "الأهالي"، وتولى رئاسة مجلس التحرير، وانسحب بعد العدد الأول، في فبراير 1978؛ بسبب معارضة حزب التجمع زيارة السادات للقدس. قال إن الرئيس يتصل به يوميًّا؛ فلا يستطيع أن يكون "ذا وجهين، فقد توازنه تمامًا وتولى الإشراف على تحرير المجلة النسائية التي أصدرتها من روما سميرة خاشقجي، شقيقة تاجر السلاح السعودي الشهير وأحد مهندسي الخطط الأمريكية للمنطقة العربية".

لم يكتب صنع الله إبراهيم سيرته، وإن أشار إلى التغير المتسارع في شخصيته، بسبب تراكم خبرات منها التعذيب "والاحتكاك المباشر برجال كانوا بالنسبة إليّ في مصاف الأبطال، ثم تبيَّنتُ أنهم بشر مثلي لهم عيوبهم".

 كما لم يكتب رواية التحولات. لعبة المصائر تنتظر كاتبًا بارعًا في التحليل النفسي.

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.